د. حسام عطا
في محبة الأستاذ.. وداعًا يعقوب الشاروني
عن عمر ناهز الثانية والتسعين عاماً رحل الكاتب المصري الكبير يعقوب الشاروني، الذي ننعى فيه جيلا كاملا من أهل الفنون والثقافة في مصر.
إنه القاضي المصري رجل القانون الذي بحث عن العدالة والإنسان (10 فبراير 1931 – 23 نوفمبر 1931) فوجد حضورها في عالم الفن الذي كان قد انجذب له، فكتب مسرحية أبطال المنصورة لتحصل على جائزة الدولة التشجيعية في المسرح عام 1960.
ثم تقدم للعمل بالهيئة العامة لقصور الثقافة، التي كانت باسم الثقافة الجماهيرية مديراً عاماً لمديرية الثقافة ببني سويف ليصادق القطار في الصباح المبكر ويعود في المساء إلى منزله بالمنيل.
كان في رحلة بحثه عن موهبته الأصلية وفي سعيه لاكتشاف ذاته، قد وقع في محبة الأطفال، وفي انجذابه الكبير لعالمهم الصادق العادل، كان قد وجد ضالته، حيث يمكن للعدالة أن تتجلى في عالمهم الذي لا يعرف الخداع.
ولذلك كان هو ذلك الرجل الذي ترك هيئة قضايا الدولة ليشتبك مع قضايا المستقبل في ثقافة الطفل المصري. كنت أعرفه طفلاً يذهب إلى مركز ثقافة الطفل، إنه ذلك الرجل الذي يأتي إلى قصر ثقافة أسيوط مسقط رأسي ومعه الفانوس السحري لتظلم القاعة ونشهد معه لحظات من السحر والخيال والجمال.
منح كل قطعة من أرض مصر من شمالها لجنوبها ذلك الحضور، إنه الحكواتي المعاصر الذي عرفته بحضور الشخصي أجيال من الأطفال صاروا الآن آباء وأمهات وأجداداً وجدات.
وعلى مدار عمره المديد الذي أوقفه للعمل اليومي الصوفي مع كل المؤسسات ذات الصلة بثقافة الأطفال.
كما أنه كان داعماً وكشافاً للمواهب، وكم دعم ووجه وتبنى وقدم كتاباً جدداً في مجال ثقافة الطفل.
وله إسهامه البارز كأستاذ زائر بعدد من جامعات مصر، وخاصة جامعة حلوان كأستاذ لأدب الطفل في أقسام الدراسات العليا، كما ناقش وأشرف على عدد كبير من أبرز رسائل الماجستير والدكتوراه في مجال ثقافة الطفل، وقد تشرفت بأن كنت مشرفاً على رسالة ماجستير شاركني فيها الإشراف، وأخذ الباحثة سيادة نايل إلى عالم علمي دقيق، وكعادته فتح لها قلبه ومكتبته النادرة الخاصة، وكانت الرسالة بعنوان خصائص الدراما الشعرية للأطفال "أحمد سويلم نموذجاً"، وهكذا فعل معي في بداية مشواري المهني.
وكنت قد تشرفت بمحبته، إذ شاهد لي مسرحية اسمها أسد وأرنب في مسقط رأسي أسيوط وكنت طالباً في السنة النهائية بكالوريوس المعهد العالي للفنون المسرحية، وبعدها بعام وجدته يبحث عني وهو رئيس المركز القومي لثقافة الطفل كي أعمل معه مخرجاً في مجال المسرح، وكانت حواراتي معه بمثابة الدروس الأساسية في عالم ثقافة الطفل، منحني خلالها رحيق تجربته المهنية وفهمه لأمهات الكتب، التي احتشدت في بيته العامر الذي تجد الكتب فيه في كل مكان تتحرك داخله، فقدمت معه في دار الأوبرا المصرية في عام افتتاحها عام 1988 مسرحية الطائر الأزرق لموريس ميترانك، ترجمة يحيى حقي، ثم صنع عالماً إنتاجياً داعماً وشفافاً ومثقفاً وناقداً وحامياً، كي أقدم مسرحية البئر العجيب عن حكاية من كتابة أجمل الحكايات الشعبية عام 1990، لتسافر إلى مهرجان بوردو الدولي لمسرح الأطفال وتحصل لمصر على جائزة أحسن عرض مسرحي في هذا المهرجان الدولي.
ثم قدمت له من مجموعة أجمل الحكايات الشعبية التي وقعت في غرامها مسرحية نخلتين في العلالي لجمهور الكبار، بمعالجة غنائية اعتمدت على عالم البراءة والعدل والعناية الإلهية للإنسان الطيب كما جاءت في الحكاية الشعبية المصرية 1998 بمسرح البالون، وقد شهدت المسرحية قامات إبداعية وكانت من بطولة الفرقة القومية للفنون الشعبية وتمثيل أحمد الشافعي وغادة عبد الرازق، ومن سحر تصميم استعراضات المبدع المصري الكبير كمال نعيم رحمه الله رحمة واسعة.
ثم استمر ولعي بالمجموعة ذاتها لأقدم الثالثة منها، وهي أمير الخيال 2006 على مسرح السلام بالقصر العيني، وقد حظى العمل ببطولة الفنان المصري العبقري عبد المنعم مدبولي، وقد كانت الثالثة للأطفال.
وقد كانت الجوائز والمناصب ومقاعد اللجان آخر ما يفكر فيه، وأول ما يمكن تركه عندما يختلف مع السياق الذي لا يوافق عليه.. كان يبتهج عندما يتخفف من تلك الأعباء كي يعود ليكتب.
الكاتب يعقوب الشاروني كان يكتب بالأقلام الرصاص كما أعتاد القضاه على كتابة مسودات الأحكام، لأنه في الإبداع لا شيء يستعصي على المراجعة.
وكان من عادته العمل المنتظم بصحبة سكرتيرته الأمينة السيدة عزة في مكتبه الخاص ما لا يقل عن أربع ساعات عمل كتابة ومراجعة يومياً.
أما أن يقرأ فقد كان يقرأ في كل مكان، وكان القطار والطائرة والسيارة بالنسبة له وقتاً مهماً للقراءة.
كان يقرأ في كل المجالات، وكانت مسألة التعليم العام في مصر همه الشاغل، وكانت له يد في معظم مكتبات الأطفال العامرة التي حرصت على إنشائها الدولة المصرية.
كانت نصيحته الأثيرة لي، التي أنقلها عنه لكم لأنها ثمينة جداً.. يا حسام يجب أن تعمل على عشرة مشروعات محتملة كي يمكن للظروف العامة أن تسمح بأن يتم إنجاز مشروعاً واحداً منها.
وقلت له والتسعة. قال: في باب الأحلام القابلة للدراسة. علمني أن اللحظة التي أفرغ فيها من الاهتمام بمشروعات ثقافية هي لحظة الضياع. أما عن الضحك والبهجة والائتناس والتواصل الإنساني فأنت محظوظ جداً، إن وافق الشاروني على أن تكون صديقه.
وقد تنوع الإنجاز الثقافي الكبير له ما بين القصة والرواية والمسرح والحكايات القصيرة الرائعة، والدراسات العلمية النادرة في مجال ثقافة الأطفال، والتي جاوزت أربعمائة كتاب.
وقد منح الصحافة وقتاً كبيراً أيضاً، لكنه صاحفها حريصاً على عمله الإبداعي فكان أن حكى لأطفال مصر والوطن العربي ألف حكاية وحكاية في بابه الشهير بجريدة الأهرام من 1981 حتى 2008م.
وكان خريج كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1952 ابن طبيعة التغير الاجتماعي في مصر حريصاً عليه بالتعليم والكفاءة، حريصاً على استكمال فهمه للقانون، فقد درس دبلوم الدراسات العليا في الاقتصاد السياسي 1955، ثم حصل على دبلوم الاقتصاد التطبيقي 1958.
وقد كان فهمه العميق لمجريات السياسة والاقتصاد في مصر يقف كمرجعية له وكطريقة في تأمل نبض مصر يوماً بيوم، وانعكس ذلك الفهم المدقق للعدالة على إبداعه وأدبه ودراساته وسلوكه الشخصي نادرا الانضباط.
حصد يعقوب الشاروني عدداً كبيراً من الجوائز، لعل أبرزها جائزة أفضل كتاب على مستوى العالم في معرض بولونيا الدولي لكتب الأطفال وجائزة الدولة التقديرية في مصر عام 2020.
ولأن مصر تعرف الأبناء المخلصين، فقد اختار قائمة بأهم عناوين كتبه قبل رحيله، لأنه هو شخصية معرض كتب الأطفال في معرض القاهرة الدولي للكتاب المزمع إقامته هذا العام، ويعقوب الشاروني هو شخصية الدورة الخامسة والخمسين.
أيقونة مصرية في عالم الثقافة والإبداع للأطفال.. صاحب إسهامات في إثراء التراث المصري والعربي والإنساني.
الأستاذ يعقوب الشاروني وداعًا.. ستبقى للأجيال القادمة بهذا الإنجاز القيم وأحسبك بخلقك وإنسانيتك وعملك بالغ النفع لمصر الحبيبة في جنة الخلد وفي الفردوس الأعلى إن شاء الله.