

وليد طوغان
قلب المتوسط الصلب
ما زالت أصداء زيارة الرئيس ماكرون تتردد فى العالم وفى فرنسا.
صحف باريس ما زالت تتجاذب للآن أطراف حديث يؤصل نتائج الزيارة وآثارها. الأثر ممتد من باريس للقاهرة، لأفريقيا، ومن أفريقيا لآسيا، ومن آسيا يمتد الخط على استقامته نحو الغرب.. حيث الولايات المتحدة.
الـ«لوفيجارو» تكلمت مثلًا عن «كتلة نشطة مؤثرة جديدة بالمتوسط».
مصطلح «الكتلة النشطة فى المتوسط» كثر فى الصحافة الأوروبية الفترة الأخيرة.
وجهة النظر تقول إن اللحظة العالمية فارقة الآن فى تلك المرحلة من تاريخ العالم. هناك تحولات خطيرة وخطرة تستشعرها أوروبا وتستشعرها أفريقيا ويستشعرها العرب نحو القضية الفلسطينية.
تحولات خطيرة وخطرة تستشعرها أوروبا فى علاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية نحو مسألة الحرب الأوكرانية الروسية.
وإذا كان العرب يستشعرون الخطورة غير المسبوقة على المسألة الفلسطينية، وسط أحداث ضاغطة لم تلم بالقضية منذ عام 48، برزت فيها دعوات للتهجير لها آثارها شديدة الخطورة على الوضع على أصعدته المختلفة، فإن أوروبا، وفى القلب منها فرنسا تستشعر خطرًا مماثلاً فى مستقبل العلاقات مع الولايات المتحدة، وبين الولايات المتحدة وآسيا خصوصًا فيما يتعلق بالسياسات الأمريكية نحو المسألة الأوكرانية.
العلاقات على جانبى الأطلسى ضربتها معضلة ثقة شديدة بعد وصول الرئيس الأمريكى الجديد.
وهى نفس أزمة الثقة التي اعترت العلاقات العربية الأمريكية، مع إدارة أمريكية جديدة، لم تر فارقًا فى المعادلات بين الأوراق التي توضع على موائد السياسة لتحديد مصائر الشعوب، وبين الأوراق التي توضع على موائد التجارة والصفقات العقارية.
دخلت أوروبا مع الولايات المتحدة مرحلة قلق غير مسبوق، لم يشهده الجانبان منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، فى الوقت الذي دخلت فيه العلاقات العربية الأمريكية مرحلة أخرى غطى فيها الضباب الطرقات، ووقفت فيها مصر، كالمعتاد تحذر من مغبة أى مسالك غير شرعية وغير قانونية وغير أخلاقية.
لم تكتف القاهرة بالتحذير، إنما -وكعادتها أيضًا- خطت خطوات شجاعة قوية معلنة أنها لن تسمح بما يمكن أن يضع على الفلسطينيين ظلمًا بعد ظلم.. ولا ما يغلف القضية من زورٍ بعد زور.
(1)
تكلمت الصحف الأوروبية عن تلك الأوقات الاستثنائية التي تعيشها أوروبا وتحياها القضايا العربية على رأسها المسألة الفلسطينية.
جاء الحديث عن «كتلة المتوسط» مقصودًا به أهمية ترفيع العلاقات على جانبى البحر الأبيض، توحيدًا لوجهات النظر فى القضايا الكبرى أو القضايا الأهم، وتلافيًا للأزمات الوجودية التي تلم بالعلاقات بين العرب والولايات المتحدة، وبين الولايات المتحدة ودول أوروبا فى غرب وشمال المتوسط.
فى عهود سابقة، كانت أوروبا قد حسمت تموضعها بين شرق العالم وغربه بالاستقرار فى ركاب القيادة الأمريكية بعد فترة قصيرة من انتهاء الحرب العالمية الثانية.
أوروبا الآن فى مرحلة جديدة فى توجهاتها نحو العلاقات الأمريكية.
المعضلة ليست فى المسألة الأوكرانية، ونظرة واشنطن الجديدة لها. وهى ليست فى الدهشة الأوروبية من التغيرات الكاملة فى سياسات الولايات المتحدة نحو أوروبا ودعمها ضد روسيا.
المسألة فى التباين الحاد فى سياسات بدأتها واشنطن، تنافرت فيها الإرادة على جانبى الأطلسى، حيث ذهبت الولايات المتحدة إلى حيث لا يريد الأوروبيون.. تمامًا كما كان أن حاولت واشنطن الدفع بالمسألة الفلسطينية إلى حيث لا يريد العرب.. ولا تريد مصر.
فتح هذا الوضع مزيدًا من أبواب المساحات لتعزيز تقارب عربى أوروبى، مصري فرنسى وفى خلفياته تأكيد للأبعاد العميقة الإيجابية فى العلاقات العربية الأوروبية.
برز العالم العربى كخيار أول لأوروبا، فى وقت مدت فيها مصر يدها بإرث ثقافى وحضارى لفرنسا، على اعتبار أن أوروبا هى الأخرى خيار مهم للعالم العربى، فى تكتل يمكن من خلاله إحداث التوازن فى الأمور، وإلى أجواء تدعم وجهة النظر العربية فى الحلول المطروحة للقضايا فى الإقليم وفى المنطقة وفى العالم. والأهم الحلول المطروحة للقضية الفلسطينية، دون غض النظر عن اعتبار أنه لا حلول إلا الحلول الشرعية القانونية.. الإنسانية.
تكلم المراقبون عن توازن عادل يمكن أن تحدثه كتلة المتوسط الصلبة، مع قدرة تلك الكتلة على ترجيح الحلول الناجزة لأى من القضايا الأخرى العالقة، وسط تباينات غير مسبوقة وغير معتادة ألمت بسياسات الإدارة الجديدة للبيت الأبيض.
(2)
الزيارة تاريخية بالمعنى والمفهوم وتاريخية من حيث الدلالة والآثار.
منذ لحظتها الأولى، تخللت الزيارة أحداث غير مسبوقة وغير معتادة، بدأها ماكرون نفسه بتغريدة على موقع إكس مصحوبة بمقطع فيديو لطائرات الرافال الحربية التي استقبلته فور دخوله الأجواء المصرية، وعلق الرئيس الفرنسى قائلًا: «الرافال المصرية رمز قوى لتعاوننا الاستراتيجى».
وقائع الزيارة كلها حملت مزيدًا من الدلالات والرسائل، من أول ظهور الرئيسين فى منطقة الحسين سيرًا على الأقدام، وهى المنطقة الأكثر ازدحامًا فى العاصمة المصرية، ثم استقلالهما مترو الأنفاق، وهو بالمناسبة أيضًا أكثر وسائل المواصلات ازدحامًا بالركاب، مرورًا بزيارة الرئيس الفرنسى للعريش بالقرب من حدود غزة، ليظهر فى الصور التي تناقلها العالم جرحى فلسطينيون فى المستشفيات المصرية.
حققت الزيارة أهدافًا كثيرة لها من العمق ما سوف يؤثر بالفعل على السياسات الأوروبية المقبلة نحو كثير من القضايا العالقة فى الإقليم وفى العالم.. وبما هو متوقع أيضًا من إيجابيات على النظرة الأوروبية للمسألة الفلسطينية والموقف من دعاوى التهجير.
بعد ساعات من عودته لفرنسا، قالت الرئاسة الفرنسية إن الرئيس ماكرون تكلم عن بحثه إعلان الاعتراف بالدولة الفلسطينية خلال المرحلة المقبلة.
فإذا كان الهدف الأول هو النقاش بشأن تطورات منطقة الشرق الأوسط، وفى مقدمتها ما يجرى فى قطاع غزة فى مواجهة خطط تهجير سكانه، فما يكفى من آثار، إجماع تقارير عبرية على أن القمة الثلاثية بين رئيسى مصر وفرنسا وملك الأردن، التي تخللها اتصال هاتفى بالرئيس الأمريكى قبل دقائق من اجتماعه مع رئيس الوزراء الإسرائيلى «أفشل اجتماع ترامب ونتنياهو».
التطابق فى وجهات النظر المصرية الفرنسية، ودعم باريس للقاهرة فى رؤيتها لحلول المسألة بعث برسائل أخرى، لأطراف العالم، تؤكد أن مصر فى رؤيتها لحلول المسألة لديها شركاء من الاتحاد الأوروبى على رأسهم فرنسا، وهم شركاء يؤيدون خطة القاهرة للتعافى المبكر وإعادة إعمار غزة.
نجحت القاهرة خلال الزيارة فى إبراز صور مختلفة لرفض الشارع المصري كل خطط ودعاوى التهجير، وإظهار مدى شدة معارضة المصريين لأى من محاولات تصفية القضية الفلسطينية.
فى صحافة العالم، ركز كثير من المحللين على زيارة «الحسين»، خصوصًا حديث الرئيس عبدالفتاح السيسى، وهو من مواليد حى الجمالية، عن معايشته لليهود الذين كانوا يسكنون بجوار مواطنيهم المصريين.
قال الرئيس السيسي: «أنا ولدت هنا، وحضرت اليهود والإنجليز والأرمن»، وهى الجملة التي شهدت تداولًا كبيرًا على مواقع التواصل فى العالم، وفى أوروبا، دليل على كذب ما يروجه أنصار الصهيونية فى العالم بأن إسرائيل تعيش فى وسط معادٍ لا يريد السلام.
(3)
رسالة مهمة بعث بها الرئيس ماكرون بزيارة العريش، ومن هناك أظهر الدعم الفرنسى للجهود المصرية المبذولة للدعم الإنسانى والسياسى للفلسطينيين فى غزة.
تضاف صورة الرئيس الفرنسى فى مستشفيات العريش إلى ما أضافته المكالمة الهاتفية للرئيس الأمريكى خلال القمة الثلاثية التي أكد فيها ماكرون على ضرورة وقف إطلاق النار فى غزة واستئناف تقديم المساعدات الإنسانية وإطلاق سراح جميع الرهائن والمحتجزين على الفور.
الرسائل شديدة الوضوح.. ففرنسا تدعم خيار السلام وتدعم وقف نزيف الدم وتدعو إلى إيصال المساعدات الإنسانية للشعب الفلسطينى، وتساند الخطة المصرية العربية لإعادة بناء غزة.
حملت الشواهد العديد من أمارات الدعم الفرنسية لجهود القاهرة لتحقيق الأمن والاستقرار فى الشرق الأوسط وأفريقيا وإعلاء صوت السلام.
أكدت الزيارة مستوى غير مسبوق وصلت إليه العلاقات بين البلدين، ناتجًا عن ثقة كبيرة مشتركة، يضاف إليهما صداقة وإرثًا تاريخيًا وحضاريًا لكل من مصر وفرنسا.
ومن القاهرة، أكد رأس الإدارة الفرنسية عمق صداقة تاريخية، وشراكة استراتيجية، نابعة من التقدير الفرنسى لمساعى مصر تحقيقًا للاستقرار، والإشارة إلى جهودها فى مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية التي تؤرق أوروبا منذ سنوات.