د. حسام عطا
عدم قبول النقد.. قراءة مستقبلية في الدراما المصرية
الجمهور هو الشق المركزي والمهمل لسنوات طويلة لدى النقاد، ومتابعي الأعمال الإبداعية في الفنون التعبيرية.
وذلك لأنه لا توجد فواصل حقيقية بين دوري الممثل والمتفرج.
وذلك لأن العلامة الفنية لا تشير أو تدل على شيء محدد في الواقع، كما هو الحال في العلامات غير الفنية، بل تشير كعلامة فنية على السياق الكلي للظواهر الاجتماعية.
وهكذا ووفقًا لعلم العلامة النقدي المعاصر وهو يتجاوز كعلم معاصر مجرد النقد الفني إلى كونه طريقة من طرق التفكير المعاصر، وفيه وعبر مقتربه الفكري يتم رؤية العمل الفني على أنه شيء (Thing) أو مجموعة من العناصر المادية.
وهنا يصبح المدلول هو الموضوع الجمالي Aesthetic Object الكامن في الجزء المتعلق بتلقي الفنون، وهو جزء من الوعي العام للجمهور، يسميه علم الدلالة الوعي الكامن عند الجمهور.
ولذلك فالجمهور هو وحده القادر عبر عملية التلقي على فهم العمل الفني ومنحه الجماهيرية، وذلك بتحقيق نسب المشاهدة العالية.
ما يجعلنا نؤمن إيمانًا نقديًا معاصرًا بمبدأ التعددية في القراءة والتفسير.
وذلك لأنه لا وجود في الإبداع والفنون لفكرة الحقيقة المطلقة في حد ذاتها خارج نطاق الأبنية المتعددة للعقل الإنساني المدرك.
ذلك أن اختلاف التلقي ينتج التفسيرات المختلفة.
وهو ما يجب أن يدركه النقاد والكتاب الصحفيون ومحررو الصفحات والمواقع الفنية والجمهور المتميز من هؤلاء المهتمين البارزين من المشاهدين بالتعليق والتفاعل وإبداء الرأي حول الأعمال الفنية.
وهو الأمر الملحوظ في متابعة الدراما التليفزيونية، وملحقاتها من متابعات وآراء من الجمهور العام.
وهي الظاهرة التي تستحق الدراسة والتأمل هذا الموسم الدرامي، ألا وهي ظاهرة التعبير بالرأي عبر صفحات التواصل الاجتماعي، ووسائله الأخرى. إنهم النوع المهتم من الجمهور العام، فليس هؤلاء الذين حضروا للمشهد النقدي هذا الموسم من النقاد، وليسوا من الفنانين.
ولا هؤلاء من المختصين في الشأن الصحفي.
إنها الإتاحة التي وفرتها وسائل التواصل الاجتماعي لهؤلاء كي يعبروا عن رأيهم وتفسيراتهم وتلقيهم للأعمال الدرامية. وهكذا وبينما علت تلك الأصوات لدرجة استخدام بعض من النجوم لوسائل التواصل الاجتماعي لدعم أعمالهم وللهجوم على بعض الأعمال المنافسة، ما جعل بعض من النجوم يغضبون، وبعضهم ذهب ببلاغ للنائب العام ضد بعض الصفحات والمواقع الإلكترونية.
كما ظهرت من عدد من العاملين بالصحافة والإعلام المختص بالفن محاولات منظمة لإجراء استفتاءات حول أفضل عمل وأفضل ممثل، وما إلى ذلك.
والبعض حاول تكوين رأي عام حول الأفضل والأسوأ في دراما الموسم التليفزيوني الرمضاني السنوي عبر استطلاع رأي عدد من النقاد.
بينما تعد تلك الظواهر، عملية استقطاب رأي خطيرة في مسألة تلقي الفنون، لأنها تتناقض مع المبدأ النقدي المعاصر الهام ألا وهو اختلاف التلقي وتعددية الآراء ونسب الاهتمام، وذلك عبر مبدأ تعددية التفسير والاستقبال للأعمال الدرامية وفقًا لتعدد واختلاف جماعات التلقي والاستقبال والتأويل وهي متعددة ومختلفة في الجمهور العام.
ذلك لأن الجمهور العام ليس كتلة واحدة فقط لا غير تشبه بعضها البعض، بل هي جماعات مختلفة كثيرة طبقًا لاختلاف التعليم والاعتقاد الاجتماعي وترتيب سلم الأخلاق من مكونات جماعات الرأي المتعددة.
بل والأهم هو الوعي الجمالي الكامن في شعور ولا شعور المتلقي، وهو يستند إلى عوامل عدة على رأسها التاريخ التراكمي لنوعية الأعمال التي سبق أن شاهدها المتلقي، والخبرات الجمالية السابقة.
مما يجعلنا نرى بعض من الشخصيات العامة من أصحاب الثروة الكبرى وعلى رأسهم رجال أعمال مشاهير يهتمون بأعمال درامية يهتم بها بعض من شباب الأحياء الشعبية ممن يكسبون عيشهم بالعمل اليومي فقط.
والاتفاق بين هؤلاء على اختلاف مرجعيتهم من الخبرات الجمالية المشتركة التي تشكل أفق توقع وترقب هؤلاء في عملية تلقي الفنون.
وهي ما يسميها النقد الجديد بفرضية الوحدة إذ قد يكتشف متلقون مختلفون، أنهم في وحدة واحدة رغم تنافر اهتماماتهم ومواقعهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
السؤال إذن ما هو تأثير تلك الجماعات الحاضرة بوضوح في وسائل التواصل الاجتماعي؟
هل هي مجرد مسألة لشغل أوقات الفراغ ولخلق مساحة ما من هامش النقاش العام؟
بالتأكيد الإجابة: لا.
لأن كل هذا الحوار وكل تلك الآراء المتعددة، وكل هذه الاختلافات الإعلامية والتأويلات المتعددة تشكل بقدر ما أفق توقع وترقب الجمهور الآن وفي المستقبل القريب.
ولذلك فهذا القبول الكبير لأعمال درامية بعينها تكرس لأفكار خاطئة ولنماذج اجتماعية تعتمد أخذ الحق بقوة اليد وبمجموعة من أهل الفتوة بعيدًا عن القانون، وتعتمد قوة المال كشرط للتفوق الاجتماعي مشروطًا بالهروب من الدراسة وترك العلم، والإفراط في الرغبة الجنسية، ستصبح أعمالًا أكثر قبولًا لدى جماعات التأويل التي لم تهتم بها أو لم تحبها هذا الموسم، وستحصل تلك الأعمال وأفق توقع وترقب الجمهور لها على تقدم واضح يعزز من مكانة صناعها المعنوية، بعد انتصارهم في تعزيز مكانتهم في صدارة القوة المالية وأعلى الأجور الخيالية، وأكبر العوائد والإيرادات. ولذلك فلنتوقع مستقبلًا يهتم أكثر بمثل هذه الأعمال، ذات الطبيعة الحادة وغير المنطقية.
لأننا نعمل منذ سنوات على تغذية ذائقة النشء والشبان الجدد والفتيات اللاتي يتفتحن للمستقبل، لهذا النوع الدرامي العنيف المعتمد على خلق نماذج اجتماعية للبطولة الجديدة القائمة على تعزيز الغرائز الأساسية.
إنه استهداف للمستقبل الجمالي عند المتلقي العام، خاصة الجدد القادمين بحداثة أعمارهم إلى عالم المشاهدة والتلقي. ولأن هؤلاء النجوم يتم دعمهم بأجور خيالية، وبدعاية محترفة فهم لا يفسرون التنافس الفني إلا بكونه صراع على الصورة وبالتالي نسب المشاهدة وبالتالي الأرباح الأكبر.
ولغياب قدرة النقد المتخصص على متابعة هذه المساحة الشاسعة من الساعات الدرامية اللانهائية، وخفوت صوت النقد، ولتغير جماعات التأويل والضغط الثقافي في اتجاه مضاد، لمعظم ما أنتجه الفن المصري رفيع المستوى والجماهيري أيضًا منذ القرن العشرين وحتى الآن، فالقادم مساحات أكبر من تلك الصور الدرامية الغريبة على مجتمعنا المصري، والتي لا تعبر عنا.
والتي نجحت في القفز للصدارة وحصد أعلى المشاهدات مقارنة بالأعمال الجادة والجمالية في الموسم الدرامي ذاته. وكأننا نعلن انتصار الهذيان الدرامي، ونحدد مستقبلًا مدهشًا لذائقة الجمهور العام.
أما لماذا يتنامى هذا التيار؟
فالإجابة هي، لأن مراكز القوة الاقتصادية وبالتالي هي مراكز القوة الثقافية لا تستجيب لأهل الخبرة والرأي النقاد المخلصين في الجماعة الثقافية والفنية والإبداعية والصحفية والإعلامية المصرية.
ولذلك تحول الأمر في النقاش العام حول الدراما التليفزيونية إلى معركة، ولهذا ذهب النجوم إلى النائب العام لأنها معركة تشبه معاركهم القاسية في دراماتهم الأكثر قسوة، ولذلك لا يعترف أهل الفن بتعددية التفسير ولا يقبلون الرأي الآخر المختلف.
ولذلك تحول النقد الفني إلى صوت خافت، وعلت أصوات المشاجرات على وسائل التواصل الاجتماعية وامتدت إلى بلاغات للسيد النائب العام.
















