عاجل
السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

كان الأباطرة يريدون الإمساك بزمام المبادرة في اختيار الكفاءات فكان الامتحان يسمى ـامتحان البلاط الإمبراطوري

باحث صينى يكشف لـ"بوابة روزاليوسف".. كيف تطور نظام التعليم والامتحانات في الصين؟

الصين تسجل رقمًا قياسيًا في عدد الطلاب الذين يخوضون اختبارات القبول بالجامعات 2022

 



يقول العرب "يوم الامتحان يكرم المرء أو يهان"؛ كما يقول الصينيون إن "مصير المرء بيد امتحان واحد".

بهذه الكلمات بدأ دكتور قوا زيجيان؛ الأستاذ بجامعة شانغهاي للدراسات الدولية، والباحث بمركز الدراسات الصيني العربي للإصلاح والتنمية يروى تجربة الشعب الصيني مع الامتحانات.

قائلا: فى هذه الأيام، جرت في الصين أهم امتحان بالنسبة للطلاب، وهو امتحان قبول الجامعة، وغالبا ما يجرى هذا الامتحان بين يومي 7 و9 يونيو كل عام. في عام 2022، شارك في هذا الامتحان 11.93 مليون طالب، مما سجل رقما قياسيا جديدا، وهو العام الرابع على التوالي الذي تجاوز هذا العدد عتبة 10 ملايين طالب. رغم أن العدد كبير جدا، غير أن معظمهم سينجحون في الامتحان ويلتحقون بالجامعات أو المعاهد المهنية، إذ إن معدل القبول على المستوى الوطني بلغ 92.89% في عام 2021، والمعدل في المقاطعات الشرقية المتطورة أعلى من ذلك. لكن إذا أراد الطالب الالتحاق بالجامعات من الدرجة الأولى، فالفرصة ستقل كثيرا، إذ إن عددها يبلغ 150 فقط على المستوى الوطني، ولم تستوعب إلا 180 ألف طالب في عام 2021. ولذلك كان من غير المستغرب أن يشبّه الصينيون هذا الامتحان بـ"الجسر الضيق الذي يتدافع الملايين لعبوره". أثارت هذه الظروف الواقعية الصعبة القلق لدى أولياء الأمور والمنافسة غير اللازمة بين الطلاب وأثقلت كاهلهم، واضطر الطلاب للدراسة ليلا ونهارا، متنقلين بين المدارس والمحاضرات الخاصة خارج المدارس، حتى يتفوقون على زملائهم في الامتحان ولو بدرجة واحدة.

في الحقيقة، لم يكن اهتمام الصينيين بالامتحان والقلق الناجم عنه وليد هذا العصر أو حتى وليد هذه القرون، إذ بدأت الصين اختيار الكفاءات عن طريق الامتحان منذ وقت طويل جدا. اليوم، لنعيد عقارب الساعة إلى الوراء ونرى تاريخ نظام الامتحان في الصين. 

في عام 587م، أصدر الإمبراطور وندي من سلالة سوي الملكية، قرارا بشأن إنشاء نظام الامتحان لاختيار الكفاءات لتولي المناصب المهمة في الحكومة، الأمر الذي يرمز إلى نشأة نظام الامتحان في الصين، الذي يسمى بنظام "كجيوي" فيما بعد، واستمر هذا النظام لأكثر من 1300 عام حتى انتهاءه في عام 1905.

قبل الإمبراطور وندي، كانت الصين تنتهج نظام التوريث في اختيار المسؤولين، حيث كان يمكن للأسر الكبيرة الحفاظ على المناصب الرسمية في الحكومة أبا عن جد، وليس لعامة الناس الفرصة لرفع مكانتهم الاجتماعية إلا في حالات استثنائية جدا، فتم احتكار المناصب المهمة في يد الأقلية، أما الأغلبية العظمى، فعاشت حياة يائسة، لا أمل لهم لدخول الحكومة، الأمر الذي ألقي بظلاله على الاستقرار الاجتماعي.

ولكن في سلالة هان الملكية (202 ق.م-220م)، أصبحت الحكومة المركزية قوية، وتمركزت السلطة في يد الإمبراطور، لكنه لم يستطيع إدارة الإمبراطورية الشاسعة بنفسه أو بمجموعة صغيرة من المقربين، فبرزت الحاجة لاختيار الكفاءات من كل أنحاء البلاد لكي تدير شؤون كافة الولايات. في هذا السياق، قرر الإمبراطور في سلالة هان إنهاء نظام التوريث، وتبني نظام الترشيح، الذي يفوض حكومات الولايات بمهام اكتشاف الموهوبين وتقديمهم للحكومة المركزية. لكن هذا النظام افتقر إلى المعايير الموضوعية والموحدة، ومنح الحكومات المحلية حرية أكثر من اللازم، فانزلق المسؤولون المحليون تدريجيا إلى مستنقع الفساد والمحسوبية، وأفسدوا هذا النظام، حتى وصل الأمر إلى إبطاله في عام 587م.

ثم في سلالة تانغ الملكية (618-907)، أي السلالة التي تلت السلالة سوي، تبلورت معالم نظام "كجيوي" للامتحان. وكان الامتحان برعاية وزير الثقافة والتعليم، وانقسم إلى فئتين، فئة "جينشي" وفئة "مينغجينغ"، حيث يشمل "جينشي" مواد كتابة الشعر وكتابة مقالة الاستشارة السياسية، ويُلقب الناجحون بـ"جينشي"، أما "مينغجينغ"، فيشمل مواد فهم وشرح الكتب الكلاسيكية للكونفوشيوسية، ويُلقب الناجحون بـ"مينغجينغ". في سلالة تانغ، قدم نظام الامتحان مساهمة كبيرة جدا في اختيار الكفاءات، إذ نجح فيه أكثر من 10 آلاف موهوب، و80% من رؤساء الوزراء للسلالة تم اختيارهم من بين الملقبين بـ"جينشي". 

وفي سلالة سونغ الملكية (960-1279)، تم إصلاح نظام "كجيوي" للامتحان، حيث كان الأباطرة آنذاك يريدون الإمساك بزمام المبادرة في اختيار الكفاءات. ومنذ تلك السلالة، قرر الأباطرة الإشراف على الامتحان النهائي بأنفسهم، وطلب بإجراء الامتحان النهائي في القصر الإمبراطوري، وكان يسمى "امتحان البلاط الإمبراطوري"، حيث يقوم الإمبراطور شخصيا بطرح السؤال وتحديد درجات الطلاب وترتيبهم، وأصبح الناجحون "طلاب الإمبراطور". هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فتحت سلالة سونغ باب الامتحان على مصراعيه أمام الجماهير، وسمح للجميع المشاركة فيه، بغض النظر عن الثروة أو العمر أو النسب، بل تتحمل الحكومة نفقات السفر للطلاب من المناطق البعيدة. على هذه الخلفية، ازداد عدد المشاركين في الامتحان بشكل كبير، وتمكّن المثقفون الفقراء من رفع مكانتهم الاجتماعية من خلال الدراسة والامتحان، الأمر الذي شجع الجماهير على الدراسة والتثقيف، والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي.

وفي عام 1065، أصدر الإمبراطور ينتسونغ لسلالة سونغ مرسوما ملكيا لتثبيت آلية الامتحان، ونص المرسوم على إجراء الامتحان في وقت محدد ومرة كل ثلاث سنوات. استمرت هذه الآلية حتى انتهاء نظام الامتحان في الصين في عام 1905.

دخل نظام الامتحان مرحلة النضوج خلال سلالة سونغ، حيث كانت تجرى الامتحانات على ثلاثة مستويات، أي مستوى الولاية ومستوى وزارة الثقافة والتعليم ومستوى البلاط الإمبراطوري. كان يجرى الامتحان على مستوى الولاية في مركز الامتحان لكل ولاية، ويستغرق كل امتحان ثلاثة أيام كاملة، من أجل ضمان التنافس الشريف والمساواة بين الطلاب، وتتخذ الحكومة إجراءات صارمة لتجنب ظاهرة الغش في الامتحان. مثلا، من المطلوب أن يصل الطلاب إلى مركز الامتحان مبكرا في يوم الامتحان، ويخضعون لتفتيش دقيق، ولا يسمح لهم إلا بأخذ معهم سلة شخصية، يوضع فيها الأقلام والحبر والشمعات والإبريق وبعض الأكل، ولا يمكن الدخول بأي كتاب أو ورق. في داخل المركز، ولكل طالب مقصورة خاصة، منفصلة عن الآخرين بالجدار، ولا يمكنه الخروج من المقصورة إلا بعد انتهاء الامتحان. وحتى في ظل كل هذه الإجراءات الصارمة، حاول بعض الطلاب الغش بكل الوسائل المتاحة، البعض كان يخفي ورق الغش في الأكل أو الملابس أو الجوارب أو الأحذية، والبعض الآخر كان يكتب الإجابات بكلمات صغيرة جدا في داخل الملابس أو على الجسم، وحتى شمعات الإضاءة أُستخدمت في بعض الأحيان كأداة الغش. وفي حال كشف ظاهرة الغش، كان يتعرض الطالب لعقاب شديد، لا يقتصر على إلغاء امتحانه، بل إلقاء القبض عليه وتكبيله أمام الجماهير، وقد يتم ترحيله إلى القوات الحدودية لمواجهة الأعداء البربرية. وفي بعض الأحيان، قد يطال العقاب كذلك والدي الطالب وأساتذته.

ورثت سلالة مينغ (1368-1644) وسلالة تشينغ (1636-1912) نظام الامتحان لسلالة سونغ، وشهدتا ازدهار النظام وانحساره وانهياره. ثم في القرن الـ18، بدأت الثورة الصناعية في بريطانيا والعالم الغربي، حيث تطور الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا في هذه الدول بشكل سريع، لكن نظام الامتحان في الصين بقى كما هو من دون أي تغير، فالطلاب الصينيون ما زالوا منهمكين في حفظ الكتب الكلاسيكية للكونفوشيوسية، وضيّعوا أوقاتهم في كتابة المقالات بالأسلوب الذي يهتم فقط بجمال اللغة ولا يأبه بالتفكير والابتكار.

وفي العصر الحديث، تحوّل نظام الامتحان في الصين من قوة دافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية إلى قوة تعرقل تقدم التاريخ، لأنه أغلق أعين الطلاب وآذانهم وأبعدهم عما يحدث في العالم الخارجي. عندما أصبح الناجحون في الامتحان كبار المسؤولين في الحكومة، لا يعرفون وحتى لا يتخيلون مدى تطور العالم الغربي، وتكبّروا حتى وصلت السفن الحربية الغربية وفتحت أبواب الصين بالمدافع. لكن في أواخر سلالة تشينغ الملكية، بدأ بعض المثقفين إدراك خطورة الوضع وكتبوا عرائض للإمبراطور واقترحوا فيها إلغاء نظام الامتحان المتخلف. ومن المفارقة، كان أكثر مَن طلب إلغاء نظام الامتحان هم الناجحون في هذا الامتحان.

أما حكومة سلالة تشينغ، فبعد سلسلة من الخسائر في الحروب المتتالية مع الغرب، أدركت أخيرا أن نظام "كجيوي" للامتحان قد ولى عليه الزمن، وقررت إلغاءه في عام 1905، وبدأت دراسة العلوم الغربية، غير أن هذه الخطوة جاءت متأخرا جدا، فلم تنقذ سلالة تشينغ من الانهيار في عام 1912.

خلاصة القول، ساهم نظام "كجيوي" للامتحان، الذي امتد لأكثر من 1300 عام، في اختيار أكثر من 100 ألف موهوب لحكومات مختلف السلالات، ولديها مساهمة هائلة جدا في تاريخ الصين، غير أنه لم يواكب تغيرات العصر، حتى أصبح العنصر المعرقل للتنمية، وبات متروكا في النهاية.

واليوم، تنتهج حكومة جمهورية الصين الشعبية نظاما متكاملا للامتحان، لا يهتم بالثقافة التقليدية الحميدة للصين فحسب، بل بجميع العناصر الإيجابية للثقافات الأخرى، فالطلاب الصينيون اليوم يعرفون الصين ويعرفون العالم، مصممون على الاستفادة من إيجابيات الثقافة الصينية وتجنب سلبياتها، حتى يساهموا في بناء الوطن وتنمية العالم.   

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز