د. أحمد عبدالمنعم يكتب: ألم الفراق
تُعد تجربة فقدان شخص عزيز من الخبرات الحياتية المؤلمة، ولا تنتهي بحدوث الفقد بل قد يمتد تأثيرها لسنوات من الحزن والحداد النفسي.
وقبل الدخول في الموضوع علينا أن نعي بعض الحقائق المتعلقة بالفقد وهي: أن مظاهر التعبير عن الحزن والفقد ليست واحدة لدى جميع الناس، وأن المظهر والشكل الخارجي لا يُعبر بالضرورة عن الألم الداخلي، وأن هناك بعض الأشخاص قد يعبرون مشاعر الحزن الظاهري سريعاً، ولكنهم يظلون عالقين في ألم الفقد لشهور أو لسنوات وهو ما يُسمى " الحداد الدائم" ، وفيه تكون المشاعر مؤلمة مع فقدان القدرة على الاستمتاع بالحياة.
وسنسعى سوياً من خلال هذه السطور القليلة لإلقاء نظرة شاملة مختصرة على أحد أهم الموضوعات الحياتية الحتمية التي نمر بها جميعاً ألا وهى الفقد بالوفاة، ومن عظمة الخالق سبحانه وتعالى أن أنعم علينا بنعمة الاستعداد للتعلق وفيها نحب أبائنا وأمهاتنا وأخواننا وأخواتنا وأبنائنا وبناتنا، وفي نفس الوقت أنعم علينا بنعمة التعايش مع فقد من تعلقنا به، حتى لا يحدث خلل في طبيعتنا البشرية ويحمينا نفسياً، فالتعايش لا يُعني النسيان ولكنه الصورة الداخلية- الصوت والصورة- لمن فقدناه وهى تظل نفسيا خالدة الذكرى.
وبصورة مُبسطة الفقد هو حالة عاطفية وجسدية وفكرية وروحانية تنتج عن فقدان شخص عزيز، ويترتب على الفقد حالة من الحداد غير محددة المدة وتختلف من شخص لآخر، ومن الأمور المؤثرة في الفقد هو طريقة الفقد: فهناك الفقد المنتظر كمن يُعانون من أمراض خطيرة فهذا يجعل سيناريوهات الفقد تدور في ذهن الشخص أكثر من مرة قبل حدوث الوفاة، وهناك أيضا الفقد غير المتوقع كحالات الوفاة المفاجئة أو الحوادث أو الكوارث.
ويمر الفقد بعدة مراحل، ولكن ليس بالضرروة أن تكون المراحل مُتدرجة، كما أنها غير محددة الوقت ، بل في بعض الأحيان قد يحدث إرتداد لمرحلة سابقة من مراحل الفقد، وهذا ما يؤكد على اختلافنا كبشر في تقبل الفقد وقدرتنا على التعايش معه.
المرحلة الأولى: الصدمة والإنكار ويغلب عليها عدم التصديق والإنكار لما يحدث، فما حدث أشبه بالحلم، ويسعى فيها الشخص إلى التمسك بالإنكار وعدم التصديق لما حدث.
المرحلة الثانية: الغضب واللوم ويغلب عليها مشاعر الغضب سواء من الفقد نفسه" ليه حصل ليا كدا"، أو من أشخاص محيطين به واتهامهم بالتقصير، أو من المجتمع بمؤسساته كالمستشفى والخدمات والرعاية، أو من الذات وتأنيب الضمير وجلد الذات، وقد يوجهه الغضب إلى الله بالإعتراض عما حدث.
المرحلة الثالثة: التفاوض العقلي الداخلي ويغلب عليها الحوار الذاتي الداخلي فالشخص يجلس منفرداً وحيداً ولديه حواراً عقليا دائراً، يحاول أن يستوعب ما الذي حدث؟ وكيف؟ فقد بدأ يدرك بالفعل أن الشخص المفقود لم يُعد متواجداً في الحياة.
