مودي حكيم
إمام الصحافة
85 عامًا "صحافة" (4)
"ياه.. إيه إللي فكرك؟".. سألني صديق لي, مستغرباً, وكان تابع ما أكتبُ وينشر لي عن أساتذة الصحافة والإعلام. قلت له مستنجداً بما جاء في "معجم المعاني الجامع": "يا صديقي.. إنَّ الاعْتِرَافَ بِالجَمِيلِ فَضِيلَةٌ:بِالإحْسَانِ، بِالْمَعْرُوفِ، وإِنْكَارُ الجَمِيلِ رذيلة".
وتابعت: "أنسيت ما علمونا قوله لتوقير معليمنا: من علمني حرفًا صرت له عبدًا"، فكيف الحال بالذين حببوا إلينا الصحافة، ودرسونا آدابها، وأساليبها، وفنونها، فتخرجنا عليهم، وانطلقنا، بعضنا زامل الحبر والحرف، وبعضنا الآخر الخطوط, والاشكال, والألوان والصور".
حدث، أثناء غربتي في لندن، أن اشرفت فنيا ,وطباعياً، على اصدار الطبعة الدولية "جريدة الثورة" العراقية، كان يرأس تحريرها، وقتها، الشاعر الرهيف الحس حميد سعيد، فتعرفت فى مكتبه على شيخ الصحفيين العراقيين وعميدهم سجّاد الغازي, فراح يعبر لي عن امتنانه وفخره، بأنه، خلال دراسته في "المعهد القومي للصحفيين العرب" في القاهرة (1968-1969) الذي كان يديره ربيع غيث, تتلمذ على أساتذة الصحافة المبرزين منهم الدكاترة خليل صابات، و إبراهيم إمام، وسامي عزيز، وأحمد حسين الصاوي، وصليب بطرس.
ومضى سجَّاد الغازي, يُعَدّدُ أمامي متشاوفاً، ومعتزاً، بزملاء كانوا معه في المعهد، وأصبحوا من المجلين في مهنة المتاعب، من بينهم، سامي المنيس (صاحب "مجلة الطليعة"، ورئيس "جمعية الصحفيين الكويتين" وعضو "مجلس الأمة الكويتي")، ونبيل عمرو،(الوزير في السلطة الفلسطينية فيما بعد)، وعدنان حطيط (مدير تحرير عدد من المجلات اللبنانية) ومحمود عطا الله،(عضو مجلس" نقابة الصحفيين الأردنيين"، ومدير تحرير عدد من الصحف الأردنية)، وواثق الشاذلي،(عضو مجلس "نقابة الصحفيين في اليمن")، والماجد (رئيس تحرير جريدة في البحرين )، ومصطفى نبيل (رئيس تحرير "الهلال")، ومحمود الشريف (مدير التحرير في "روز اليوسف")، ومصطفى الحكيم (مدير تحرير "صوت العروبة" جريدة "حزب النجاده" في لبنان)، هؤلاء الى جانب زميلين له "المؤسسة العامة للصحافة في المملكة الليبية"، وآخرين من الجزائر أحدهما كمال العياشي (المستشار الإعلامي للرئيس هواري بو مدين)، وزياد عبد الفتاح (مدير عام وكالة الأنباء الفلسطينية " وفا") وعبد الكريم العلوجي (رئيس مجلس إدارة "مجلة الصناعي العربي" وملحقها الرياضي "ستاد العرب")، ونوال مدكور (مدير تحرير في" دار الهلال")، ومحمد العلمي, (الذي أصبح وزيراً للإعلام في المغرب)، وكمال عبد الستار (مدير إدارة "نقابة الصحفيين" في العراق) وزملاء من سوريا والسودان , وزميلين "جريدة الاشتراكي" المصرية وربيبتها، "جريدة مايو، وزميلين له في "وكالة أنباء الشرق الأوسط".
مَرَّ على خاطري كلام سجَّاد الغازي, وأنا استعرض دور أساتذة تدريس الصحافة، فى تخريج جيل من الصحفيين، ليس في مصر, فقط, بل فى البلاد العربية، جيل يعمل فى فضاء الصحافة ، هذا الفضاء الإبداعي وأيضا الروحي الذي ساعد المصريون في خلقه ، فقد أوفد طه حسين، وكان زمنذاك وزيرالمعارف، في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، عدداً من المصريين الى الكويت في بعثات للتدريس، فعلموا الطلبة الكويتيين وتخرج عليهم عدد من الكُتّاب الكويتيين.
