السُونَنك: تجار الذهب ودعاة الإسلام
د. إسماعيل حامد
هم من أقدم الشعوب التي برز دورها الحضاري وكذلك أثرها الديني ودورهم في نشر الإسلام في بلاد غرب أفريقيا. ويُنسب لشعب السوننك Soninke تأسيس مملكة غانة القديمة التي تعد أقدم الممالك الأفريقية في بلاد السودان الغربي، وكذلك لعبوا دورًا مهمًا في تأسيس مملكة أخرى قديمة ظهرت في آراضي غانة، وهي مملكة وجدو (وكد، أو وجادو).
واختلفت الآراءُ حول تأسيس "مملكة غانة" السوننكية، فالبعضُ يؤرخ ذلك لحوالي القرن الخامس الهجري/القرن الحادي عشر الميلادي، بينما يرى آخرون أن تأسيس المملكة القديمة يرجع للقرن لبدايات القرون الميلادية. فيما يحدد رأي آخر تأسيس أقدم مملكة في غانة إلى الفترة التي تمتد فيما بين سنة 800م، وحتى سنة 1070م.
ويبدو من الراجح- في رأي المؤلف- أن تأسيس "مملكة غانة" ربما يرجع لما قبل القرن 5هـ/11م بعدة قرون.
ويشير بعض المؤرخين إلى أن جماعات من المُهاجرين القادمين من شمال أفريقيا استقروا في آراضي غانة، ثم إنهم اختلطوا بالسكان المحليين، وهم من شعوب "الماندي"، لاسيما شعب "السُوننك"، ثم حدث تصاهر بين المهاجرين مع السكان المحليين، وفي حوالى القرن 4م حكم المهاجرون غانة، وكونوا أسرةً ملكية فى منطقة "أوكور" Aukur. ويذهب البعضُ أن هذا الشعب (السوننك) الذي أسس مملكة غانة القديمة كان يعيش في المنطقة التي تقع فيما بين نهر النيجر من ناحية، ونهر السنغال من ناحية أخرى. وتلك المنطقة التي سكنها السوننك الأوائل تقع حاليًا في الآراضي فيما بين موريتانيا ومالي.
وعن تأسيس مملكة غانة، يقول أحد الباحثين: "ويُستبعد هذا التصور أن يكون الملوك الأوائل لمملكة غانة من أصل صنهاجي..ويسترسل دولافوس في تفسيراته موضحا أن هذه الأسرة البيضاء السورية (اليهودية) قد استمرت في الحكم إلى نهاية القرن 8م، حيث تمكنت أسرة سوننكية سوداء من السيطرة على الحكم مستفيدة من الأوضاع المضطربة التي بدأت تعرفها البلاد آنذاك، مستعينة بكثرة الجيوش التابعة لها، ومع هذا الانقلاب بدأت مرحلة جديدة في تاريخ مملكة غانة تميزت بسعي القيادة السوداء لتوسيع مناطق نفوذها على حساب الجيران".
وفرض حكام غانة القُدامى نفوذهم على أكثر آراضي الشعوب والقبائل التي كانت مجاورة لهم، وكان ذلك بفضل استخدامهم للأسلحة الحديدية، وقد كانت أكثر تطورًا مما لدى أندادهم بحسب البعض: "لقد أثبت الحديد في كل مكان من العالم القديم أنه كان له تأثير قوي مكن من بناء مجتمعات جديدة أكثر تعقيدًا.
ويبدو أن الأمر في هذا لم يكن مختلفًا بالنسبة لأفريقيا، فمنذ عُرفت الصناعات الحديدية في أفريقيا أمكن الحصول عليه بسهولة أكثر من النحاس، أو البرونز، ولهذا السبب قام سكان غانة القديمة بحملات عسكرية ضد جيرانهم في وقت ما في حوالي القرن 6هـ/12م، ذلك لأن الشعوب الأخرى لم تكن تعرف صناعة الحديد، وكانت تحارب بقبضان من خشب "الأبنوس"، على حين كان السكان في غانة يحاربون بسيوف ورماح حديدية، وبهذا يُعتبر قيام الممالك في بلاد السودان الغربي نتيجة للتفوق في استخدام الحديد".
