آرون بوشنيل الفخر الأمريكي.. قراءة ثقافية

آرون بوشنيل.. إنه الفتى الرائع طار إلى السماء لتستقبله ملائكة الرحمة، ندعو الله عز وجل أن يغفر له ويتقبله في باب شباب الشهداء في واسع جناته، وأن يقبله فهو ربه الذي وضع في قلبه كل هذا الحب وكل تلك المشاعر الرقيقة لنصرة الحق، إذ قال: "لن أكون متواطئاً بعد الآن في الإبادة الجماعية".

إنه يوم الاثنين السادس والعشرين من فبراير 2024، يوم مدهش يعيد للشعب الأمريكي الفخر، ويعيد للحلم الأمريكي المعاصر معناه حراً محتفلاً بقيم العالم المعاصر ليؤكد أن الشعب الأمريكي هو شعب بالغ الطيبة كما يكتب عنه كل الذين تفاعلوا مع البشر هناك.

ولهذا الشعب أكبر تحية تقدير واحترام من هنا من مصر أول شعب صنع الحضارة في التاريخ الإنساني.  ولأن الحضارة حق وخير وجمال، فقد انحاز الشاب الرائع لتلك القيم الحضارية وإذ تتكتم الإدارة الأمريكية حتى الآن تفاصيل تاريخ مشاركة الطيار الرائع من سلاح البحرية الأمريكية في طلعات جوية سابقة على قطاع غزة، أو مشاركة في عمليات إسناد ودعم أو عمليات ردع عسكري أخرى أدت إلى شعوره بالذنب والعطف على الأبرياء المدنيين في فلسطين، والذين تتم ضدهم عملية إبادة جماعية أمام سمع وبصر العالم كله. وبتحليل المشهد الصادم، والذي أشعل فيه آرون بوشنيل النار في نفسه مردداً: "الحرية لفلسطين".

ويتبادر إلى العقل السليم أولاً السؤال عن تاريخ مشاركة الجندي في عملية الإبادة الجماعية الدائرة الآن، ثم السؤال عن تاريخه الشخصي، وليس إحالة الأمر لشرطة الكحول والتبغ كما تصرفت الإدارة في واشنطن. لأنه من المعروف أن سلاح الطيران وسلاح البحرية الأمريكية لا يقبل من لهم تاريخ مع الإفراط في الكحول، كما تفرض قواعد الطيران الحربي قدرات نفسية وجسدية ومهارات ذهنية من المستوى الرفيع كي يمكن للطيار المقاتل أن يدخل الخدمة، وأن يبقى محتفظاً بملابسه الرسمية التي ارتداها لحظة الخلاص من الشعور بالذنب لحظة الانحياز للحق والخير والجمال.

الثبات العصبي والانفعالي والحركة المنتظمة وانتصاب القامة وبراءة الوجه تبدو على الرجل لحظة إقدامه على الاحتجاج الإنساني الطاهر البريء، لحظة أن تدفق وترقرق واندفع وانفجر محبة وإنسانية.

لقد فعلها وهو يبث نفسه عبر شبكة الإنترنت من خلال بث مباشر هو التدفق والانعتاق الروحي الأكثر إلهاماً للأفراد المشتاقين إلى صفاء الروح الإنساني وقبل السلوك البشري، عندما تعبر الفكرة عن نفسها عبر الفعل، وعندما تتطابق الفكرة مع القدرة، حتى لو كانت تلك القدرة هي إفناء الذات انحيازاً وانتصاراً للفكرة.

إنه سلوك الشعراء المتطرفين في الإنسانية، إنه سلوك سقراط النبيل الذي تجرع السم من أجل الحقيقة واحترام القانون، واكتب عنه الآن سطوري هذه من مقترب نقدي ثقافي يستخدم التحليل الدرامي للمشهد الهام الذي لا يمكن للنقد الثقافي أن يتجاوزه.

إنه احترام إنساني للقانون الإلهي والبشري العادل بمنع الإبادة الجماعية.

إذ إننا أمام أول عملية متطرفة جداً تقاتل فيها الفكرة الحاكمة لشخص ذاته نفسها، ويقوم الضمير المتألم جداً بإيذاء البدن إعلاء لحريته وخلاصه ونبله الروحي.

أكاد أقطع بأن آرون بوشنيل هو أمريكي تربى في أسرة محترمة متحفظة تحتفل بالذهاب للكنيسة والصلاة للرب، وتؤمن بمسؤولية الفرد عن الشر وعن الخير، كما تؤمن الأغلبية من الشعب الأمريكي.

إنه مسيح أمريكي طائر محلق طيار بأجنحة ملونة تذكرنا بالذنب والصليب والشهادة والحسين بن علي رضي الله عنه وأرضاه سيد شباب شهداء الجنة. إنه شهيد فكرته وحريته وإنسانيته المفرطة. وإذ أؤكد أن الانتحار فعل مرفوض تتفق الأديان السماوية والعقل الإنساني على رفضه، إلا أنني أسأل الله عز وجل أن لا ينظر له كمنتحر، وأؤكد أن عذاب الضمير الإنساني هو ما جعله شاهداً ونذيراً وقاضياً وجلاداً، وفي هذا نسأل الحي القيوم أن يتقبله بواسع رحمته.

إنه مشهد مدهش لم يتحقق عبر تأثير الصور والإعلام والضغط العصبي للصور الصادمة للإبادة الجماعية، بل تحقق عبر خبرة مباشرة من رجل من شباب البحرية الأمريكية.

أما السلوك العفوي أيضاً لهذا الشاب الحلم، فهو اختياره لمنصة بث مرئي حي تملكها شركة أمازون، وهي منصة Twitch والتي لم تحتمل تلك الصدمة فحذفت البث المباشر من محتواها، وهي مسألة تستحق توجيه سؤال للمنصة عن احترامها للحريات الشخصية للمستخدمين وهى تلك الحرية التي تحرص عليها في كل أنواع البث المباشر التي تتيحها.

ويبدو أن ذلك الشاب المقاتل مفرط الحساسية كان يمارس عليها مع الشباب حول العالم الألعاب الرياضية الإلكترونية ومشاهدة الحفلات الموسيقية والاستعراضات التمثيلية الضاحكة.

إلا أنها لم تحتمل الاحتفاظ بأصدق وأثمن ما جاء في بثها المباشر من محتوى.

فهل تتحرك الطبقة الحاكمة الأمريكية والإدارة الأمريكية تحركاً إنسانياً سياسياً، يستند إلى ضرورة إدراك الإدارة الأمريكية بأن مصلحتها السياسية باتت تتضرر كثيراً بسبب انحيازها المطلق للكيان الصهيوني، وهى تحتاج لمراجعة ذلك الانحياز، حفاظاً على مصالحها ومستقبلها في عالمنا المعاصر.

احتراماً لهذا الجندي المقاتل الذي خاض أعظم معركة يخوضها الجندي في الحياة وهى معركة الإنسان مع نفسه. الصدمة كبيرة لاشك، ورغم غياب المعلومات والتعتيم الإعلامي المتعمد عن آرون بوشنيل وتاريخه وأسرته ومحيطه الاجتماعي والثقافي ورغم رفضنا الإنساني والأخلاقي والديني لهذا الانتحار كما بدا واضحاً، إلا أننا نسأل الله لطفاً ورحمة ونسأل الناس والبشر والعالم المتحضر إدراكاً ووعياً واحتراماً لهذا النداء الأكبر، نداء المخلص الذي دوى في ضمير العالم المعاصر متدفقاً منفجراً مترقرقاً كجدول في نهر الإنسانية، كعصافير الجنة الملونة التي تدعونا للاحتفاظ بشعورنا بالمسؤولية والندم.

ليس بعد ذلك إلهاماً ولا إبداعاً ولا خيالاً ولا صوراً مدهشة.