عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
إحْنا والملكة.. جيران! (٢/٢)

الغربة الثانية 30

إحْنا والملكة.. جيران! (٢/٢)

أحسست أنني أجلس على قمة العالم، وكنت مزهوًا بنفسي، منتشيًا بالنجاحات التي حققتها، بإصرار، وكد، وجهد موصول، ومتشاوفًا بأني تمكنت من أن يكون لي مقر عمل في منطقة "ويستمنستر" التي تضم منطقة "ويست إند" مركز الحكومة البريطانية والقلب النابض للتجارة والاستثمار والمال، إضافة الى أماكن الترفيه الراقية من علب ليل، إلى نوادٍ خاصة ومطاعم يتنافس للعمل فيها أشهر الطهاة، وأكبر وأهم منطقة أعمال مركزية في المملكة المتحدة، مقارنة مع "ميد تاون مانهاتن" في نيويورك، و"الدائرة الثامنة" في باريس. 



 

نويت أن أضع لافتة فيها اسم الشركة على واجهة المبنى، وحسب قوانين الإجراءات المرعية، تقدمت بطلب الى مجلس البلدية في المنطقة؛ للسماح لي بوضع اللافتة، وأرفقت مع الطلب- كما أشار المحامي جون اكيرسلي- صورة من تسجيل الشركة، إلى جانب ملخص مقتضب عن مجال عملها. 

 

بعد أسبوعين، وصلني بالبريد المسجل رفض الطلب، ومنعي من وضع اللافتة. وقد تعلل المجلس بأن موكب صاحبة الجلالة يمر بالشركة، وهو قد يسبب لها بعض الإزعاج! 

 

ولم أصدق ما قرأت، كيف يمكن للافتة على مدخل مكتب، أن تزعج صاحبة الجلالة؟

 

أفهم أن يكون سبب الرفض، أن المبنى هو من المباني المصنفة لقيمتها الهندسية وللمحافظة على تاريخ وتراث فن العمارة البريطاني، إلا أن ذلك لم يرد في حيثيات الرفض، ولم تشر رسالة مجلس البلدية- لا من قريب ولا من بعيد- إلى أي صفة قانونية للمبنى.

 

ودار في ذهني ظن خبيث هو "العنصرية"، ولم أخفِه عن جون اكيرسلي، الذي بدده من ذهني، وكتب رسالة احتج فيها على قرار مجلس البلدية، رافضًا تعليله جملة وتفصيلًا.

 

ولكن مجلس البلدية بقي على رفضه السماح بتركيب اللافتة.. فقفز إلى ذهني كين ليفنغستون، وكنت عرفته وتوثقت علاقتي به، لما كان بعد "رئيس مجلس البلدية للندن الكبرى"، وهو كان يُحسب على الجناح اليساري المتطرف في حزب العمال. 

 

أطلقت عليه الصحافة لقب "كين الأحمر"، وهو من ألد أعداء رئيسة الحكومة البريطانية، وقتذاك، مارجريت ثاتشر، وأبرز المناكفين لها ولسياستها، وظل في منصبه من سنة ١٩٨١ حتى قامت "المرأة الحديدية" (كما كان يطلق على ثاتشر) بإلغاء المجلس سنة ١٩٨٦.

 

وكان أن اُنتخب كين ليفنغستون سنة ١٩٨٧ نائبًا عن منطقة "برانت إيست"، فاتصلت به وطلبت موعدا، فطلب أن نلتقي في مكتبه الخاص في دائرته الانتخابية، الذي يلتقي فيه في العادة طلاب الحاجات من سكان الدائرة، والتقينا، ووجدته لم يزل يذكرني، ويذكر حديثنا الطويل عن مصر وحرب السويس. وفي نهاية اللقاء، أهداني نسخة من كتاب "العرب" الذي كتبه أنطوني ناتينغ، الذي استقال من منصبه الرفيع في وزارة الخارجية، احتجاجًا على حرب السويس. 

 

وكين ليفنغستون من المناصرين الحمسين للفلسطينيين وحقوقهم في الأراضي التي تحتلها إسرائيل، وبسبب من مواقفه المعادية الصريحة للدولة العبرية والحركة الصهيونية، التي نعتها مرارًا عديدة بالنازية عُلِقت سنة ٢٠١٤ عضويته في "حزب العمال". وفي سنة ٢٠١٨ استقال من الحزب الذي وهبه عمره وفكره وحياته السياسية.

    خلال اللقاء في مكتبه، عرضت عليه ما جرى، وما كان من أمر مجلس البلدية.. كنت وأنا أشرح له شكواي، يكتب على مفكرة ملاحظات، استفسر، ففسرت، وطلب المزيد فأفضت، وزدت وأعدت، وتركته على أمل أن يعود إليّ في غضون أسبوعين بالخبر اليقين.

 

وما عاد إليّ ولا اتصل، نسيني في حومة مشاكله مع طوني بلير، خصوصًا أنه كان ضد ما سمي وقتها "حزب العمال الجديد" الذي نقل "حزب العمال" الى الوسط.

 

وأنا أهملته، وما عدت راجعته أو اتصلت به، وعملت بالمقولة التي كان يرددها والدي: "لا يحك جلدك غير ظفرك".

 

وبدأت "أحك" جلدي "بظفري": الاحتجاج خلف الاحتجاج، والرسالة خلف الرسالة، وفي كل رسالة كانت تعلو نبرة الكلام، حتى فاض بالمجلس، خضع، رافعًا العشر، ووافق على منحي حق وضع لافتة باسم شركتي على مدخل المكتب، على ألا يزيد مقاسها على أربعة أمتار بارتفاع لا يزيد على خمسين سنتيمترًا، وتألق الاسم على لوحة من "ستانلس ستيل" المضيء "Moody Graphic International"

وما سألت بعدها إن كانت الملكة قد انزعجت عندما مرت أمام المكتب.. أم لا. 

 

وبدأت أفكر بحفل افتتاح المقر الجديد، للمزيد من العلاقات العامة، وللتعريف بالتجهيزات الجديدة، وبما تستطيع الشركة القيام به من خدمات طباعية.

 

ولأن نشاط الشركة قائم على "لغة الضاد"، وأنا عاشق للحرف العربي، ولأشكال كتابته، وما يمثله الخط من إرث ثقافي وتاريخي، ومناحٍ جمالية لا توجد في الأبجديات الأخرى، إن في هندسته، وتفاصيله، وأشكاله، فقررت أن يكون افتتاح بيت شركتي الجديد، هو الاحتفاء بالخط الحرفي، مصدر إلهام العديد من الفنانين والمعماريين.

 

كان على أرفف مكتبتي كتاب أعتز به، لا يفارقني في حِلّي وترحالي، وهو "فن الخط العربي" للخطاط سيد إبراهيم، أحدُ الآحاد في فن الخط.

 

والكتاب النادر كان طبع في مصر سنة ١٩٤١، ويشتمل على نماذج لجميع أنواع الخطوط، وصدرت منه ست طبعات، ونفدت كلها.

 

سَيد إبراهيم ولد في حي القلعة عام ١٨٩٧، درس في "الجامع الأزهر" و"الجامعة الأهلية". وتوّلع بالحرف العربي وبغِناه الفني في شكله، فكتب "الثلث" و"النسخ"، و"الفارسي"، بجلال كبير، كما كتب "الديواني"، و"الرقعة".

 

كان من عادة سيد إبراهيم أن يمضي نهاراته في مشغل للرخام يملكه شقيقه، يتمرّن على كتابة الأحرف بالخطوط المتعددة.

 

ذات يوم مَر بالمشغل مصطفى الغرّ، شيخ الخطاطين في زمانه، فرأى الصبي يخط، وينقش، ويحفر، فأعجبه ما رأى، وأدرك موهبة الصبي، فطلب منه أن يقابله في "الأزهر".. والتقاه الصبي، ومن يومها لازمه، فأخذ شيخ الخطاطين بيده، علّمه كيف يضع "الغزارة" بين إصبعيه، كيف يبريها، وكيف يميلها، ويلويها بحنان على الورق، ويتشكل الحرف على سنها.. وراح يشجّعه على الخطّ، وحذّره من إنهاك قدراته الخطاطية بالحفر على الرخام والخشب.

 

في الأزهر، وجد سيد إبراهيم في الشيخ كمال الدين القاوقجي (وهو سوري الأصل) من حبّبه بالأدب والشعر، فقضى حياته بين الخطّ والشعر.

 

وما لم يتعلمه على يد مصطفى الغرّ تعلمه بمعاينة ودراسة خطوط المساجد والعمائر المختلفة، فقد تعلم الخط "الفارسي" من خطوط "جامع محمد علي"، و"الثلث" الجلي من خطوط عبد ﷲ الزهدي على سبيل "أمّ عبّاس". واستزاد من خطوط مؤنس ومحمد جعفر، وتتلمذ على يد الخطّاط حسين حسني.

 

فتح مكتبا محاذيًا لشارع "محمّد علي"، ومشاغل أخرى للحفر، واستمرّ في إنماء مواهبه الأدبية، فكان يحضر مع زميله "كامل كيلاني (رائد أدب الأطفال) بعض محاضرات "الجامعة المصرية". ووجد نفسه، بعدما اكتملت عدته وتميز في فنه، أن عليه أن يلقن غيره ما تعلمه ومارسه، حفاظًا على تراث فن الخط العربي، والتجديد الدائم فيه. فوضع منهجًا لتدريس الخطّ في المدارس الابتدائية، ثمّ تركه بعدما تتلمذ به من يمكنهم إكمال المهمة. وانصرف للخط في مكتبه، ولنشاطه الأدبي، فشارك في تأسيس "رابطة الأدب الحديث" و"جماعة أبّولو" مع أمير الشعراء أحمد شوقي، وإبراهيم ناجي، وأحمد زكي أبو شادي.. وكان يغشى المنتديات التي تجمعه بأدباء عصره مثل عباس محمود العقاد، وطه حسين، والزّيّات وغيرهم.

 

حفظ شعر المعرّي: "سقط الزند"، و"لزوم ما لم يلزم"، والكثير من عيون الشعر، القديم والحديث. نشر مقالات عن الخطّ في مجلتي "الهلال" و"العصور"، وقصائد في الجرائد والمجلات، ودُعي للتدريس في "مدرسة تحسين الخطوط العربية"، ولم ينقطع عنها لمدّة اثنين وأربعين عامًا، حتى اضطر إلى إجراء عملية جراحية لعينه.

 

مرّ سيد إبراهيم على "دار العلوم"، فدرس فيها، كما درّس أصول فن الخط العربي في "الجامعة الأمريكية"، وحاضر في "معهد المخطوطات العربية".

 

ولا فض فوه سعيد شريفي، هو القائل أن تصدّي سيّد إبراهيم لتدريس الخطّ على الرغم من استغنائه عنه له دلالات سامية، أهمّها المحافظة على المستوى الفنّي للخطّ، وإشاعة الخطّ في الناشئة.

 

ويخبر الخطاط محسن فتوني، أنّه كان عائدًا بسيارة أجرة مع سيّد إبراهيم من "قصر المنيل" في القاهرة، فما كان منه إلا أن سأل السائق:

"أليس عندك أولاد؟" 

فأجابه الرجل بالإيجاب، فعاد سيّد إبراهيم ليسأله: 

"لماذا لا ترسلهم إلى مدرسة تحسين الخطوط؟"

وأضاف محسن فتوني أنّه كرّر طرح السؤال نفسه على أحد زوّاره في مكتبه في "ميدان العتبة"، وقال: وكأنّي به يريد أن يجعل كلّ إنسان خطّاطا أو متذوّقا للخطّ على الأقلّ.

 

وأنت أمام لوحات سيد إبراهيم، يندفع الجمال الى عينيك من غير تمهيد، إذ الرسمة للحرف في اللوحة تهتز نضارة، وجملة ما يقع عليه نظر الناظر سحر يسكن خلف الخطوط، يتمرد على بحبوحة شكل الحرف.

 

في لوحاته من الخط الديواني والفارسي والثلث ما فتَنْتنِي، فشعَرت أَن الدُرَر الخطية التي أبدعها سيد إبراهيم لا بد من عرضها في لندن، وإلقاء الضوء عليها. فأَعَدْت إنتاج تلك اللوحات الخطية مستخدما تقنية الرسم والتلوين Air Brush، وتلك تقنية انتشرت وشاعت في سبعينيات القرن الماضي، قبل دخول تقنيات الكمبيوتر. انتشر الرسم بهذه التقنية في باريس أولًا، ومنها انتشر في أوروبا، ثم الولايات المتحدة، وراح الفنانون الكبار يستغنون عن الفرشاة، ويعتمدون على الهواء في بخ الألوان وتحديد الأشكال.

 

اشتغلت على أربعين لوحة، مستخدمًا ألوانًا مبهرة لا تقلل من قيمة الخط بل زادته جمالًا وبهجة. وبطريقة بسيطة وأنيقة أضفت إطارًا مناسبا للعرض في جاليري اتخذ منتصف الصالة الرئيسية للمقر الجديد ليكون معرضًا، والدعوة كانت عامة، والسفارة المصرية كانت على رأس القائمة، وبعدها السفارات والجاليات العربية، مديرو المصارف العربية، إلى جانب الشخصيات الثقافية والصحفية، المراسلين العرب والأجانب، ورؤساء تحرير المطبوعات العربية التي تصدر في لندن.

 

وصادف أن كان أحمد بهاء الدين في زيارة خاطفة للندن، فلبى دعوتي، جال في المكتب، ومرّ على اللوحات الأربعين، وأصر على اقتناء واحدة وقف أمامها دهشًا، فرفعتها عن الجدار، وقدمتها له هدية، فاللوحات لم تكن للبيع. 

 

وما زالت هذه الأعمال تزين مكتبي في القاهرة.

    ما كان قبل حفل الافتتاح (الذي انفلشت صور المدعوين إليه في الصحف والمجلات)، ليس كما بعده.

 

نجاح لافت، ومنغصات ومضايقات من أكثر الناس قربًا ومودة، وعيون مسنونة.

 

وهو كلامٌ سَنيّ ما قيل لي:

"من رفسك من الخلف، يعني أنك في المقدمة" حقيق أن الحياة تجمع الناس، والحياة تفرقهم.  

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز