

مودي حكيم
85 عاما صحافة 16
مهندس العبارة .. خريج العمارة .. معلم الصحافة
يوماً بعد يوم، تظهر أمامنا الكثير من الفرص والتحديات التي تواجهنا في عالم يتغير بسرعة. ومن أجل تجاوز التحديات واغتنام الفرص للمضي قدمًا نحو مستقبل مشرق، نحتاج دائماً إلى مفاتيح العلم والتعليم، ودائما ما نستعرض بفخر واحترام عميقين لمن منحونا مفاتيح النجاح وكان لهم الأثر العميق على حياتنا ومستقبلنا، ونعبر لهم عن مدى امتناننا وشكرنا للتضحيات التي يقدمونها يوميًا والأثر الكبير الذي يتركونه في حياتنا.
فهم من صناع الأجيال، وباني العقول، والمربي، وهم البحر الزاخر الذي ينهل منه الطلاب علمهم، فيرتقون بأنفسهم، ويزدادون علماً على علم، وخُلُقاً على خُلُق.
وهذا الرجل لا يمكن تجاهله إذا تحدثنا عن الإعلام والتعليم، وإذا كنا ندعو للاحتفال بمرور 85 عاماً على بداية تدريس الصحافة بكلية الآداب عام 1954.
فالكاتب الصحفي جلال الدين الحمامصي قد ارتبط بالكلية عبر تاريخها، فهو دخان لم يذهب في الهواء صاحب العمود اليومي "دخان في الهواء" في جريدة الأخبار الذي حارب به الفساد، فتظل تعاليم الأستاذ والمعلم لمبادئ وأخلاقيات مهنة البحث عن المتاعب رغم مرور السنين، ذكري لا تنسى في قلوب تلاميذه وحين يؤرخ لتطور الصحافة المصرية الحديثة، سوف يذكر بلا جدال اسم الأستاذ جلال الدين الحمامصي في مقدمة عدد الرواد الذين اقتحموا المجال الصحفي من القرن الماضي، وهم يحملون أفكارا ورؤى شديدة الاختلاف عما كان سائدا آنذاك". "وبفضل اقتحام هؤلاء الرواد استطاعت الصحافة المصرية الحديثة أن تنتقل نقله موضوعية إلى التطور الحديث.. الفني والطباعى والإخراجي، كذلك التطور الخبري والتحريري.. أن تتخلى رويدا رويدا عن الأسلوب الإنشائي والخطابي المُسهب لصالح الأسلوب الخبري الموضوعى الموجز.
والده كان شاعرا وأديبا ومستشارا لأحمد شوقي الذي كانت بينهم معه صلة قرابة ونسب، فخاله متزوج ابنة الشاعر الكبير، وما من قصيدة أو مسرحية شعرية كتبها شوقي إلا وقرأها على مستشاره اللغوي كامل الحمامصي، أباه، وكان شوقي كمثال لا يشاهد مسرحيته مجنون ليلي إلا وبجواره الأب كامل الحمامصي، فإذا أراد أن يغير كلمة في بيت من الشعر، فإنه لا يبدي رأيه للمخرج عزيز عيد أو أحمد علام وفاطمة رشدي قبل أن يقر أباه هذا التغيير.. كما أن أنطون الجميل باشا، رئيس تحرير جريدة الأهرام، كانت له جلسات في مكتبه يحضرها الوزراء والأدباء والشعراء، فكانوا إذا اختلفوا في شيء أو بشأن تفسير كلمة يلجأون لوالده أو يطلبونه بالتليفون، ليسألوه رأيه، ورغم هذا كان والده معارضا في دخوله عالم الصحافة. كما كان ارتباطه بأمه مختلفا، وكانت أشد من والده تخاف أن تأخذه الصحافة عن دراسته، بل كانت مصرة على امتناعه عن العمل الصحفي تماما.
هو من مواليد مدينة دمياط 1813، ظهرت الميول الصحفية لجلال الدين الحمامصي، حينما كان طالبا بالثانوية العامة، بالرغم من أنه التحق بكلية الهندسة في جامعة فؤاد الأول «القاهرة» حاليا، وتخرج فيها عام 1939، ليعمل في مجال هوايته الصحفية ويتدرج بها حتى صار أحد رواد المدرسة الصحفية الحديث حسبما يصفه البعض. عرف جلال الدين الطريق إلى بلاط صاحبة الجلالة، منذ كان طالبًا بالمدارس الثانوية، حيث بدأ عام 1929 العمل هاويًا بجريدة “كوكب الشرق” محررًا رياضيًا. وقد قام بأول رحلة صحفية في عام 1936 وهو لا يزال طالبًا بالجامعة، حيث اختارته مجلة روزاليوسف، عندما كان التابعي رئيسًا لتحريرها، ليغطي زيارة لزعيم حزب الوفد خارج البلاد. بالرغم من أنه التحق بكلية الهندسة في جامعة فؤاد الأول «القاهرة» حاليا، وتخرج فيها عام 1939، ليعمل في مجال هوايته الصحفية ويتدرج بها حتى صار أحد رواد المدرسة الصحفية الحديث حسبما يصفه البعض. طلب منه “فكري أباظة”، رئيس تحرير المصور، العمل في دار الهلال محررًا للرياضة وشؤون الجامعات، براتب عشرة جنيهات، ثم أصبح محررًا بجريدة “المصري”، ثم سكرتيرًا للتحرير عام 1939 وهو العام الذي تخرج فيه من الجامعة. وبزغ نجم جلال الدين الحمامصي، أكثر فأكثر حينما عهد إليه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، بتأسيس وكالة أنباء الشرق الأوسط، بعدما عمل خلال رحلته الصحفية محررًا بمؤسسة دار الهلال ثم جريدة المصرية، كما ترأس تحرير جريدة الزمان ثم أخبار اليوم فضلًا عن عمله بالجمهورية. وبالتزامن مع عمله الصحفي فقد كان جلال الدين الحمامصي عضوا بمجلس النواب في عام 1942، كما كان مستشارا لمصر في واشنطن عام 1953، وعاد رئيسا لتحرير جريدة الأخبار عام 1974، واشتهر فيها بعموده اليومي «دخان في الهواء».
آمن بأن الصحفي ملك الشعب، وأن الكتابة ليست أكل عيش، وأن الصحافة مهنة بلا أتعاب، رفع شعار «الإصلاح»، ليس في الصحافة فقط، بل السياسة أيضًا.
وكما تروي الكاتبة المبدعة سناء البيسي في مقال لها بجربدة الاهرام عن مهندس العبارة خريج العمارة كما أطلقت عليه "جلال الحمامصي.. الصحفي المصري الوحيد الذي تم فصله بقرار مكتوب. رفده عبدالناصر ولم يعتقله في 31 ديسمبر 1960.. لم يكتب القرار ناصر شخصيا لكنه أوصى به كمال الدين رفعت الذي كان مشرفا علي أخبار اليوم في ذلك الوقت,، وكانت آخر تعليمات الرئيس من فوق الباخرة( الحرية) المسافرة به إلى المغرب أرسل لجلال الحمامصي خطاب فصل".
وتلقي الحمامصي القرار من سطر واحد يعفى جلال الدين الحمامصي من عمله بمؤسسة أخبار اليوم ولم يكن كمال رفعت بدوره من وقع القرار وإنما عهد به إلى سكرتيره الخاص الصاغ علي إسماعيل الذي سلم القرار إلى الدكتور سيد أبوالنجا العضو المنتدب للمؤسسة وأرفق بالقرار الشيك براتب شهر ديسمبر لعام 1960. لم يتعجب الحمامصي من قرار الفصل لإيمانه بأنه حارب الفساد في عهد عبدالناصر.. ومع السادات أيضا كانت للحمامصي حكاية ورواية.. في 6 يناير 1946 أطلق حسين توفيق الرصاص على أمين عثمان وكان السادات وراء هذه المجموعة، وللاحتياط ولكي يكون بعيدا عن مسرح الأحداث توجه يومها لزيارة جلال الحمامصي, وفي التحقيق شهد الحمامصي بذلك وكانت شهادته أبلغ مبرر لبراءة السادات من الاتهام.. وفي أخريات عهد السادات كان الحمامصي ممنوعا من الكتابة!
عمل أستاذاً للصحافة في الجامعة الأمريكية ورأس قسم الصحافة 1962م، ثم جامعة القاهرة، عُين مشرفاً على التحرير بالأخبار في عام 1967م، وأنشأ مركز التدريب الصحفي في جريدة "الأهرام" عام 1968م، وشارك في إنشاء معهد الإعلام بجامعة القاهرة عام 1971م، الذي تحول إلى كلية الإعلام، وأصدر صحيفة "صوت الجامعة"، وكان قد أسسها الكاتب الصحفي الراحل الأستاذ جلال الدين الحمامصي، حيث ارتبط بالكلية عبر تاريخها عدد من المهنيين، وعدد من خبراء الإذاعة والتليفزيون وخبراء الإعلان والعلاقات العامة.
فى كلية الإعلام كان النجم الأول، كان عملاقا من عمالقة الصحافة المصرية، نجح فى أن يربط ما بين الممارسة العملية للصحافة والجانب الأكاديمي، وينقل خبراته وتجاربه بهدوء واقتدار لجيل جديد من الشباب، ولدوا كباراً لأنه استاذ ومعلم عملاق، تخرج الآلاف على يديه ممن مارسوا العمل الصحفى والإعلامى في مصر والعالم العربي، ومنهم من سلك طريق البحث العلمي والدراسات الأكاديمية، ليقودوا العمل فى أقسام وكليات ومعاهد الإعلام التي تأسست لاحقًا في عدد من الجامعات الإقليمية والخاصة. كما كانت له عدة دراسات في صناعة الصحافة تم تدريسها في مختلف معاهد وكليات الإعلام بالعالم العربي، منها: (المخبر الصحفي، المندوب الصحفي، صالة التحرير، الأخبار في الراديو والتليفزيون، وكالات الأنباء، الإدارة في الصحف، من الخبر إلى الموضوع الصحفي، والصحيفة المثالية).
بعدها استقر في الأخبار من عام 1974م، وحتى وفاته وكتب عمود "دخان في الهواء"، مُنع من الكتابة في أواخر أيام السادات، كشف قضية الفساد في شركة (هيديكو) لصاحبتها هدى عبد المنعم التي هربت من مصر، له العديد من المؤلفات منها صحافتنا بين الأمس واليوم، المندوب الصحفي، صالة التحرير، وكالات الأنباء، المخبر الصحفي، الأخبار في الراديو والتليفزيون، نزاهة الحكم، حوار وراء الأسوار ويعرض فيه تجربته الذاتية، كما أنه صاحب قصة «إحنا بتوع الأتوبيس» التي تحولت لفيلم سينمائي من بطولة عبد المنعم مدبولي وعادل إمام.
عندما سئل الأستاذ عباس محمود العقاد عن جلال الدين الحمامصى قال: «شعبي في صالون، ولكنه شعبي أصيل لا يخلع القفاز من يده وهو يحمل القلم، وقد يخلعه وهو يصافح الصديق، ويخلعه ليبارز العدو، ولا يقول في الحالتين إلا ما يقال في الصالون، على مسمع من السيدات والأطفال، قلمه الناقد وقلمه المادح يسيران بخطوة واحدة، لا يجمحان ولا يخرجان العنان، محصوله من الذوق يزيد على محصوله من الورق، ولكنه لا يتصدى لعمله بغير الكفاية من المحصولين».
ولأن المشي هو تلك الحالة التي يندمج فيها العقل والجسد والعالم، ويمنحنا الحرية لنفكر، دون أن نضيع تماماً داخل أفكارنا، فكان يعشق المشي، ويخرج المشي ، وخلال المشي تتكون خطوط الموضوع، وتطرأ جملة أو فكرة فيدونها في ورقة يحملها في جيبه، وظل المشي هوايته حتى مماته، وعن حبه وعشقه للمشي تحكي زوجته عن لحظاته الأخيرة فى الحياه: "لقد حاولت أن أثنيه عن موعد مشواره الأخير، لقد فرغ من غدائه وآن وقت المشي في نادي الجزيرة، وتلح ويصمم,، فتصحبه إلي منتداه وممشاه، حيث اعتاد أن يسارع إلي هناك كل يوم متريضا ومتأملا، وبينما يسيران، ويتحدثان، وتفاجئه الأزمة".
وقد رثاه تلميذه موسى صبري في مقال بعنوان «جلال الدين الحمامصي» في مجلة «آخر ساعة» 17 فبراير 1988 قال في نهايته: «لقد تعلمت من جلال الحمامصي الكثير، كان يقدم لنا دائما الصورة المثلى للصحفي الشريف، وكان رائدا في رياسة العمل الصحفي، ليس له شلة، عادل في تقييم العمل الصحفي، وكان عناده يعبر عن شخصيته في كل سلوكه العام والخاص، وكانت الابتسامة لا تختفي من وجهه مهما كان عنف الأزمات».