ويعتقد العالم الفرنسي "ديلافوس" Delafosse أن المؤسسين الأوائل لمملكة غانة كانوا من غير الأصول الأفريقية السوداء، حيث كانوا من ذوي البشرة البيضاء. ثم يشير ديلافوس إلى أنهم نزحوا حوالي منتصف القرن الثاني الميلادي لمنطقة "أوكار" في هجرات سلمية، ويُقال إن تلك الهجرات كانت بسبب اضطهاد الرومان، ثم استقروا بجانب شعب "السوننك"، ولقد تمكنوا من استيعاب عادات السكان المحليين، وتأقلموا مع تقاليدهم، ثم أخذوا بشكل تدريجي في بسط نفوذهم في حتى صار لهم الحُكم في هذه البلاد.
ويقال إن تأسيس هؤلاء المهاجرين للمملكة تم في حوالي سنة 300م، وهو رأي فيه نظر. واشتهرت فروع "السوننك" بالتجارة عبر عدد من الطُرق والمسالك عبر الصحراء، فكانوا يعملون كتجار متجولين، وكذلك كانوا يعملون كوسطاء تجاريين، وكان للسوننك صلاتٌ تجارية مع العديد من المراكز التجارية عند الحافة الجنوبية للصحراء لاسيما مع سكان مدينة أودغست التي كان يكثر بها تجار السوننك، وانتشر التجار السوننك في المناطق فيما بين أعالي نهر السنغال ومنحنى نهر النيجر الأوسط.
ومن المعلوم أن "مملكة غانة" القديمة التي استقر بها السوننك، وهو مؤسسوها الأوائل، وكانت غانة تُعرف بأنها "بلاد الذهب"، وكان حكامها من السوننك يشار لهم بأنهم: "ملوك الذهب".
ويُقال إن هذه البلاد كانت قد عُرفت باسم "غانة" لما نزلها البُرتغاليون سنة 886هـ، ولما اكتشفوا مناجم الذهب، أدركوا مدى ثراء هذه البلاد، ومن ثم أطلقوا عليها تسمية: "أرض الذهب"، كما عُرفت هذه البلاد فيما بعد بـ"ساحل الذهب" Gold Coast البريطاني، وكانت تلك التسمية في الغالب بعد الاحتلال البريطاني لها.
ويقال إن اسم غانة يعني بلغة السوننك: القيادة العسكرية. واهتمت المصادر بـ"مملكة غانة"، وشعبها القديم (وهم السوننك)، وأفاضوا فـى شُهرتها، وازدهارها بفضل تجارة الذهب، ومن ثمة اشتهر الطريق المؤدي لأسواق غانة، وما جاورها من أسواق الذهب الكبرى، بأنه: "طريق الذهب".
وأسهب المؤرخون القدامى في وصف الذهب وتجارته والذي كان يتحكم فيه حكام السوننك. وتذكر الرواياتُ أن أشهر مدنها بـ"الذهب" اسمها "غياروا" على مسيرة 18 يوماً، أو مرحلة من المدينة التي كان يسكنها ملك غانة قديما، أي أن تلك المسافة كانت تبلغ حوالي 720كم.
ويُشير البعضُ إلى أن اللقب المحلي "كيمَع" (أو "قيمَع") كان يحمله حكام غانة السوننك، وكان يُقصد به على الراجح: "ملك الذهب"، وكانت بداية استخدام هذا اللقب منذ حوالي القرن 2هـ/8م، وظل هذا اللقبُ المحلي يُستَخدم حتى القرن 7هـ/13.
ويذكر ابنُ حوقل (ت: 350هـ) عن الذهب، وكثرة وجوده: "وغانة أيسرُ من على وجه الأرض من ملوكها، بما لديهم من الأموال المُدخرة من التِبر المثار على قديم الأيام للمُتقدمين من ملوكهم". وتلك إشارة تؤكد ثراء بلاد السوننك بالذهب منذ القدم. بينما يقول "القزوينـي" (ت: 682هـ): "وهي أكثر بلاد الله ذهباً، لأنها بقرب معدنهـا، ومنها يُحمل إلى سائر البلاد".
وتُشير بعضُ الروايات إلى أن التُجار الأجانب الباحثين عن معدن الذهب كانوا يجتمعون في مراكز التجارة الواقعة في "غانة"، ثم كانوا يعبرون منها لباقي أسواق الـذهب في غرب أفريقيا، وهو ما يُشير لتحكم ملوك غانة على "تجارة الذهب"، وكان على هؤلاء التُجار الباحثين عن الذهب القدوم إلى غانة بهدف بلوغ مأربهم والحصول على الذهب. ويُشير المؤرخون إلى أن معدن الذهب لم يكن موجوداً فى غانة وحدهـا، حيث كانت توجد مناجمٌ أُخرى قرب تخومها، يقول القلقشندى (ت: 821هـ): "لأن بهـا وبما وراءها جنوبًا منابت الـذهب".
ويعنى ذلك أن مناجم اُخرى معروفة بـ"الذهب" كانت تقع خارج تخوم المملكة لاسيما صوب الجنوب، غير أنها كانت تخضع في ذات الوقت لسيطرة السوننك. ويذكر العُمَريُّ (ت: 749هـ): "وأما غانةُ، فإنه لايملكها وكأنه مالكها..لأن بها وبما وراءها جنوبا..منابت الذهب". بينما يذكر "القلقشندى": "إن بلاد منابت الذهب متى فشا فيها الإسلام والآذان عَدم فيها نبـاتُ الذهب".
ويذكر البكري: "وإذا وجد فى جميع معادن بلاده الندرة من الـذهب". كما يُشير لمناجم الذهب التي توجد في "كوغة" على بُعد 15 مرحلة من غرب غانة (حوالي 600 كم). بينما يقول "الإدريسى" (ت: 560ه): "وأهل هذه المدينة من أغنى الناس، وأكثرهم مالاً، لأنها على طريق من يريد غانة التي بهـا معدن الذهب". وكانت آراضي غانة مقصدًا رئيسًا للقوافل القادمة من مصر وشمال أفريقيا، ثم كانت تتجمع في منطقة "سَجلمَاسة" التي تقع جنوب المغرب حاليًا، ثم تنطلق حتى تصل مدينة "أَودغَست" (موريتانيا)، وهو المشهورة بأنها مدينة السوننك، ثم تتجه القوافل بعدها لمدينة "كومبي صالح" عاصمة غانة.
ومن المعلوم أن آراضي موريتانيا يوجد بها جماعات ليست بالقليلة من شعب "السوننك" حتى اليوم. وعلى هذا يُعتبر "السوننك" من أكثر شعوب السودان الغربي الذين ارتبطوا بالذهب، وتجارته، وهم يمتلكون ثراء لافتًا بالموروث الشعبي الذي يرتبط بالذهب.
ويُمكن أن نُطلق عليهم تسمية تُميزهم عن غيرهم من الشعوب والقبائل الأفريقية القديمة، وهي أنهم "شعب الذهب" في غرب أفريقيا، فالسوننك" من أقدم شعوب أفريقيا الذين اهتموا بالذهب، كما أنهم احتكروا تجارته لعدة قرون، ربما تبلغ في رأي البعض قرابة 900 سنة.
وعن احتكار "السوننك" لتجارة الذهب، يقول أحد الباحثين: "إن تاريخ السوننك، وامتداداتهم المدهشة في دماء الأسكيا (وهم حكام صنغي)، وآثارهم في جاو، وتمبكتو، واستمرار نفوذهم التجاري، وتجارة الذهب الذي تشير الروايات لاحتكارهم لها لمدة تمتد من القرن السابع إلى القرن السادس عشر (طبقة الماراكا)".