

د. حسام عطا
حصار المهن الإبداعية.. مأساة غياب المساحات المشتركة بين العلوم والفنون
في أيامنا المعاصرة، والتي هي أيام تتجدد فيها المعرفة بطريقة مذهلة السرعة وفي عالم يؤمن بالتخصص الدقيق، وبالتخصص الأكثر دقة، تتصل العلوم فيما بينها أيضًا اتصالًا غير مسبوق، ويمكن ملاحظة الأمر ذاته في عالم الدراسات البينية بين الفيزياء والطب والكيمياء وهو يتداخل تداخلًا مطردًا.
ومساحات الاشتباك المعرفي بين العلوم الاجتماعية وبعضها البعض صارت أمرًا معاصرًا واقعًا ومفهومًا.
بل وتتداخل تلك العلوم مع الفنون والآداب في مساحات مشتركة.
إذ لا شك أن العلوم البحتة ذاتها صارت في صلة مباشرة مع الفنون الإبداعية جميعها، وعلى رأسها فنون الأداء.
ولا يمكن فصل التكنولوجيا الجديدة عن عالم الإبداع المعاصر، وهكذا تعود العلوم والفنون في سبيكة واحدة في عالمنا المعاصر.
أتذكر ذلك لأنه قفر لعقلي بشكل مفاجئ ألم قديم عشته لسنوات طوال، عندما استفسر الطالب محمد عبد التواب والطالبة نجاة محمد بالسنة الثالثة بقسم الدراما والنقد المسرحي داخل المحاضرة بالمعهد العالي للفنون المسرحية عن سبب غضب البعض عندما يمارسان الإبداع خارج تخصصهما الدرامي الدقيق.
وجاء السؤال الذكي: من صنع تلك المعركة القديمة المستمرة بين قسمي النقد والدراما والتمثيل والإخراج في ذات المعهد، وما سر تلك الحساسية التاريخية؟ وهي حساسية ممتدة بين تخصصات الفنون المختلفة في مصر، بل وبين النقابات المهنية الفنية المتعددة وبعضها البعض.
ولعل السؤال البريء للطلاب يبقى ممتدًا خارج قاعة الدرس، وقد أجبت عنه، لكنه سؤال بقي معي بعد انتهاء عملي المهني التخصصي الدقيق، لأنه سؤال يستحق الطرح على القارئ وعلى الرأي العام.
حقًا من صنع ذلك الفهم بضرورة القتال من أجل الحفاظ على الحدود الإقليمية للتخصص الفني؟ والإجابة بشكل تاريخي تعود لتلك المعركة الشهيرة بين د. طه حسين عميد الأدب العربي وتلميذه د.محمد مندور من جانب وبين زكي طليمات وتلاميذه من جانب آخر.
تلك المعركة بين أهل الكتابة والترجمة والنقد وفهم تاريخ الدراما ممثلة في عميد الأدب العربي وشيخ النقاد، وبين مؤسس المعهد العالي للفنون المسرحية المخرج والمعلم زكي طليمات، التي انتهت بنجاح د. طه حسين في الانضمام إلى لجنة قبول الممثلين واختيارهم في دخول المعهد، تلك اللجنة التي ترأسها وزير الخارجية المصري آنذاك لاختيار الدفعة الأولى من طلاب المعهد، ومنهم الفنان الكبير الراحل فريد شوقي والفنان الكبير الراحل حمدي غيث.
تطور المعهد العالي للفنون المسرحية تدريجيًا، فضم قسم النقد والأدب المسرحي كما كان اسمه، حتى بداية الثمانينيات في مصر، عندما تغير لمعناه الحقيقي ليصبح قسم الدراما والنقد المسرحي، في تفريق عملي واضح بين الدراما والأدب، على ما بينها من صلات وثيقة.
وكذلك عرف المعهد قسم المناظر والأزياء المسرحية.
وتطور الأمر ليقوم د. ثروت عكاشة وزير الثقافة المصري المؤسس الكبير بإنشاء أكاديمية الفنون 1969، بعد عقد من استحداث معاهد مهمة عام 1959 مثل معهد الباليه والكونسرفاتوار.
وقد بدأت أكاديمية الفنون المصرية عملاقة، إذ تأسست على فكرة تكاملية الفنون.
وهي الفكرة التي ما زالت تحكم عمل الأكاديمية وتظهر في لوائحها التنظيمية ومناهجها الدراسية.
جدير بالذكر أن ذلك الصراع بين التخصصات قد أدى بنقابة المهن التمثيلية لمنع المخرج السينمائي الكبير محمد عبد العزيز من الإخراج للمسرح.
فكان أن لجأ للقضاء وحصل على حكم نهائي مدعومًا بتفسير دستوري هو حرية الإبداع، ذلك أن الإبداع حق من حقوق التعبير التي يكفلها الدستور والقانون لكل مواطن.
ما أدى إلى حالة مذهلة من السيولة في ممارسة مهنة التمثيل والإخراج وباقي التخصصات الفنية المتعددة.
مما جعل نقابة المهن التمثيلية، وزميلاتها من النقابات المهنية الفنية تجمعات نقابية مهنية لا تمتلك إيقاف دخول أي شخص لممارسة المهنة، سواء الغناء، التمثيل، الإخراج، الكتابة، لأن المحكمة قد حكمت حكمًا نهائيًا في هذا الشأن.
ولأن التضييق على الإبداع في الحالات الصحية مثل حالة المخرج الكبير محمد عبد العزيز والتضييق على خريجي الأقسام في الممارسة الإبداعية الحرة، رغم أنهم ينتمون للتخصص بمعناه العام، لهو تضييق غير صحي.
وقد أدى إلى فتح الباب على مصراعيه لكل عابر سبيل، وكل مغامر، ومعركة استقالة نقيب المهن الموسيقية الفنان الكبير هاني شاكر لا تزال حاضرة، لأنه وبحق بالعودة للقانون لا يملك أن يمنع أحدًا من الغناء.
ولذلك فالعودة للمفهوم العلمي الإبداعي حول التعاون بين التخصصات المختلفة في الفنون ضرورة مهمة، ليس على الصعيد المهني فقط، ولكن على الصعيد الإبداعي والمعرفي إذ إننا نعيش عصرًا تتداخل فيه الفنون وتشتبك اشتباكًا إبداعيًا مذهلًا في كل أنحاء الدنيا التي تعرف تلك التكاملية بشكل حر، فكم من فنانين كبار بعضهم حصل على جائزة نوبل يجمعون بين الغناء والكتابة على سبيل المثال.
وكم من الممثلين العظام كتبوا أفلامهم ومسرحياتهم، وكم عرفنا في الأيام الأخيرة حضورًا لنجوم كبار اكتشفوا موهبتهم الحقيقية بشكل متأخر مثل النجم أحمد حلمي خريج قسم الديكور ومثل المخرج أحمد شفيق مخرج الدراما التليفزيونية خريج قسم الدراما والنقد، وسبق هؤلاء بسنوات الكاتب الدرامي الكبير محمد جلال عبد القوي خريج قسم التمثيل.
ولذلك رأيت أن أعيد مجددًا طرح مسألة الحفاظ على المواهب ودعمها وليس مقاومتها ذلك أن حصار أهل الاختصاص لبعضهم البعض هو حصار للمهنة ذاتها.
خاصة في عالم معاصر تزداد فيه بشكل معرفي وإبداعي وعلمي المساحات المشتركة والمتداخلة والبينية في العلوم والفنون بل وبين العلوم والفنون والآداب أيضًا.