عاجل
الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
كلنا جمال عبد الناصر

كلنا جمال عبد الناصر

بقلم : طارق رضوان

مخلصا وطنيا كان. ويحب الناس. ويحمل همومهم. ويحقق أحلامهم البسيطة. وأشعل فى نفوسهم نور الكرامة. كانت له أحلام. لكنها كانت أحلاما ممنوعة على بلادنا أن نحلم بها. حاول هو. وقاوم. حتى انتكس ومات. لكنه لم يمت فى قلوبنا وفى وجداننا. كان أسمر بلون الطمي. طويل كالرمح. صلبا كحجر أسوان. مخلصا كالنيل. مؤمن برسالته كالأنبياء. قويا. وصاحب قرار. مرتب الذهن ومنظم الفكر ومحدد الهدف. وموهوبا. طيبا وخيرا كالغيطان. ذلك هو جمال عبدالناصر.
بكل إنجازاته وبكل إخفاقاته. كان كبيرًا. وكانت إنجازاته بحجمه كبيرة. وإخفاقاته كبيرة بحجمه. كان رمزًا. فأصبح هدفًا. ولأن التاريخ لم يكتب بعد. فلست أدرى ما إذا كان عبدالناصر مصيبا أو مخطئا. ولكن الذى أدريه هو أنه لابد منه.

الرجل المخلص كان مهموما ببلاده وبتنميتها وبكرامتها. ومهتما بالناس. عندما تولى الحكم وهو مازال شابا ومصر غارقة فى الفساد والتخلف. كان يشعر بأهمية التنمية لشعبه شعورًا غريزيًا. ذلك الشعور الذى يولده الاحساس بالحاجة إلى شيء فى اتجاه معين دون أن تكون هناك دراسة كاملة لهذا الشيء وتحديد دقيق لهذا الاتجاه. وشعر أنه إذا انتظر حتى تكتمل الدراسة وحتى يتم التحديد الدقيق للاتجاه. فإن وقتا ثمينا سوف يضيع. وفى نفس الوقت فإنه لم يكن يثق فى الجهاز الحكومى الذى ورثته الثورة من العهد الملكى ومن هذا تحرك فى ثلاثة اتجاهات على طريق التنمية. 
جاء بالمشروعات التى وردت فى وعود وزارات ما قبل الثورة أثناء خطب العرش واعتبر أن هذه المشروعات درست بما فيه الكفاية وأنشأ مجلسا أعلى للإنتاج خارج إطار الجهاز الحكومى وضم فيه مجموعة من أبرز خبراء مصر الاقتصاديين قبل الثورة وممن لم تلحق بسمعتهم شوائب. وجعل على رأسهم حسين فهمى وهو اسم من ألمع الأسماء الاقتصادية وقتها. وكان قد تولى وزارة المالية من قبل، إلى جانب إسهامه فى إنشاء كثير من المشروعات فى السنوات السابقة ووضعت تحت تصرف مجلس الإنتاج كل المبالغ التى أمكن توفيرها له ورصدها للتنمية ووصلت هذه المبالغ إلى أكثر من ألف مليون دولار. وكان من أبرز المشروعات التى نفذت بإشراف مجلس الإنتاج مصنع حديد حلوان ومصنع السماد فى أسوان وكهرباء خزان أسوان وكهرباء خط حلوان. وفى نفس الوقت كان جمال عبدالناصر قد أنشأ مجلسا أعلى للخدمات خارج إطار الجهاز الحكومى أيضًا. ووضع على رأسه فؤاد جلال وطلب أن يحول إليه كل ما صودر من ثروة الملك السابق ومن أملاك الخاصة الملكية وقد بلغت قيمتها فى ذلك الوقت سبعين مليون جنيه وقد نفذت بها مشروعات الوحدات المجمعة للصحة والتعليم وإعادة التدريب والإرشاد الزراعى فى الريف إلى جانب سلسلة المستشفيات المركزية التى أنشئت فى ذلك الوقت. 
- بعد هذه الخطوة الأولى فى مجال التنمية وقد كانت فى مجال رد الفعل. بدأ عبدالناصر يفكر فى الطريقة التى يمكن بها وضع خطة كاملة للتنمية الاقتصادية فى مصر وأقر توصية لمجلس الإنتاج فى ذلك الوقت بأن يعهد إلى بيت خبرة أمريكى عالمى هو بيت (آرث دوليتل) الشهير بإجراء مسح شامل لإمكانيات مصر الاقتصادية وكيف يمكن التخطيط لها تخطيطا شاملاً وتم ذلك فعلاً. وقامت مجموعة من خبراء دوليتل بمهمة استغرقت سنتين كاملتين. 
- فى نفس الوقت فإن جمال عبدالناصر كان يدرك أهمية جهاز تخطيط وطنى ومع أنه كان يعتقد أن التخطيط أرقام. فقد كان يشعر فى نفس الوقت أن التخطيط التزام أيضا. كان ذلك فى سنوات 1953 و1954 و1955.
كان لايزال لدى مصر فى بداية هذه الفترة من الأرصدة الإسترلينية ما تستطيع استخدامه فى مواجهة العجز إذ كانت بريطانيا لا تزال مدينة لمصر فى مطلع 1959 بمبلغ 80 مليون جنيه إسترلينى ولكن هذا كان أقل بكثير مما كانت مصر فى حاجة إليه لتمويل استثمارات الخطة والزيادة فى الاستهلاك الخاص والحكومى فضلا عما كان على مصر مواجهته من أعباء إضافية خلال تلك الفترة أهمها ما كان عليها دفعه من تعويضات لحملة أسهم قناة السويس المؤممة وغيرها من الممتلكات الأجنبية التى جرى تأميمها فى أعقاب حرب 1956 فضلا عن التعويضات المستحقة للسودان بسبب إغراق بعض أراضيها الذى ترتب على بناء السد العالى هذه التعويضات بلغت نحو 67.5 مليون جنيه استرلينى (27.5 مليون لمساهمى شركة قناة السويس و25 مليونا للبريطانيين الذين أممت ممتلكاتهم و15 مليونا للسودان) وذلك دون حساب ما دفع من تعويض لرعايا اليونان وفرنسا ولبنان وإيطاليا وسويسرا عن ممتلكاتهم المؤممة فإذا أضفنا إلى هذا المبلغ ما قدمته مصر من قروض ومساعدات لبعض الدول العربية والأفريقية خلال هذه الفترة (منها 10 ملايين جنيه للجزائر و6 ملايين لمالي) نجد أنه لا صحة للقول بأن الأرصدة الإسترلينية المتوفرة لمصر خففت عن مصر عبء التنمية بدرجة ملحوظة. فالحقيقة أنها لم تسهم فى ذلك إلا مساهمة محدودة للغاية إذا أخذنا فى الاعتبار ما كان على مصر دفعه من تعويضات وأن إجمالى المتوفر منها فى بداية الخطة كان أقل من نصف حجم الاستثمارات المنفذة فى السنة الأولى وحدها من سنوات الخطة. وكانت صورة ميزان المدفوعات المصرى ومديونية مصر الخارجية تغيرت تغيرا شاملا خلال السنوات السبع الأهم (1959 - 1965) وهى أكثر سنوات الثورة تمثيلا للنظام الاقتصادى الناصرى أن أغلب ما يقترن فى أذهاننا بالانجازات الناصرية فى المجال الاقتصادى أنما يعود إلى هذه الفترة. فهذه هى سنوات التنمية بالغة الطموح والارتفاع الملحوظ فى معدلات الاستثمار وفى متوسط الدخل على الرغم من الزيادة السريعة فى السكان والتغير الواضح فى هيكل الاقتصاد ومعدل التصنيع. وهى أيضا الفترة التى شهدت تجربة مصر الوحيدة فى التخطيط الشامل وفى التدخل الجدى لإعادة توزيع الدخل، ففى هذه الفترة ارتفع معدل الاستثمار من 12.5 % من الناتج الإجمالى (59/ 60) إلى 17.8 % (64/ 1965) ومن ثم حقق الاقتصاد القومى نموا حقيقيا زاد 6 % وارتفع مستوى الدخل الحقيقى للفرد باكثر من 3 % سنويا بعد ركود فى متوسط الدخل استمر أكثر من أربعين عاما وقد حظيت الصناعة والكهرباء بأكبر نصيب فى الاستثمارات (نحو الثلث ) فنما الناتج الصناعى بمعدل 8.5 % سنويا والكهرباء بمعدل 19 %. وكذلك فاق معدل نمو الزراعة ايضا (3.3 %) بدرجة ملحوظة معدل النمو فى السكان ( 2.8 %) أدى ذلك إلى أن أصبحت صورة الهيكل الاقتصادى فى نهاية سنوات الخطة مختلفة بشكل ملحوظ، عما كانت فى بدايتها فارتفع نصيب الصناعة والكهرباء فى الناتج المحلى الاجمالى من 18 % إلى 25 % وإذا كان نصيب الصناعة فى إجمالى العمالة لم يرتفع بنفس الدرجة فإن العمالة الصناعية قد زادت خلال هذه الفترة بأكثر من ضعف الزيادة فى إجمالى القوة العاملة وهو ما لم يعرفه الاقتصاد المصرى منذ أيام محمد على، واقترن كل ذلك بتحسن ملحوظ فى نمط توزيع الدخل فارتفع نصيب الأجور الزراعية فى إجمالى الدخل الزراعى من 27.5 % إلى 33.4 % وزاد متوسط الأجر الحقيقى فى الزراعة والصناعة بنسبة 34 % و12 % على التوالى خلال نفس الفترة. لذلك أصبح هدفا. والذى تم ما تعرضت له مصر من ضغوط خارجية بدأت منذ السنة الأخيرة للخطة وبلغت قمتها بحرب 1967 والتى فرضت على مصر فرضا وما ترتب عليها من آثار. الهدف كان ناصر وقوته وتأثيره وطموحه وشعبيته. لكنه لم يسقط رغم أن تجربته كانت قد سقطت. وعاد الرجل ليبنى من جديد. وبنى من بعده أبناؤه المخلصون حتى توجت تجربة البناء بامتدادها لانتصار أكتوبر المجيد. مات بجسده مهزومًا. وبقيت أسطورته كأساطير الحكايات الشعبية المصرية. موال مصرى لم ينته. ولن ينتهي.



تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز