

عبد الرحمن غوري
الصحافة والأدب.. من الشراكة إلى التحولات الرقمية
في ستينيات القرن الماضي، لم تكن الصحافة مجرد مهنة، بل نافذة تطل منها الأفكار، ومنبرًا يعيد تشكيل الوعي العام. في مصر، ترك محمد حسنين هيكل بصمته العميقة على الصحافة، بينما أعاد نجيب محفوظ رسم ملامح الرواية العربية. لم تكن العلاقة بينهما مجرد تواصل عابر بين صحفي وروائي، بل كانت تجسيدًا للتفاعل العميق بين الصحافة والأدب. فقد وجدت مقالات محفوظ طريقها إلى الصحف، كما عكست رواياته تحولات المجتمع وصراعاته، متجاوزة حدود النصوص الخيالية إلى واقع يعاد تشكيله بالكلمات.
في ذلك الزمن، لم تقتصر الصحافة على نقل الأدب، بل ساهمت في صناعته. فقد نشر توفيق الحكيم أفكاره عبرها، وقدم يوسف إدريس من خلالها ملامح مجتمعه، وتألق صلاح عبد الصبور بفضلها شاعرًا مجددًا. لم يكن ذلك ترفًا ثقافيًا، بل كان جزءًا من الدور الحيوي الذي لعبته الصحافة في تشكيل الوعي العام، حيث أتاحت للأعمال الأدبية مساحة للنقاش، ورسخت مكانة الأدباء في وجدان الناس.
لم يقتصر هذا التفاعل على مصر، بل امتد إلى العالم العربي بأسره. في لبنان، كانت مجلة الأداب التي أسسها سهيل إدريس منصة للنقاش الأدبي والفكري، وأسهمت في تقديم أسماء بارزة مثل جبرا إبراهيم جبرا وإلياس خوري. أما في العراق، فقد لعبت مجلة الآداب الأجنبية والصحف الثقافية مثل الثقافة الجديدة دورًا مهمًا في نشر الأدب العربي والعالمي وترجماته. وفي المغرب، برزت أسماء مثل محمد شكري الذي حظي باهتمام الصحافة قبل أن يصبح من أشهر كتاب السيرة الذاتية في العالم العربي.
لكن المشهد تبدل. لم تعد الصحف المنبر الأساسي للأدباء، ولم تبقَ الوسيلة الأهم للوصول إلى القارئ. حلت المدونات الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعي محلها، وأصبحت الروايات تُقرأ عبر أمازون كيندل وغودريدز، بينما انتقلت مناقشاتها إلى البودكاست والتقييمات المباشرة من القراء. ومع سرعة التحولات الرقمية، فقدت الصحافة المطبوعة دورها في الاحتفاء بالأدب كما في السابق. أصبحت المراجعات السريعة تطغى على المقالات النقدية الموسعة، واقتصرت التغطيات الصحفية على الشأن الأدبي في مساحات محدودة.
لم يعد الأديب بحاجة إلى الصحافة الورقية كما في السابق. على سبيل المثال، ينشر أدونيس اليوم أفكاره عبر لقاءات مصورة ومحاضرات رقمية أكثر من المقالات الصحفية. كما اختار كتاب شباب مثل أحمد مراد في مصر وسعود السنعوسي في الكويت التفاعل المباشر مع جمهورهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، دون الحاجة إلى وسيط تقليدي.
هل يمكن استعادة هذا التكامل؟ الواقع يشير إلى أن الصحافة الورقية لن تعود إلى مكانتها السابقة، لكنها قادرة على التكيف مع العصر عبر تبني الأدوات الرقمية، مثل إنتاج محتوى أدبي عبر البودكاست، ودعم الكُتاب الشباب من خلال النشر الإلكتروني. هذا ما فعلته نيويورك تايمز بوك ريفيو والغارديان، حيث خصصتا أقسامًا رقمية متكاملة للأدب والمراجعات التفاعلية.
العلاقة بين الصحافة والأدب لم تختفِ، بل أخذت منحًى آخر. ما فعله هيكل مع محفوظ يعكس زمنًا مختلفًا، لكنه ليس بالضرورة الزمن الأخير للأدب. الأدوات تبدلت، لكن الإبداع يظل قادرًا على الاستمرار، ما دام هناك قارئ يبحث عن كلمة تترك أثرها.