
د.عاطف أبوسيف يكتب: يوميات 13 تشرين الأول 2023 في غزة

نمنا على آلام المذبحة الرهيبة التي تمت في شارع حارتنا في المخيم. تم قصف بيت لعائلة حلاوة نعرفه ببيت الحاج فوزي رحم الله. الأخبار الأولية تحدثت عن 14 شهيداً لأعرف أن الرقم وصل 27. شارع حارتنا قصة. فهو بالنسبة لنا نحن اللاجئين من يافا اسمه شارع اليافوية، وبالنسبة للاجئين من قرية هوج اسمه شارع الهوجا. ورغم أن أهل المخيم يتبادلون الإشارة للشارع بالاسمين إلا أن اسم شارع «الهوجا» طغى في الفترات الأخيرة. يمتد الشارع من بركة أبو راشد غرباً ويتجه شرقاً ليتقاطع مع شارع الترنس. تجاورنا نحن وأهل هوج منذ فجر النكبة وكوّنا سوية حارة جمعت بين تقاليد وعادات المدينة وتقاليد وعادات القرية، لكننا وعلى مدار عقود سبعة حافظنا على شكل الحارة وكنا دائماً كأسرة واحدة. ثمة الكثير من القصص والحكايات التي يمكن سردها حول ذلك، لكن المؤكد أن حارتنا ظلت من أكثر حارات المخيم شهرة. حملة من الأسباب وراء ذلك ربما بنظري أنها من القلة التي مازالت تحتفظ بخصائص الحارة، فالناس تظل جالسة على الشارع في جماعات حتى ساعات متأخرة جداً من الليل، وهناك تضامن وتشارك عالٍ بين أهلها. هناك إلى جانب ذلك جملة أخرى من الحقائق، فالانتفاضة الأولى بدأت من الحارة باستشهاد الصديق حاتم السيسي وهو لاجئ من هوج، كما كانت دائماً طوال فترات الانتفاضة بؤرة أساس من بؤر الاشتباك بين المواطنين وجيش الاحتلال.
لم تنم حارتنا تلك الليلة. ظلت تبكي وتندب حظها العاثر. قبل أن أنسى.. البيت الذي تم استهدافه كان بيت الحاج فوزي وذريته تسكن فيه الآن، والحاج فوزي كان صاحب طريقة وله فرقة صوفية تخرج في المواسم تهلل وتمدح وتدق الدفوف وترفع الرايات المزركشة. وعيت على الدنيا في طفولتي على صوت فرفته تنشد مدائح للنبي وترفع راياته. وهوج سرقها شارون وأقام فيها مزرعته وكان يطيب لجيراننا «الهوجة» العمل في مزرعة شارون حتى يظلوا قريبين من كرومهم السابقة وما تبقى منها. قبل يومين وخلال جنازة دفن أحد أبناء الحارة الذين ارتقوا في مجزرة الترنس رأيت ماهر نمر يحث الخطى خلف النعش المحمول على الأكتاف. رفع لي يده. كان يفصلنا بضعة أمتار وقال لي «الخاطر واحد»، وهذه تقال حين يكون الفقيد يعز على الطرفين، وبوصفنا اولاد حارة فإن خسارة أي فرد منها هي خسارة لنا.
كان ماهر ليلة امس يجلس كعادته على الشارع يزجي الوقت حين تطايرت كتل الأسمنت من البيت المقصوف وقتلته. هكذا يموت بلا تخطيط ولا ألم وبلا انتظار. صحيح أن انتظار الموت صعب وصعب جداً، لكن أن يقع فجأة أيضاً يؤلم أكثر. أقله يؤلم من يحبوننا لأنهم لم يهيئوا أنفسهم للحظة الفقد المشؤومة. كان ماهر شهماً وابن بلد كما يقولون وكنت قلّما رأيته دون أن أقف معه لعبارات قليلة تشي بعمق الزمن الذي عشناه سوية كجيران. ذهب أكثر من عشرين من أبناء الحارة الذين أعرفهم. وبين الخراب ظلت اليافطة الجلدية التي تمتد في عرض الشارع ترحب برمضان واقفة مثل قمر ينتظر الفرح، وذهب الفرح بعيداً مثل نسمة تختفي في عب الموج.
اتصلت بإبراهيم اطمئن على والدي وعائلتي. كلنا بخير. طبعاً إجابة مجازية تعني ان أفراد العائلة لم يصب منها احد. سألت عن أختي امينة التي تسكن في البناية المقابلة فقال إنها انتقلت للعيش مع والدي في البيت من يومين. الآن بيت العائلة في قلب المخيم يتجمع العشرات.
سماح أختي التي وضعت طفلها قبل الحرب بيومين وتسكن قرب البحر في منطقة العطاطرة، انتقلت منذ اليوم الأول لبيت أهلي ثم غادرت لمخيم الشاطئ عند أقارب زوجها لتفسح المجال أمام العشرات الوافدين لبيت العائلة الصغير. صديقي محمد المقيد أيضاً خلال النهار سقطت شظية في بيته أصابت عنق زوجته معلمة المدرسة وهي في حالة غير مستقرة. حاولت الاتصال به للاطمئنان أيضاً ولكن الشبكة معطلة والاتصال صعب في الكثير من الأحيان.
توقف الانترنت عن بيت الصحافة، فالبطارية التي تغذي المقسم والذي نجحنا في تأمينها فرغت ولأن الكهرباء لا تعمل إلا عبر الطاقة الشمسية توجب علينا أن نحافظ بأكبر قدر ممكن على ما يتوفر لدينا، لذا كنا فقط نضيء الغرفة التي نجلس فيها ولا نشعل أي ضوء آخر. حتى «لابتوباتنا» وهواتفنا توقفنا عن شحنها في الليل حتى الصباح حيث تسطع الشمس وتبدأ بتغذية البطاريات. أيضاً لم يعد عندنا ماء إلا ماءً ساخناً، حيث ان تنك الماء البارد فرغ، لذا توجب علينا أن نحافظ على ما نملك. جزء من هذا يعني تقليل استخدام الحمام بالقدر الممكن. واصلنا دردشتنا. حِكمت رفض أن نُشعل النراجيل في الحديقة. عبد الله قال: الليلة الدنيا مكتّمة والجوّ كئيب وكلنا نشعر بالخنقة. هذا يعني أننا نستطيع أن نشعل النراجيل داخل الغرفة ذاتها التي نجلس فيها جميعاً. بعض الصحافيين جاؤوا وافترشوا الممرات وناموا.
كانوا منهكين متعبين. جلسنا لساعة أخرى نتحدث ونحلل كالعادة، وكلنا لم يستطع أن يخف اليأس الذي بدأ يعشش في روحه وينهش استقراره. ليس إحباطاً وليس توجعاً بل يأساً وعدم مقدرة على تبصر القادم، وهذا كان يؤلم أكثر.
انتهيت.. استويت. لم أعد قادراً على التحمل. فرشت فرشة في الغرفة الطرفية بجوار الحديقة الخلفية بجوار ابني ياسر وتمددت للنوم. عند الخامسة صباحاً كان الجميع مستيقظاً يتناقشون في مواضيع ساخنة، لم أقاوم الضجيج، ساورني أن ثمة شيئاً ما يقلقهم. قالوا إن ثمة تعليمات من الجيش لسكان غزة وشمالها بالتوجه جنوباً. هززت رأسي غير مصدق ثم قلت أفضل أن ننام. قال أحدهم الأمر ليس مزاحاً ولا إشاعة سوشال ميديا.
لا أحد منا لديه تواصل على الانترنت. أحدهم قال إنه تلقى اتصالاً من صديق يخبره بذلك. عدت للنوم. عند السابعة صحوت على صوت أخي محمد يوقظني ويقول «لازم نخلي». سألت بقلق : هل اتصلوا؟ قال لا ولكن الصليب الأحمر يخلي والمنظمات الدولية تخلي موظفيها. قلت: لا يجب أن نصدق هذا. أشار للباب الخارجي وهو يقول إن موظفي الصليب وعوائلهم يتجمعون الآن امام مقر الصليب على بعد عشرين متراً من البناية وتنقلهم سيارات الصليب إلى مقر آخر للمنظمة الدولية في دير البلح.
لحقت محمد إلى الباب الخارجي وكان الأمر كما قال. تجمعنا قرابة عشرة أشخاص كلهم صحافيون على الباب. قطة خائفة تجلس فوق طاولة محل المناقيش تنظر بقلق إلينا. يبدو عليها الرعب والهزل. كلب ضال وقف على الجهة المقابلة في الشارع، لا يلهث لا ينبح. فقط تبدو عيناه زائغتين تقولان إنه لا يفهم شيئاً مثلنا. كلنا حائرون، كلنا نشعر بالضياع، كلنا نبحث عن قشة للنجاة.
استقر الرأي بعد نقاش طويل ان نبحث أمر خروجنا إلى الجنوب بعد الظهر. قلت: لمحمد لنذهب إلى الشقة في الصفطاوي نجهز أنفسنا لكل احتمال. نستخدم الحمام بشكل جيد ونتجهز. وصلنا إلى هناك. ملأنا بعض الزجاجات الفارغة من بيت الجيران. استحممت. تناولنا بعض أصابع الحلاوة التي تركناها أمس. اقترحت على محمد أن نفرغ السيارة من كل ما قمنا بنقله لها من براويز وصور وتحف لسنا بحاجة لنقل ملابس وأغطية وفرشات معنا احتياطاً لما هو قادم. قام محمد بتحميل الفرشات والأغطية واكياس الملابس. انتهينا من كل شيء، بقي المنشفة الكبيرة وملابس بيتية. لم أجد ما أضعها فيها. تناولت الكوفية وقمت «بصرّها» فيها على شكل بقجة. كان المشهد مربكاً يشبه كل تلك الكوابيس المؤلمة عن النكبة. حملت بقجتي ونزلت للسيارة.
