عاجل
الخميس 26 ديسمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
مصر.. غزة.. بالقطار  "6"

أكلة سمك.. قبل الرحيل

مصر.. غزة.. بالقطار "6"

قبل أن نغادر قلب مدينة غزة القديمة المعروفة اليوم بـ"البلد"، كان لا بد أن نزور المسجد العمري الكبير في قلب المدينة بحي الدرج جنوب شرق ساحة فلسطين بجوار سوق القيسارية (سوق الذهب)، وسوق الزاوية الأثري.



 

مساحته حوالي "فدان" 4100 متر مربع، ومساحة فنائه 1190 مترا مربعا. ويتسع لأكثر من 3 آلاف مصل.

يحمل بنيانه 38 عمودا من الرخام يعكس طراز الفن المعماري القديم، تحيط به أقواس دائرية، وتتوسطه قباب مرتفعة، وله 5 أبواب تخرج لشوارع وأزقة عريقة ينبعث منها تاريخ الحضارات التي استوطنت مدينة غزة، وهو من أقدم المساجد وأعرقها في قطاع غزة، أسس في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، يعد ثالث أكبر مسجد في فلسطين بعد المسجد الأقصى ومسجد أحمد باشا الجزار. كان معبدا في العصر الروماني ثم تحول لكنيسة، وبعد الفتح الإسلامي أصبح أكبر مسجد في قطاع غزة، وصفه ابن بطوطة بالمسجد الجميل.

 

كان المسيحيون في غزة يعتنقون دينهم بشكل سري، بسبب ما كانوا يواجهونه من اضطهاد وعمليات إعدام بشعة بحقهم من قبل الوثنيين، الأمر الذي أدى للجوء القديس الفلسطيني الأول "هيلاريون" إلى قبرص، حيث توفي هناك. وخلفه الراهب بريفيريوس الذي كان معه وعيّن راهبا لمسيحيي غزة، لكنه لاقى ممانعة لدخولها، وتزامن ذلك مع فترة جفاف وجوع شديد عمت المدينة لأكثر من 6 أشهر، اعتبرها بعضهم عقابا إلهيا.. لأمر الذي جعل الوثنيين يتوجهون لبرفوريوس ليدعو الله لحل هذه الأزمة، فاستضافوه في المعبد، وعندما رُفعت عنهم الغمة طردوه ولاحقوه بتهمة التخطيط مع ربه للتشكيك في عبادة آلهتهم.

 

ذهب برفوريوس للقسطنطينية عاصمة الروم (إسطنبول حاليا) يشكو إلى أفذوكسيا "هيلانا" زوجة الإمبراطور الروماني "ثيودوديوس الأول"، ما يعانيه المسيحيون من اضطهاد وتعذيب من الوثنيين بمساعدة الوالي الروماني على غزة "إيلاريوس"، الذي سمح بتماديهم مقابل رُشَى يدفعونها له. وعدت "أفذوكسيا" برفوريوس بأن تضع حدا للوثنيين بغزة، ولحاكمها الفاسد، بعد وضعها أول مولود لها الذي أصبح لاحقا إمبراطور الدولة البيزنطية "ثيودوديوس الثاني"، وفعلا بعد ولادته انطلق أسطول من جيش الروم لتحرير مدينة غزة من الوثنية، بأمر من زوجها "ثيودوديوس الأول"، ونفذ مذبحة بحق الوثنيين سقط على إثرها أكثر من 10 آلاف شخص.. ثم أمرت أفذوكسيا بدفن الصنم زيوس تحت الأرض، وتحويل المعبد الوثني لكنيسة سميت باسمها، وذلك في القرن الخامس الميلادي، وأعلن رسميا انهيار دولة الوثنيين بغزة واعتبرت المسيحية الدين الرسمي لها. 

 

رغم أن غزة كانت آخر مدن المنطقة اعتناقا للمسيحية، فإنها من أولى المدن التي دخلها المسلمون، وذلك عام 635 ميلادي بقيادة عمرو بن العاص، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب . اعتنق أغلبية سكان المدينة الدين الإسلامي، وكان أول ما قدموه للمسلمين أنهم طالبوا بتحويل أكبر كنائس القطاع وهي كنيسة "أفذوكسيا" إلى مسجد، لتصبح "الجامع العمري الكبير".

 

تلاحقت الحملات الصليبية على قطاع غزة، ودمرت الجامع العمري الكبير وأنشأت على أنقاضه كنيسة القديس يوحنا عام 1149، وبقيت قائمة حتى أعاد صلاح الدين الأيوبي بناءه مجددا بعد انتصاره على الصليبيين عام 1187. بقي المسجد على حاله حتى أواخر القرن الثالث عشر الميلادي في عهد المماليك، عندها خضع لعدة إصلاحات  وتجديدات معمارية، إلا أنه هدم تماما على يد المغول، ثم أعاد المماليك بناءه مجددا وتوسيعه بعد عدة سنوات.

 بني المسجد من الحجر الرملي الكركي، تزين فناءه الخارجي زخارف تضفي عليه السمة الإسلامية، إضافة لأقواسه الدائرية. ومئذنته الشامخة بزخارف متنوعة تحمل الطراز المعماري المملوكي، التي بنيت بشكل مربع في نصفها السفلي ومثمنة في النصف العلوي المؤلف من 4 مستويات.. تحول هذا الصرح التاريخي إلى مسجد بعد الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي، وأطلق عليه اسم "الجامع العمري" تكريما للخليفة عمر بن الخطاب، و"الكبير" لأنه من أكبر مساجد قطاع غزة. 

                                                                   

بعد انتهاء جولتنا، واصبحت رحلتي على شفاه الرحيل، وهو أقسى أنواع الرحيل لبلد أحببتها ، ومع الأسف لم أعد لها، حتي اليوم ، وتفرّق اصدقائي الفلسطينيين، منهم من ذهب إلى بيروت أو لندن.. قبل أن نفترق ليعود كل واحد إلى أهله، ومقر هجرته، دعاني الأصدقاء بناءً على رغبتي فى تناول طبقي المفضل من الاسماك، الدعوة التي قبلتها فرحاً كانت بأحد مطاعم سلسلة  تحمل اسم عائلة  "أبو حصيرة" والمنتشرة بمحاذاة شاطئ غزة وهي الأقدم في الأراضي الفلسطينية، منذ أن  ترك عشرات من أفراد عائلة أبو حصيرة قبل عقود مهنة صيد السمك، وبدأوا التجارة به ، وتقديم وجبات السمك ذات المذاق الغزّي في مطاعمهم المنتشرة على الواجهة البحرية والتي لا يعمل فيها سوى طهاة محليين.

  إذ تأسس أول مطعم "السلام" في 1955 وما زال موجودا.. وهي تقدم أطباق السمك الحارة المميزة، رحب بنا أحد افراد العائلة واختار لنا طاولة جميلة تطل على البحر، معرفاً بنفسه "أنا عيد أبو حصيرة  عميد الأسرة، "أنا آخر صياد في العائلة"، مستذكراً الفترة "الذهبية" عندما كان يصطاد كميات كبيرة من السمك. أخبرني معين بسيسو وهو "زبون" دائم فى المطعم، إنه مع شروق الشمس، يتجمع بعض التجار وأصحاب المطاعم في سوق السمك (الحسبة) للبحث عن السردين الذي جمعه الصيادون في غزة حيث يعتاش نحو 5 آلاف فلسطيني من مهنة الصيد. 

في قلب ميناء الصيادين في مدينة غزة، يراقب الابن منير أبو حصيرة ما جمعته شباكهم ليلا من ثمار البحر ليختار الأنواع المميزة منها، إذ إنه يبحث عن الأسماك المميزة مثل اللقز والروبيان (الجمبري) الكبير. من أجل استخدامها في إعداد أطباق حارة خاصة بمطاعمه العريقة والشهيرة. 

ينضم لنا منير ابو حصيرة ليعود بالذكريات إلى الزمن الذي كانت فيه والدته تعد له ولأشقائه صحن الروبيان من صيد أبيه، وطهوه بطبق "زبدية" من الفخار على الطريقة المغربية، لتصبح الزبدية أحد أهم أطباق قائمة الطعام في كافة فروع مطاعم العائلة في القطاع.  

ويؤكد كواحد من أصحاب مطاعم أبو حصيرة، أن طباخهم وأخوهم معين هو أفضل الطهاة في العائلة. وقد تدرب على الطهي في أحد مطاعم يافا حيث عمل وهو فتى.

 ويقول وهو يعد زبدية الروبيان مع الطماطم والصنوبر بفخر "هنا لا توجد مدارس لتعليم الطبخ، كل ما نعرفه تعلمناه من خلال تبادل الخبرة بيننا، لايمكن انكار أن سر الطهي في غزة يكمن في الفلفل الحار والتوابل".. فسلسلة المطاعم التي تحمل اسم عائلته "أبو حصيرة" والمنتشرة بمحاذاة شاطئ غزة هي الأقدم في الأراضي الفلسطينية، واستمتعت فيها بأشهي وأطيب وأطعم أكلة سمك، كانت حسن الختام لرحلتي.                                                       

وفي نهاية رحلتي استودعت أصدقائي الفلسطينيين ، وودعت بلد أحببته ولم أعد له، عدت لمحطة القطار التي تروي أفضل أيام الغزاوية، فقد كانوا خلال طفولتهم يركضون خلال القطار لدى مروره فرحا به حتى يتوارى عن الأنظار، والأهل وسكان القطاع يسافرون بالقطار إلى القاهرة دون قيود، والسكة تتكون من أربع خطوط، خطان للمسافرين واثنان للتجار والبضائع، فى رحلة تستغرق نحو 8 ساعات، ولكنّ سكة حديد قطاع غزة توقفت بعد "نكسة" حزيران 1967م، واحتلال اسرائيل للقطاع لم يعد القطار يقلّ تجارًا ولا مسافرين، ولم يسمح للفلسطينيين بالسفر من خلاله. وشعر الغزاوية بحسرة، حيث بات السفر صعباً من معبر  رفح، أو عبر حاجز بيت حانون لكن بقيت آثار تدلّ على ماضٍ كان هناك، وتركت مواطنين عايشوا تلك المرحلة وما زالوا يستذكرون تفاصيلها، ما زال محفوراً في ذاكرتهم تفاصيل تلك السكة التي كانت تمرُّ في المخيم.. لم يعد للقطار الوحيد الذي مرّ بالقطاع سوى قضبان حديدية صدئة، تذكر المسنين الذين عايشوا بتجاربهم الفريدة في السَّفر لمصر، أو لزيارة بلداتهم وقراهم التي خرجوا منها عام 1984، بينما يعيشون فى حصارٍ مستمر يمنعهم من التنقّل خارج القطاع.

 

اقرأ أيضاً 

مصر - غزة - بالقطار "5”  

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز