

وليد طوغان
هدنة غزة.. ومحددات «اليوم التالى»
هدنة فى غزة بخاتم مصري.
نجاح جديد يضاف إلى نجاحات سابقة، وجهود مضنية تضاف إلى جهود مضنية سابقة.
لم تتوقف محاولات القاهرة عن إيجاد البدائل لإيقاف نزيف الدم منذ اشتعال الأوضاع فى أكتوبر العام قبل الماضى.
كان للقاهرة رؤيتها، التي تسبق رؤى آخرين، وكان للقاهرة وجهات نظرها وثوابتها فى الأفكار التي يجب أن تقام عليها الحلول.
القاهرة أدرى بغزة.. وبأوجاع المواطن الفلسطينى فى غزة.
ومصر كانت أيضًا الأدرى بالمناورات الإسرائيلية على الجانب الآخر، وبمحاولات بعضهم الاستمرار فى الحرب، ومحاولات آخرين وضع كل ما يمكن من عراقيل أمام أية جهود لإيقافها.
التوصل إلى صفقة أخيرًا لم يكن سهلًا، والأصعب كان دفع جميع الأطراف إلى النظر بعين الاعتبار إلى حلول واقعية، تؤدى إلى حلحلة نقاط الخلاف.
يدخل قطاع غزة ضمن الدائرة الأولى والمباشرة للأمن القومى المصري.
ليس هذا فقط، لكن يضاف إلى النظرة المصرية أبعاد تتراوح بين أخلاقية وإنسانية، كانت الدافع الأساسى لتمسك القاهرة بحلول عادلة للقضية الفلسطينية، منذ بدايتها للآن.
تصدت مصر للكثير منذ أكتوبر العام الماضى.
تصدت لمن أراد التلاعب بالقضية على الجانب الآخر، وأوقفت محاولات مختلفة لإشعال المزيد من النار واستمرار الأوضاع مشتعلة.
كان التصدى الأكبر، فى موقف القاهرة تجاه محاولات تفريغ القضية، وتصفيتها بمحاولات الدفع إلى تهجير الفلسطينيين خارج أراضيهم، وهى المحاولات التي وصلت للذروة وسط الأحداث.
اتسمت التحركات المصرية تجاه الأوضاع فى قطاع غزة بثبات فى الرؤية، وامتلاك الحلول الواقعية والعملية على الأرض.
لم تخرج الحلول عن الرؤية المصرية. والشروط التي وافقت عليها الأطراف فى الاتفاق الأخير قائمة فى الأساس على الرؤية المصرية المطروحة منذ بدايات الأزمة.
تنطلق رؤى القاهرة، من معادلات تفضى إلى حل شامل ومستدام للقضية الفلسطينية العامل الأساسى والرئيسى فى الاضطراب فى الشرق الأوسط.
تنطلق مصر فى التعاطى مع القضية الفلسطينية من رؤى شاملة، تضع فى اعتبارها كل التفاعلات على الجوانب المختلفة من جوانب الصراع.
لم تسع مصر فى جهودها إلى مجرد إقرار هدنة، إنما عملت على إيجاد حلولٍ لمشكلة غزة برمتها، وصولًا إلى حل عادل للقضية كاملة.
تنطلق مصر من ثوابت معروفة. لم تحد عنها، ولن يحدث.
للفلسطينيين كامل الحقوق فى الأرض، ولهم كل الحقوق فى دولة، يضمن فيها المواطن الفلسطينى حقوقه الطبيعية.. وأولها الحق فى حياة آمنة.
إقرار الهدنة كان نجاحًا جديدًا لمصر وفق رؤية مصرية، ووفق خطوط رسمتها مصر، لحلول المسألة الفلسطينية.
مع سريان اتفاق الهدنة، وتراتبية مراحله واحدة بعد أخرى، يأتى الحديث عن توقعات وتصورات اليوم التالى فى غزة.
لدى القاهرة مطالبات بتمكين السلطة الفلسطينية فى ترتيبات إدارة قطاع غزة، وسط إشارات واضحة بأنه لا خطط يمكن تحقيقها لدى إسرائيل، ولا خطط عملية واقعية لدى الإدارة الأمريكية.
فى ظل هذه المعطيات، يتوقع أن يبقى «اليوم التالى» حتى الآن مثار الخلاف فى وجهات النظر، وهو ما يتوقع خبراء أن تنطلق منه إسرائيل وتعمل على استغلاله للوقوف ضد إجراءات ترتيب الأوضاع فى قطاع غزة فى المستقبل، وربما تستغله تل أبيب لعودة الاعتداءات من جديد.
لم تتوقف القاهرة عن العمل، فى اتجاه الدفع لتذليل جميع المشكلات الكبرى فى الموضوع، وفى دور على قدر عالٍ من الأهمية على كل الأصعدة، ربما أولها ما يتعلق بترتيب البيت الفلسطينى الداخلى، ضمن آلية المشاركة المستقبلية فى إدارة القطاع.
تعمل القاهرة على تجاوز أى ثغرات قد تستغلها أطرافٌ أخرى لمنع تواجد للسلطة الفلسطينية فى القطاع، وهو ما يشير إلى أن الطريق لم ينته، وأن مراحل شاقة من التفاوض هى التالية، فى محاولات إقرار الشكل الأكثر قبولًا للقطاع فى المستقبل.
الرؤية المصرية شاملة متكاملة، بينما الصيغ المطروحة من أطرافٍ أخرى عن اليوم التالى احتوت عدة تصورات تجاهلت حقائق الجغرافيا والتاريخ.
تجاهلت تلك الصيغ الواقع الجيوسياسى الخاص القائم، الذي يفرض على القطاع ارتباطًا بمحيطه واتصاله المباشر بالجوار.
بعض تلك الصيغ، يترتب عليها واقع جديد مغاير لأوضاع ما قبل أكتوبر 23، ويترتب على بعضها الآخر شكل من أشكال فصل غزة عن الضفة الغربية أو فصلها عن إدارة السلطة الفلسطينية.
عمليًا، لا يمكن قبول التعامل مع غزة بوصفها «جغرافيا وحدها»، ولن يكون مقبولًا التوافق على أى محاولة لسيطرة الاحتلال على موارد القطاع الاقتصادية، ولا السيطرة على محددات الإدارة فيه.
الموقف المصري واضح فى هذا الخصوص.
أسس الموقف المصري وجهات نظره على الاعتبار الأهم، منطلقًا من أن من يجب أن يحدد ملامح اليوم التالى هم الفلسطينيون أنفسهم.
القضية فلسطينية فى الأساس، والفلسطينيون هم أصحاب المصلحة على الأرض. وعليه، وبالنسبة للفلسطينيين، فإن أى وضع يفصل القطاع لن يكون مقبولًا ولا متصورًا.
إدارة القطاع مسؤولية فلسطينية، والسلطة الفلسطينية لن تقبل تدابير على الأرض مخالفة لما كان موجودًا قبل أكتوبر، ولن تقبل أية أوضاع تخالف فى نتائجها للاتفاقيات والمعاهدات الموقعة.
تعاظمت الجهود المصرية لقطع الطريق على أى مخطط غير واقعى وغير مقبول بشأن اليوم التالى للقطاع.
لن تسمح القاهرة بحلولٍ مطروحة، تسلب حقًا فلسطينيًا، أو تهدد الأمن القومى المصري.
الرؤية المصرية أساس لدى الجانب الفلسطينى، وربما لذلك حظيت «لجنة الإسناد» بتوافق الفصائل.
التوافق الفلسطينى على لجنة الإسناد، أثبت مرة أخرى أن مصر هى الطرف الوحيد الذي لديه القدرة الحقيقية على طرح أفكار، وهى الطرف الوحيد الذي لديه القدرة على خلق خطط عادلة توضع فى اعتبارها محددات فاعلة للتعامل مع العدوان الإسرائيلى وما بعده.
لدى مصر، ومصر وحدها، القدرة على خلق حلول بخطوات غير تقليدية، صالحة للتعامل مع الواقع شديد التعقيد.
طوال الأزمة كانت الحلول عند القاهرة، والرؤى وفق صور كاملة.. لدى القاهرة.
مرة أخرى، كانت القاهرة هى من طرحت الأفكار التي شكلت أساسًا للمفاوضات وصولًا إلى مشروع الهدنة، ثم إقرارها.
لن تسمح القاهرة بتصورات عن اليوم التالى تدس سُمًّا فى العسل، ولن تسمح بحلولٍ تُفضى إلى أزمات أخرى، وأوضاعٍ أكثر سوءًا.
لن يكون مقبولًا ما يمكن أن يخصم من حقوق فلسطينية، كما لن يكون مسموحًا ما يمكن أن يشكل تهديدًا على الأمن القومى المصري.