وللمصريين دور كبير فى نشر الصحافة بمفهومها المهني الإبداعي، والتقني في الكويت، كما يلاحظ أن تاريخ نزوح طلاب الكويت لمصر، طلبا للعلم، بدأ من الربع الأول في القرن الماضي، فأخذت بعض الطلاب الكويتيون يلتحقون في الجامعات المصرية، وفي النصف الثاني من الأربعينيات زاد عدد الدارسين من دولة الكويت، فصدرت "مجلة البعثة"، التي كتب فيها الدكتور محمد الرميحي، عن كيفية تأثير التنوير المصري على الكويت.
ويبرز إسم الدكتور إبراهيم إمام، من بين الأساتذة الذين أناروا الصحافة العربية، فهو كان من الرواد المؤسسين للدراسات الصحفية والاعلامية في مصر والعالم العربى. ولد الدكتور إبراهيم إمام في القاهرة عام 1925، تلقى دراسته الابتدائية في "مدرسة السيدة حنيفة السلحدار" في "شبرا"، بعدها حصل على الثانوية ثم على "ليسانس في الادب الإنجليزي" "كلية الآداب "جامعة القاهرة ، وجاء ترتيبه الأول، وعين معيدا في الكلية ثم حصل على "ديبلوم الدراسات العليا" في الصحافة والترجمة.
أوفدته جامعة القاهرة الى المملكة المتحدة البريطانية، للحصول على درجة "الماجستير"، ثم "الدكتوراه" في الأدب الإنجليزي. ولم يكتف بذلك، حضّرَ في مصر أطروحة في الصحافة نال عليها درجة دكتوراه، وكان موضوعها: "فن المقال الصحفي في الصحافة الانجليزية دراسة مقارنة مع صحف مصر"، وناقشته لجنة تكونت من الاساتذة محمد فريد أبو حديد, ومحمود عزمي، وسهير القلماوي.
وكان إبراهيم إمام، مولعاً بالتدريس, فانصرف إليه في "قسم الصحافة" بكلية الآداب جامعة القاهرة لأول مرة عام 1954، تولى، بعدها, العديد من المهام الاعلامية خارج الجامعة من بينها: الاشراف على الشؤون المعنوية بالجيش المصري، الاسهام في انشاء إدارة عامة للعلاقات العامة والاعلام في رئاسة الجمهورية، وكان من ابرز المترجمين الفوريين الذين رافقوا الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في رحلاته الى مختلف دول العالم، لإجادته التامة للغات الإنجليزية، والفرنسية، والالمانية.ثم تولى رئاسة رئيس مجلس إدارة "وكالة أنباء الشرق الأوسط"، وترأس تحريرها من عام1963 إلى 1966.
عرف عن إبراهيم إمام، احترامه الشديد للنظام, كما اتسم عمله الإداري الحزم والانضباط. شارك في انشاء العديد من اقسام الاعلام في الجامعات المصرية والعربية، بدءاً "جامعة الأزهر"، والمملكة العربية السعودية, وليبيا, والكويت، وعمان، والسودان، والعراق.. سال حبر قلمه على العديد من المؤلفات أبرزها: "فن الاخراج الصحفي"، "العلاقات العامة والإعلام"، "الإعلام والاتصال بالجماهير"، وكالات الأنباء، "دراسات في الفن الصحفي"، "الاعلام الإذاعي والتليفزيوني".
وقد اهتم إبراهيم إمام، بفن الاخراج الصحفي، وخصه بكتاب، "دراسات في الفن الصحفي"، كتب فيه ما ها هنا مفاده: "إن الأسلوب القديم في الإخراج كان مناسبا تماما لوظيفة الصحافة في مستهل ظهورها. وقد رأينا أن الصحافة بدأت رسمية حكومية، ثم اهتمت بالنشرات الإعلانية والاقتصادية لخدمة التجار، ثم تطورت بعد ذلك فأصبحت أدوات حزبية يستخدمها الساسة كأبواق للدعاية.
وهكذا بقيت الصحافة محصورة في بيئات الطبقات الحاكمة من الساسة والتجار والخاصة من المثقفين. ولذلك لم يكن غريبا أن يظل الإخراج الصحفي وثيق الصلة بالكتاب، لا يحفل كثيرا بالعناوين، ولا يهتم بطرق استمالة القارئ واجتذابه.
وذلك أن قراء الصحف -وهم قلة من المثقفين وأصحاب المصالح- كانوا يسعون إلى الصحافة سعيا، وكانت هي الأخرى تبدو في مظهر يليق بهذه الطبقات من الوقار والجد والاحتشام.
وفي أواخر القرن الثامن عشر بدأت الثورة الصناعية في أوروبا وأخذت تنتقل إلى شتى بقاع العالم، كما انتشرت بذور الديمقراطية ثم الأفكار الاشتراكية وما تضمنته من احترام للشعوب، واعترفت الدول بواجباتها الاجتماعية وحملت على عاتقها مهمة تثقيف الناس وتعليمهم والمحافظة على صحتهم، والارتفاع بمستواهم، وتحقيق أسباب الرفاهية لهم. فكان لا بد للصحافة أن تتأثر بهذه التيارات الجديدة، وتتوسع في وظيفتها لتخدم هذه الطبقات الناشئة، كما كانت تخدم الارستقراطية والطبقات الوسطى من قبل".
ويتابع إبراهيم إمام سرديته: "وهكذا ولدت الصحافة الشعبية لكي تساير العصر الجديد، وتتوجه إلى الكتل الشعبية التي تعد بالملايين. فرأينا في أمريكا -مثلا- صحفا جديدة زهيدة الثمن كصحيفة "نيويورك صن"، وغيرها من الصحف التي بدأت في الظهور بعد سنة 1830 واهتمت بالأخبار الخفيفة والحوادث الطريفة إلى جانب عنايتها بالنواحي السياسية والتجارية والاقتصادية الجادة.
وحدث في بريطانيا نفس الشيء بعد إلغاء الضرائب على الصحف سنة 1855 فظهرت صحيفة" دايلي تلجراف" سنة 1858، وصحيفة "دايلي نيوز" سنة 1868 وصحيفة "دايلي كرونكل" سنة 1877 وغيرها كثير.. وكانت كلها صحفا زهيدة الثمن تباع ببنس واحد أو بنس ونصف بنس. وفي فرنسا ظهرت صحيفة "لابريس" في سنة 1836، كما ظهرت صحيفة "لوسيكل" في نفس السنة، وهما من الصحف زهيدة الثمن أيضا.
أنهى الدكتور إبراهيم إمام حياته رئيسًا لقسم الإعلام بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.. فبعد أن ترَك العمل في جامعة القاهرة طلَب منه فضيلة الشيخ الدكتور عبدالحليم محمود، شيخ الأزهر الأسبق، إنشاءَ قسم الصحافة والإعلام بجامعة الأزهر عام 1974، وبدأ الدكتور إمام ينشغل بقضايا الإعلام الإسلامي.
مما أحدث تحوُّلا كبيرا حدث في حياته العلمية، والسبب هو البحثُ عن الأصالة، كما قال، ثم يعطي الأسباب: "لأن كل البحوث والدراسات الإعلامية في جامعاتنا العربية كانت تستمدُّ من مراجعَ أجنبية، وتقام على أسس ونظم ومفاهيم مستوردة، وكانت الحقائق تُلوَى ليًّا لكي تتمشى مع عالَمِنا الإسلامي، وبطبيعة الحال كان الأسلوب يتسمُ بالافتعال والتصنُّع وفرض أفكار لا تتفق مع قِيَمنا وأفكارنا، فكان لا بد لإصلاحِ ذلك من العودة إلى حقيقةِ بيئتنا وواقعِنا الإسلامي، وتحويل الأبحاث والدِّراسات إلى الإعلامِ الإسلاميِّ في بيئته الحقيقية"، ثم أكد متابعاً: " أن العودةَ إلى الذات، والبحث عن الأصالة، ليس مطلوبًا فقط في الإعلام، وإنما هو مطلوبٌ في سائر العلوم، خاصة العلومَ الاجتماعية، وقد انتبه علماءُ الاقتصاد لهذه الحقيقة، وظهرت دراساتٌ قيِّمة في الاقتصاد الإسلامي، كما يهتم أساتذة التربية حاليًّا بموضوع التوجيه الإسلامي في تربية النشء، وقد عادت كُتُب أبي حامد الغزالي وغيرِه من علماء التربية إلى بؤرة الاهتمام الشَّديد".
رحم الله روح الدكتور إمام، ومن كانوا معه، من الذين تركوا بصماتهم على الصحافة والإعلام، وعليهم تخرجت أجيال حملت من بعدهم مشاعل التنوير في العالم العربي.. وللحديث بقية.