وقد يحدث ارتداد مرة أخرى إلى المرحلة الأولى" الصدمة والإنكار" ، أو المرحلة الثانية" الغضب واللوم" ، أو قد يكون التفكير بأخذ خطوة للأمام، فما الذي على أن أفعله بعد إدراكي لحقيقة فقدان من أحبه، وما يُميز هذه المرحلة أن الحوار العقلي يكون داخلي صامت، فنشاهد السرحان والشرود على الشخص والصمت لفترات طويلة، وقد يتخذ بعض الخطوات التي يراها المحيطين ايجابية مثل الصلاة والأكل أو النوم، أو التحدث قليلاً.
المرحلة الرابعة: الاكتئاب الشخص هنا أدرك بالفعل ما حدث، وأصبح يرى تفاصيل المشهد كاملة، والمسؤوليات التي أصبحت على عاتقه، وهذه المرحلة قد تأخذ فترة أطول من المراحل السابقة، وهى مناسبة لتقديم الدعم النفسي المباشر لأنها تأخذ صفه الحداد وقد تصبح حياة الشخص متوقفة فيها وغير قادر على تجاوزها، ومن الممكن أن يقوم بالدعم النفسي أشخاص مرورا بهذه التجربة فمن عايشوا خبرات الفقد، فهم الأقدر على فهم ما يدور بداخله وقدرتهم على المواجدة النفسية أعلى، وعلينا أن نظهر اهتمامنا بكلامه، ولا يحتاج إلى نصائح أو توجيهات، فهو بحاجة إلى إشعاره بأننا بجانبك وأنت لست وحدك، وسيأتي عليه الوقت الذي يكون بحاجة فيه للكلام فلا داعي لضغطه في اتجاه الكلام أو تبسيط ما حدث، أو عمل مقارنات بباقي العائلة أو نقل التجربة الشخصية.
وقد تتخذ صورتين متناقضتين: الصورة الأولى: الاكتئابية الواضحة
وفيها يتحول تعلق الشخص بمن فقده إلى تعلق بالحزن مع مظاهر وأعراض اكتئابية مستمرة مثل فقدان التركيز والسرحان وسيطرة الأفكار التشاؤمية وجلد الذات وفقدان المتعة والاهتمام أو تجنب العلاقات الاجتماعية مع وجود اضطرابات في النوم والأكل والرغبة الجنسية.
◇ الصورة الثانية: الإكتئابية المقنعة
فالشخص يحتفظ بالحزن في داخله ولا يتحدث عنه ويكبت مشاعره، ويتعامل مع نفسه كأنه لا يتألم فيعمل كثيراً ويتحرك كثيراً ويتحمل مسؤوليات أكثر ويكون شعاره النفسي الإلهاء مش فاضي يمر بمراحل الفقد، وبالرغم من وجود الكثير من النجاحات إلا أنها تكون خالية من مشاعر الفرح.
■ المرحلة الخامسة: القبول كمة القبول لا تعني الاستسلام، ولكنها تُعنى أن الفقد حقيقة، وأن الوفاه قد حدثت، ولكن لا زالت الذكرى والآثر للمفقود مستمرة، فيسعى الشخص هنا إلى إحياء هذا الآثر بطريقته الخاصة.
ولهذه المرحلة صورتين: الصورة الأولى: التوازن النفسي والجسدي من خلال الاهتمام: بالجوانب الصحية، والعودة للعمل أو الدراسة ، وتنشيط العلاقات الاجتماعية القديمة أو بناء علاقات جديدة، وبإيجاز العودة لأسلوب الحياة السابق للفقد.
الصورة الثانية: وهى تحدث لدى بعض الأشخاص وليس الجميع، فحينما نفقد عزيز وكان التعلق به كبير، فنحن بجاحة إلى تطوير هويتنا النفسية مرة أخرى، فحينما يصاب الإنسان بجرح قطعي فمن عظمة الخالق أن الخلايا والأنسجة تبنى نفسها من جديد لتغطي الجزء المفقود ولكنها تأخذ وقتها، وفي تقبل الفقد قد يحدث ما يشبه ذلك فالحياة لم تعد كما كانت "فقد فقدت مصدر الأمان والعطاء بالنسبة لي" ومن فكرة الألم هذه يبدأ الشخص في محاولة البحث عن هوية نفسية جديدة أو مطورة تغطيه وتعطيه قدراً من الأمان المفقود.