قبل قليل هز انفجار المنطقة، عرفنا أنه استهداف لمنزل عائلة من بيت أبو لحية تسكن عشرات الأمتار عن البناية التي أعيش بها. وعرفنا أيضاً أن 15 فرداً من العائلة زهقت أرواحهم. صار الموت أمراً عادياً وصار القصف أمراً روتينياً وصار الانفجار مجرد صوت آخر. وراء كل قذيقة حكايات فقد.
ووراء كل انفجار تناثر لذكريات خصبة، ووراء كل هزة انزياح لزمن مختلف، ووراء كل زعيق سيارة إسعاف أملٌ يموت وآخرُ ينتفض من النسيان.
الشوارع تعج بالناس. آلاف المواطنين يسيرون بلا هدي، لا يعرفون اين يسيرون ولا ماذا يفعلون، يجرون أطفالهم خلفهم ويحملون حقائبهم أو بقجهم ويحاولون الاستدلال على طريق يمر بها إلى الأمان، الأمان الذي لا يعرفونه ولا يدركون شكله لكنه يعني أنهم سينجون.
صديق لي منذ زمن طويل من الجامعة حتى زمالتنا في قيادة التنظيم، يهاتفني ويقول إن بيته في النصيرات مفتوح لي دائماً. ويقول بتوتر بدون فذلكة مثقفين: تعال عنا. أشكره، ويعيد الرجاء ويقول إنه ينتظرني.
اين يمكن أن نذهب يا حاتم. حاتم يقول إن حكمت لديه خص (فهو بدوي) في الأرض ويمكن لنا أن نبيت عنده. هل من حل آخر؟ يسأل عبد الله. أقول على اقل تقدير نضع السيارة بجوار إحدى المدارس وننام فيها حتى الصباح وحتى نستجلي الامر وماذا يحدث في غزة.
أصعب شيء هو شعور التيه والارتباك وقلة الحيلة. وأنا أشعر بقلة الحيلة وبأنني غير قادر على فعل شيء. ومع ذلك عليك ان تتماسك لأن الجميع ينظرون لك يريدونك أن تدلهم على الصواب وتقودهم إلى النجاة. ومن يملك مفتاح النجاة في مثل تلك الظروف؟
ثمة قُطفا بلح معلقان في جذع شجرة زيتون صغيرة تصير بعض حباتها رطباً بين ليلة وضحاها. كل صباح أقطف الحبات التي صارت رطباً وآكلها.
تحول الأمر لممارسة روتينية. وقفت قبالة القطفين وأخذت أتناول الرطب. أقطع المسافة بين أول الحديقة وآخرها وأقطف حبة واكلها ثم أواصل سيري في الحديقة لا أنوي على شيء، فقط أفكر وأفكر وأعيد التفكير في نفس الأمر دون إجابة ودون تقدم ملمتر واحد. أشجار الزيتون الصغيرة التي تمت زراعتها على أطراف الحديقة تحمل كل شجرة منها اسم أحد شهداء الحركة الصحافية الذين اغتالتهم دولة الاحتلال فيما كانوا يؤدون واجبهم المقدس. أقرأ الأسماء التي أعرف معظم اصحابها وأعرف حكايات قتلهم بدم بارد، أعرف الأسماء وأعرف الحكايات وأعرف كيف أحكي عنها لكني لا أعرف الوقت.
ياسر يسألني: هسا شو راح نسوي. أرد بلا يقين: سنذهب للجنوب. يرد: الجنوب إلى أين. أقول: لا أعرف لا تسألني أسئلة فوق طاقتي.
كنا نظنه أجبن أبنائي، فهو يخاف السير في العتمة حتى أنه كان يخاف أن يذهب للسوبرماركت وحده في الليل. تبدو عليه رباطة جأش غير عادية.
أسأله «خايف؟» فيجب بسرعة: من شو؟
شاحنة كبيرة مليئة بعلب الحليب ومشتقاته بنكهات مختلفة يوزعها في الشارع على الناس. محمد جاء لي بزجاجة وقال: الوادية موزع الحليب يوزعها على المارة. شربت الحليب بطعم الخوخ.
كأننا نستعد للحظة حاسمة. لا نعرف ما هي ولا نستطيع أن نحدد ملامحها لكننا نعرف أنها قادمة. ثمة قفزة في الهواء ومن يقفزون في الهواء لا ينظرون إلى أسفل، فقط يتركون مصيرهم للحظة هبوطهم.