د. عزة بدر
الشهيد والطريق إلى الحياة
ونحن نحتفل بيوم الشهيد، الذي يوافق ذكرى استشهاد البطل الفريق أول عبدالمنعم رياض عام 1969 على جبهة قناة السويس أثناء حرب الاستنزاف، نذكر معه كل بطل استشهد فجعل لحياتنا قيمة ومعنى، دفاعًا عن الأرض، وعشقًا للوطن.
فالشهيد يبعث فينا الحياة، يسير بنا إلى الغد، يُعبّر عن الكامن فينا من وقدة الشوق إلى التضحية والفداء، ومن الروايات التي جَسَّدت صورة الشهيد حارسًا للوطن والناس رواية "الرفاعى" لجمال الغيطاني، والتي صَوَّر فيها بطولة إبراهيم الرفاعي أسطورة الصاعقة المصرية ورفاقه من أبطال الفرقة 39 قتال أثناء حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر 73، الرواية يصف فيها الشهيد فيقول:
جاء الرفاعي إلى الدنيا ليقاتل عن كل الذين مر بهم وعرفهم أو مشوا معه، وحاوروه في تلك القرى والمدن، كل من رآهم يرشفون الشاي في المقاهي، ويحتفلون بأعياد الميلاد، ويتناجون ويفكرون في أي شيء سيأتي به الغد، عن كل المارين بجوار مرقد الحسين، والدائرين حول ضريح الإمام الشافعي، والساعين والواهبين نذورهم لسيدي عبدالرحيم القناوي، وسيدي الليث، وهؤلاء السيدات المرتديات السواد المتجهات إلى الأسواق الصغيرة المقامة بين القرى، يقايضن ويجادلن ويدخرن القوت لأولادهن.
الشهيد كما نراه في الأدب هو الذي يرسم لنا طريق الحياة، وهو معنى عميق ارتبط بالوجدان العربي متأثرًا بالمعتقد الديني، وبالآية الكريمة:
"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون" (سورة آل عمران/ الآية 169).
وارتباط الاستشهاد ارتباطًا وثيقًا بالحياة معنى نلتمسه في أشعار الشعراء، فنرى الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان في قصيدتها "شهداء الانتفاضة" تقول: "رسموا الطريق إلى الحياة/ رصفوه بالمرجان، بالمُهج الفتية بالعقيق/ رفعوا القلوب على الأكف حجارة، جمرا، حريق/ رجموا بها وحش الطريق/ واشتدت وماتوا واقفين/ متألقين كما النجوم متوهجين على الطريق/ مُقبلين فم الحياة".
والشهداء هم "الأحبة"، و"الصحب"، و"الأحباب"، و"البدور"، و"الطيور الخُضر"، و"السرب المعشوق"، و"العناقيد المعلقة بالعرش"، كما يصفهم الشاعر الفلسطيني عبدالرحمن بارود كما يذكر أمير مقدم فى مقالته: "الشهادة والشهيد في الشعر العربى المعاصر"، والذي التمس أيضًا معنى استمرارية الحياة بعد موت الشهيد باعتباره انتهاء خطوة وبداية خطوة، ودفع الحياة إلى الأمام، متمثلًا قول الشاعر الفلسطيني محمود درويش مخاطبًا الشهيد: "نعيش معك/ نسير معك/ نجوع معك وحين تموت/ نحاول أن لا نموت معك/ ففوق ضريحك ينبت قمح جديد/ وينزل ماء جديد/ وأنت ترانا/ نسير / نسير /نسير".
لكننا نرى في أشعار درويش معاني أخرى للشهادة فهو يعدها عُرسًا، فيقول في قصيدته "طوبى لشيء لم يصل": "هذا هو العُرس الذي لا ينتهي/ في ساحة لا تنتهي/ هذا هو العرس الفلسطيني/ لا يصل الحبيب إلى الحبيب/ إلا شهيدًا أو شريدًا".
ثم يشير درويش إشارة ذات دلالة إلى ازدهار الحياة بالاستشهاد، حيث يصير الجسد وردة تكتمل عندما يُغيبه الرصاص فيقول: "دمهم أمامي/ يسكن اليوم المجاور/ صار جسمي وردة في موتهم/ وذَبَلتْ في اليوم الذي سبق الرصاصة/ وازدهرتْ غداة أكملت الرصاصة جثتي".
فداء وتضحية
وتحملنا دلالات هذه القصيدة المهمة "طوبى لشيء لم يصل" من ديوانه "محاولة رقم 7" إلى أبعاد أخرى نلتمس فيها الحس التاريخى المتأثر بالثقافة الشعبية المصرية، فعيد الشهيد في مصر عيد قديم، كتب عنه علي باشا مبارك في خططه التوفيقية فقال إن أقباط مصر كانوا يعتقدون أن النيل لا يزيد كل سنة إلا إذا أقيمت مراسيم عيد الشهيد فكانوا يلقون في النيل تابوتًا من خشب فيه إصبع من أصابع أسلافهم الموتى في اليوم الثامن من شهر بشنس، وقد ذكر المقريزى أيضًا هذا العيد، واعتبره من أنزه أعياد مصر.
وقد تأثر محمود درويش بهذا المعتقد الشعبي المصري وبدا ذلك في قصيدته في وصف الشهيد، وكأنه استلهم عيد الشهيد المرتبط بالنيل وفيضانه، وبضرورة الفداء والتضحية حتى يفيض، حيث ترتبط أصابع الموتى، وإلقاؤها في تابوت في النيل ببعث الحياة وفيضان النيل فيقول محمود درويش: "أتراك يا وطني لأن أصابع الشهداء تحملنا إلى "صفد"/ صلاة أو هوية/ ماذا تريد الآن منا/ ماذا تريد؟ / خذهم بلا أجر/ ووزعهم على بيَّارة جاعت/ لعل الخضرة انقرضت هناك".
والأصابع هي رمز القدرة الإنسانية فهي القادرة على التشكيل والعزف والغزل والنسيج، والعمل.
وأصابع الشهيد هي التي تضغط على الزناد، وتمسك بالسلاح وهي رمز للعطاء والتضحية.
ومن القصائد التي تعبّر عن ارتباط الشهيد بالأرض والوطن قصيدة "الشهيد وشجرة الزيتون" للشاعر الفلسطيني داود معلا إذ يقول: "لبيك وارتعشت تُقـﺑﱢلنى/ أوراقها الخضراء وتسقينى/ وتفئ لى من فيئها سكنا/ وأنا على أبواب تشرين/ يا شجرة الزيتون أي يد / قبّلت راحة كفها دونى/ أهوى إليك فإن وقعت على/ هذا التراب فذاك يكفينى/ أطوى على تلك الجذور يدى/ وأشهدها نحوى فتطوينى".
لقد تغنى الشعر العربي بالبطولة وبالشهداء قديمًا وحديثًا، فكان موضوع الشهادة والشهيد رافدًا من روافد الشعر العربى، وعاش في المخيال الجمعي من خلال قصائد ونصوص إبداعية تميزت بالرهافة والصدق.
وكما ينشد الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري تحية للشهادة والشهيد فيقول "يوم الشهيد: تحية وسلام/ بك والنضال تؤرخ الأعوام/ بك والذي ضم الثرى من طيبهم/ تتعطر الأرضون والأيام / بك يُبعث الجيل المحتم بعثه/ وبك القيامة للطغاة تقام".
وكما تعطر الشعر العربي بسير الشهداء، وتغنى ببطولاتهم تعطر السرد القصصي والروائي ليسجل بحروف من نور ذلك المجد، وتلك البطولات الخالدة.. وللحديث بقية.