فن الدبلوماسية .. المفاوضات ولغة الجسد
تبقَى ثوابت فنِّ الدبلوماسيَّة ومِنْها التَّفاوض هي أحَد أعمدة النَّجاح والتميُّز، سواء في الإتيكيت الحكومي أم الإتيكيت الاجتماعي. المفاوضات والتَّفاوض والمفاوض هذه هي سِرُّ الحياة النَّاجحة والمثاليَّة، وتاريخ المفاوضات ليس له وقت مُحدَّد. فهي نشأتْ بصورةٍ غير مباشرة مع الجنس البَشَري منذُ القِدَم، والكثيرون مِنَّا قد يقعون في مواقف صعبة إذا لم يمتلكوا مهارات التَّفاوض وهي فقرة التَّشاور. وإذا تحقَّقتِ المشورة على وجْهِها الصَّحيح قَبْلَ التَّفاوض فإنَّ لهَا من الآثار الإيجابيَّة الكثير، وإنَّ من أهداف التَّفاوض المتميِّز هو التَّشاور قَبْلَ المباحثات؛ لغرضِ القضاء على الفرديَّة والدكتاتوريَّة والارتجال، وتجنيبِ الأُمَّة آثارَ المواقفِ والقراراتِ الفرديَّة. صِفة التَّفاوض لا تنطبق على الدبلوماسيِّين أو السياسيِّين أو رجال الدَّولة فقط، وإنَّما تبدأ من العائلة؛ لأنَّ أيَّ انهيار ـ لا سمحَ الله ـ في مناقشةِ موضوعٍ ما قد تؤدِّي إلى تشتيتِ العائلة وهو الطَّلاق بسبب انهيار مرتكزات التَّفاوض بَيْنَ الزوجَيْنِ حَوْلَ نقطة مُعيَّنة أو عدَّة نقاط. تتسابق الجامعات العالَميَّة في وضعِ مقرَّرات ونظريَّات عِلْمِ الجسَد، مستندِينَ إلى عِلْمِ النَّفْس ونظريَّات (فرويد) وغيرها ودمجِها مع فنِّ الدبلوماسيَّة والمفاوضات الَّذي تطوَّر كثيرًا بعد عصرِ النَّهضة في أوروبا، وبدأتِ المعاهدُ والمدارس المُتخصِّصة في العلوم السياسيَّة والعلاقات الدوليَّة بجمعِ هذه الباقات من العلوم وضخِّها في عِلْمِ المفاوضات، وجعل صِفة المفاوضِ (الذِّئب الَّذي لا يُغلب). العالِم الفرنسي الفسيولوجي إ. وينبوم (عام 1906م) ـ على سبيل المثال ـ يَعدُّ أنَّ ابتسامة المفاوض أثناء المفاوضات هي تعبيرات وجهيَّة تؤثِّر في تدفُّق الدَّم إلى الدِّماغ وتخلقُ دائرةً مفرغةً من قوَّة ومراوغة بكيفيَّة فعَّالة، وهو ما يُوحِي بأنَّ حرارة الدِّماغ يُمكِن أن تؤثِّرَ في إنتاج وتركيب النَّاقلات العصبيَّة الَّتي سوف تؤثِّر ـ بلا ريْبٍ ـ على الطَّرف الآخر المفاوض، ولِيغيِّرَ طريقة التَّفاوض استنادًا إلى نَوْعِ الابتسامة وصِدْقها، وبالتَّالي هذا يحدُث بكسور الثانية، مُعتبرًا أنَّ لُغة الابتسامات هي مجموعة كبيرة من الدّلالات الصَّادقة والمُخادعة والغامضة والمُهذَّبة والبائسة والزَّائفة وكُلُّها تستخدم عضلات الوَجْهِ، وهي عبارة عن رسائل ذات معانٍ مؤثِّرة من المُرسِل إلى المُستقبِل، سواء استخدمها بفنِّ المفاوضات على مستوى الدوَل أو مستوى الشَّركات الخاصَّة. المدرسة الدبلوماسيَّة الإسلاميَّة ـ إن صحَّ التَّعبير ـ قدَّمت لجميعِ الجامعات العالَميَّة أُسُسَ وسِماتِ لُغة الجسَد، معتمِدة على القرآن الكريم، ومِنْها قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَة قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أيَّام إِلَّا رَمْزًا..)ِ (آل عمران ـ 41)، لِيُعطيَ مثالًا جوهريًّا وهي كلمة (رمزًا) أي في لُغة الجسَد (إيماءً وإشارةً). تُعرَّف لُغة الجسَد بأنَّها مجموعة من التصرُّفات الحركيَّة والسُّلوكيَّات الصَّادرة من اليَدِ والوَجْهِ والعَيْنِ والحواجب والأقدام ونبرات الصَّوت والأكتاف والرأس الَّتي تستخدم لِيفهمَ الطَّرف الآخر الرَّسائل بشكلٍ أفضل، وهي غير لفظيَّة ذات معنى ودلالة، سواء إيجابيَّة أو سلبيَّة تعكس أفكار الفرد الباطنيَّة عن طريق حركات الجسَد. أمَّا فنُّ الدبلوماسيَّة وعلاقته بلُغةِ الجسَد فهو الفنُّ الَّذي يُدرس هذه الحركات ويُحلِّلها ويترجمها لمعرفةِ كاريزما وشخصيَّة المفاوض أو الزائر معتمدًا على أبعاد وتغييرات تعبيرات الوَجْه، العيون، الحواجب، الإيماء بالأيدي والأصابع، الذِّراعيْنِ والسَّاقيْنِ، الجلوس، المساحة الشَّخصيَّة بَيْنَ الأشخاص، المَشي، نبرات الصَّوت، المصافحة.. وغيرها من الأمور الأخرى، كما أنَّ أهمَّ مهارات عِلم الجسَد هو التحكُّم عند الانفعال أو المبالغة في السُّلوكيَّات، مِثال على ذلك رفع نبرة الصَّوت لغرضِ السَّيطرة على الطَّرف الثاني، الابتسامة ووقتها ومناسبتها؛ لأنَّها قد تُعطي معنًى سلبيًّا وهو الاستهزاء؛ إذ استخدمت من باب الأنانيَّة والسَّيطرة والتَّقليل من الطَّرف الآخر، مهارة التحكُّم في تعابير الوَجْه، مهارة استخدام اليدَيْنِ والأذرع والأصابع، مهارة السَّيطرة على المشاعر والأحاسيس. إنَّ عناصر وتقنيَّات وآليَّة التَّفاوض، ومِنْها لُغة الجسَد، تُعَدُّ الآن من أهمِّ مُقوِّمات الحياة الهادئة والنَّاجحة والمتميِّزة في تحقيق الأهداف، سواء على المستوى البعيد أو القريب. وطبعًا هذا يعتمد على أن يتمتعَ المفاوض بالإبداع والابتكار وهدوء الأعصاب، والتَّأنِّي في اتِّخاذ القرار وبُعد النَّظر في تحليل المسألة في حلبة المفاوضات مهما كان نَوْعها، ويساعد الإبداع الشَّخص المفاوض، بالإضافة إلى عددٍ من الصِّفات إلى تحويل المُشْكلة إلى اتِّفاقٍ وقَبول يبعثُ على الرِّضا لكلا الطرفَيْنِ. المدارس الدبلوماسيَّة العريقة والحرفيَّة تُدخِل دبلوماسيِّيها بحلقاتٍ متقدِّمة جدًّا بفنِّ المفاوضات وعِلْمِ الجسَد، سواء عن طريق معرفة طُرق وأساليب المراوغة والمطاولة ضِمْنَ أوراق المفاوضات الَّتي تكُونُ تحت الطاولة ولا يكشفُ عَنْها بالبداية؛ لغرضِ معرفةِ الطَّرف الثاني ما في جعبته وكأنَّها لُعبة كرة القَدَمِ بَيْنَ أقوى الفِرق للظَّفر بكأسِ البطولة، ولكُلِّ مدرِّبٍ تكتيكٌ مُعيَّن مُقسَّم على توقيتات كُلِّ شوطٍ.
دبلوماسي سابق والرئيس التنفيذي للأكاديمية الدولية للدبلوماسية والإتيكيت