وليد طوغان
متى يتطرف المسلم؟!
في الغالب ترتبط المشاعر الدينية بالجغرافيا.. لذلك ففي الشرق المسألة الدينية أكثر حساسية وأشد تعقيدًا.
بدأت الحضارات الإنسانية من الشرق. وفي العالم القديم نشأ التزام القبيلة الأولى من إجلالها للمقدس.
الجد الأول للقبيلة الأولى كان هو الأكثر قداسة، لأنه في مفهوم المجتمع البدائي هو الأكبر عمرًا والأكثر معرفة، لذلك اعتقدوا أنه الأكثر قربًا للآلهة، وبالتالي هو الأكثر معرفة بما وراء الحياة المادية، أو هو الأكثر علمًا بمقاصد الآلهة.
لما نزلت الرسالات السماوية، استبدلت المجتمعات بالجد الأكبر، رجل الدين. واستقرت مكانة رجل الدين لأسباب منها أنه الأكثر علمًا شرعيًا، وبالتالي الأكثر قدرة على إيصال مقصود الله من عباده إلى عباده.
لكن أحيانًا، لا يكون الفقه المعيار الوحيد الحاكم، لذلك استقرت القاعدة الإسلامية على ما سمي بـ"الذوق السليم" في التفسير والتأويل وفي التفكير.
حدث أن قابلت ياسر السري في لندن عام 95 وهو إرهابي عتيد وأصولي متطرف. في الكلام، اتضح أنه شديد العلم بالقواعد الشرعية، وبتفريعاتها، وبأغلب أحكام مذاهبها.
هل تعتبره فقيهًا رغم إرهابه؟
سألت الراحل الدكتور أحمد عمر هاشم، استاذي خلال دراستي الفقه المقارن بكلية الدراسات الإسلامية عام 2002.. قال: ليس كل الفقه علمًا.. لكن نحسب من العلماء أصحاب الذوق السليم.
الفقه في اللغة هو الفهم، والفهم إذا اقترن به هوى، أو غرض، تحول، وتغير، وتلون لأن الغرض مرض.
يفهم الدين على ثلاثة: إما الدين كما أراده الله، وإما كما فهمه البشر عن مقصود الله، وإما الدين كما يجب أن يكون.
لذلك اختلفت في تعريف الدين الآراء.
قالوا إن الإسلام معاملات تصح بها الدنيا وعبادات تصح بها الآخرة.
وقيل إن الإسلام هو مفهوم الشارع من الشرع.
والشارع الأكبر هو الله، والشرع هو ما قصده الله من شريعته، وبالتالي فإن الإسلام الصحيح، هو المقصود السليم الذي فهمه البشر، واختبروه عما قصده الله من دينه.
تظل الأزمة والمعضلة، وأساس الخلاف، وأساس الفرقة، وأساس التطرف، هو مفهوم البشر عن مقصود الله.
قال ابن عباس: سيأتي بعدنا قوم، كتابهم واحد، ورسولهم واحد، ودينهم واحد، يقرأون آيات الله، فلا يعرفون فيما نزلت، فيؤولونها، ثم يختلفون في التأويل، ثم يقتتلون فيما اختلفوا فيه.
ربما أول من تكلم عن التطرف، كان ابن عباس.
والتطرف هو المفهوم القاصر لكتاب الله، وآياته سبحانه. أو هو التلاعب بالمقصود من آياته سبحانه، غرضًا أو هوى.
مع الخلل في الفهم، أو السوء في التأويل، ينشأ التطرف، وتشتد حمى القتل والإرهاب، مرات بحجة كتاب الله، ومرات بحجة أوامر رسول الله، مع أن الله لم يأمر بتطرف، ومع أن رسوله الكريم لم يحدث أن أقر مرة قتلًا ولا سفك دماء ولا الاعتداء على حرمة.
لم يحدث أن أمر الله برفع كتابه فوق أسنة الرماح طلبًا لحكم، ولا أمر سبحانه بأن تقطع الرقاب، وأن يرفع السلاح في وجه الدولة وفي وجه رجل الشارع البسيط طلبًا للحكم، ورغبة في السلطة.
لكن لما ينشأ التطرف، تخرج الجماعات من تحت الأرض، ويخرج الانتهازيون الربانيون من بطون الجحور، ليؤولوا الإسلام، فيدعون بالتأويل، ويقتلون به على الخلاف وعلى الاختلاف.
لما ينشأ التطرف، يتستر الثعابين بملابس أهل الدين، ويستعير الشياطين غصبًا ملابس الرهبان، فيقتلون وهم يرفعون شعارات الإسلام دستورًا، والله غاية، وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة.. خلاصة.
لماذا خاطب الرئيس السيسي الأئمة في الأكاديمية بوصفهم حراس الحرية؟
لأن الدين حرية.. يكتسب الأئمة مكانتهم من العلم الشرعي.
والعلم الشرعي بالفقه السليم عاصم من الشطط ومن التطرف، وهو العاصم من التهاوي.
العلم الشرعي السليم، هو أقرب التصورات البشرية، لمقصود الله من شرعه. لذلك فإن العالم، هو افتراضًا، أقرب البشر إلى فهم مراد الله من شريعته.
ليس في الإسلام كهانة، ولا كهنوت، هذا صحيح، لكن الإمام لا يُحسب على مفهوم الكهانة، إنما يُحسب على مدارك العلوم.
في عصور الاضطرابات، تظهر الأهمية القصوى للفهم الصحيح للدين.
وفي عصور الإرهاب، والتأويل المحرم، والخداع باسم كتاب الله، والمناورة باسم سنة رسوله، تلوح الأهمية الأكبر في علم سليم بلا غرض، ولا هوى.
صحيح ليس في الإسلام احتكار للعلم الشرعي، لكن في الإسلام أيضًا، أن العلوم الشرعية أساس للدخول إلى فهم مقاصد الله، وبالتالي القدرة على نقل مقاصده سبحانه، من آياته البينات إلى مجتمع يسعى إلى السلام النفسي، والهدوء الجمعي.
تصح مجتمعاتنا، ومجتمعاتنا بالذات، لو صح فيها الدين.
















