عاجل
الخميس 15 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي

منال رضوان تكتب: تفكيك المعنى وتأويل الإيمان في شخصيات رواية الأخوة كارامازوف

رواية "الأخوة كارامازوف" لـ"فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي"، تعتبر من الأعمال الأدبية التي تمتاز بعمق فكري وتنوع فلسفي يغنيها من حيث مستوى التحليل النقدي؛ إذ إنها ليست مجرد سرد للأحداث والشخصيات، تعد مرآة لعدة قضايا إنسانية ودينية ونفسية معقدة تتداخل مع واقع الشخصية الفردية في صراعها مع العالم والوجود. تكمن براعة الرواية في قدرتها على التفاعل مع مختلف المدارس النقدية والفلسفية؛ لا سيما التفكيكية والهرمينوطيقيا، حيث يمكن من خلال هذه الأدوات النظر إلى النصوص الأدبية من عدة زوايا نقدية تسهم في إثراء الفهم واستكشاف الأبعاد غير المرئية في البناء الأدبي.



 

يتجلى التفكيك في تفاعل الشخصيات مع الدين والشك والتناقضات الأخلاقية، خصوصًا في شخصية إيفان كارامازوف، التي تمثل العقلانية المتشككة؛ فإيفان هو تجسيد لصوت الشك الفلسفي في الرواية، حيث يبزغ السؤال الجوهري حول وجود الإله ومعنى الشر في العالم، من خلال فلسفته التي تدور حول معاناة الأطفال والتساؤلات حول العدالة الإلهية والقدرية، في السياق ذاته، تبرز نظرية التفكيك كأداة لتحليل النصوص؛ فهي تسعى إلى هدم المعاني الثابتة، والتشكيك في ما يُعتبر بديهيًا أو ثابتًا في الفكر الديني؛ مما يفتح المجال للقراء لمناقشة التناقضات التي تظهر في النص وتفكيك هذه التصورات من خلال تحليلات تبرز الفجوات والاختلافات التي قد لا تتوافق مع التفسير التقليدي.هكذا، يصبح النص محفزًا للتساؤل النقدي، حيث يقوم القارئ بإعادة النظر في المعاني التقليدية للأخلاق والدين.

 

في المقابل، نجد شخصية 'ديمتري كارامازوف' التي تعكس صراعًا نفسيًا شديدًا بين الرغبات البدائية والعاطفة الإنسانية العميقة، هو تجسيد للصراع الداخلي الذي لا يمكن تصنيفه ببساطة ضمن التصنيفات الثنائية مثل الخير والشر،  فيقدم دوستويفسكي صورة معقدة لبنية النفس البشرية الممزقة، حيث تتشابك الأبعاد النفسية والعاطفية؛ لتكشف عن قوى مؤثرة في سلوك الشخصية، تجعل من المستحيل تفسير أفعالها في إطار واحد، يشير هذا إلى تعددية الفكر في الرواية، التي ترفض الرؤى الأحادية وتدعو إلى تحليل عميق لفهم الذات الإنسانية عبر تداخل الأبعاد النفسية والفكرية. التناقضات الظاهرة في شخصية ديمتري تفتح الباب أمام تفكيك المفاهيم الأخلاقية الجامدة؛ إذ تتداخل دوافعه المختلفة في صورة أكثر تعقيدًا من التصنيفات الأخلاقية التقليدية.

أما في شخصية عليوشا كارامازوف، فنجد الرواية تطرح بُعدًا روحيًا وأخلاقيًا في مواجهة تساؤلات الإنسان حول إيمانه ووجوده في عالم مشكوك فيه.  يمثل عليوشا الإيمان كحالة غير ثابتة أو مؤكدة، بل هو عرضة للتقلبات والتحديات المستمرة من قبل الشكوك الدينية والفلسفية. من خلال علاقاته مع إيفان وديمتري، تظهر فاعلية الهرمينوطيقا في تقديم النصوص الدينية والروحية باعتبارها نصوصًا غير ثابتة، يمكن أن تُقرأ من خلال سياقاتها المتغيرة، فيعتبر تفسير النصوص هنا عملية مستمرة تبحث عن معانٍ تتغير باستمرار وفقًا للأحداث النفسية والفكرية التي يمر بها الأفراد، مما يعكس تعقيد الدين والإيمان في عالم يشهد تضاربًا بين الأمل والشك، وهنا، يفرض النص على القارئ ضرورة أن يتعامل مع النصوص الدينية ليس على أنها حقيقة ثابتة، بل باعتبارها مجموعة من الإشارات التي تحتاج إلى تفسير دائم.

من خلال تبني مفهومي التفكيك والهرمينوطيقا، تكشف "الأخوة كارامازوف" عن تداخلات فكرية ونفسية تحطم الثوابت التقليدية، وتدعو القارئ إلى التفكير النقدي المستمر وإعادة تفسير العالم من خلال عدسات متعددة، فالتفكيكية تعزز من أهمية التشكيك في المعاني الثابتة والتصورات الأحادية، بينما الهرمينوطيقا تدعو إلى قراءة النصوص في سياقاتها المتغيرة، مما يعكس أهمية التفسير المستمر والتفاعل مع الفكر الإنساني دون الوقوع في مأزق الأحكام المسبقة.

إجمالًا، يمكننا القول إن رواية "الأخوة كارامازوف" تشكل متنًا نقديًا غنيًا يفتح أمام القارئ فرصًا لا حصر لها لفهم التفاعل بين الفكر، والدين، والنفس الإنسانية، من خلال التفكيك، للمعاني الثابتة التي تحكم الأخلاق والدين، في حين أن الهرمينوطيقا تقدم أفقًا أوسع لفهم النصوص من خلال السياقات المتغيرة، وعلى هذا النحو، تظل الرواية أداة حية للنقد والتفكير الفلسفي المستمر، وتظل دعوة للبحث المستمر في أعماق الإنسان ومعتقداته وأفكاره.

 

منال رضوان – أديبة وناقدة  عضو لجنة الإعلام باتحاد كتاب مصر 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز