عاجل
الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

عقبة والقيروان

د. إبراهيم محمد مرجونة
د. إبراهيم محمد مرجونة

من أشهر آثار عقبة الإنشائية تخطيط وبناء مدينة القيروان، والقيروان كما قال الأزهري: لفظ معرب، وهو بالفارسية كاروان (الجميل أو اللطيف)، وقد ورد في كلام العرب قديما. وتُعتبر من أقدم وأهم المدن الإسلامية، بل هي المدينة الإسلامية الأولى في بلاد المغرب، واستمرّ في بنائها قرابة خمس سنوات، فبنى بها عقبة الأبنية والأسواق، وبلغت مساحتها 13,600 ذراع، وأصبحت قاعدة انطلاق الفتوح ناحية المغربين الأوسط والأقصى، وبتمام بناء المدينة أمن المسلمون واطمأنوا في إفريقية، وثبت الإسلام فيها، وأقبل الأفارقة والبربر والسودان على السكن في القيروان، واعتنقوا الإسلام وامتزجوا مع العرب بمرور الوقت.



 

وأصبحت القيروان بعد وفاة عقبة أول المراكز العلمية في المغرب العربي، ولقد قصدها أبناء المغرب وغيرها من البلاد المجاورة. وسكن بالمدينة العديد من التابعين، ومنها خرجت علوم المذهب المالكي، وإلى أئمتها كل عالم ينتسب وكان قاضي القيروان يمثل أعلى منصب ديني في عموم البلاد المغربية. في سنة 50هـ، بدأت إفريقيا الإسلامية عهدا جديدا مع عقبة بن نافع، المتمرس بشؤون إفريقيا منذ حداثة سنّه، وعلم أن السبيل الوحيد للمحافظة على إفريقيا ونشر الإسلام بين أهلها، هو إنشاء مدينة تكون محط رحال المسلمين، ومنها تنطلق جيوشهم فأسس مدينة القيروان وبنى جامعها، وابتدأ بتخطيط دار الإمارة، ثم عمد إلى موضع المسجد الأعظم فاخْتَطَّه، ولكنه لم يحدث فيه بناء.

 

مسجد ومدينة القيروان التي أسسها عقبة بن نافع

لم يكن عقبة بن نافع قائدًا عسكريًا محضًا فقط، بل كان صاحب عقلية مبدعة وفكر استراتيجي فذ وهو يصح أن يطلق عليه خبير بشؤون المغرب والشمال الإفريقي، ومن خلال حملاته الجهادية المستمرة على الشمال الإفريقي، أدرك أهمية بناء مدينة إسلامية في هذه البقاع وذلك لعدة أسباب:

أسباب بناء مدينة القيروان

تثبيت أقدام المسلمين والدعوة الإسلامية وبناء مدينة إسلامية خير علاج لظاهرة الخروج من الإسلام بعد الدخول فيه التي كانت منتشرة في إفريقيا. ضرورة تكوين قاعدة حربية ثابتة في مواجهة التهديدات الرومية المتوقعة، بعد فتح الشمال الإفريقي. من أسباب تراجع المسلمين عن إفريقية هو طول خط المواصلات بينهم وبين أقرب مرتكز لهم وهو “الفسطاط”، وخير وسيلة للاستقرار بالمغرب هي في الاحتفاظ بجيش دائم، وذلك يستدعي إنشاء مدينة جديدة. أن تكون هذه المدينة دار عزة ومنعة للمسلمين الفاتحين، ذلك لأنهم تفرقوا في البلاد كحاميات على المدن المفتوحة، وهذا التفرق قد يورث الضعف والوهن مع مرور الوقت، خاصة لو دهم عدو كبير العدد هذه البلاد.

حملته الثانية من القيروان إلى الأطلسي

سار عقبة في جيش عظيم لإعلاء كلمة الحق ونشر الإسلام متجهًا إلى مدينة باغية، حيث واجه مقاومة عنيفة من البيزنطيين الذين انهزموا أمامه، والتقى المسلمون أعداءهم في مدينة (تاهرت) وقاتلوهم قتالًا شديدًا، فاشتد الأمر على المسلمين لكثرة عدوهم، ولكنهم انتصروا أخيرًا.

ثم استمر عقبة بن نافع غربًا قاصدًا بلاد الزاب، فسأل عن أعظم مدنها فقيل له: (أَرَبَه) وهي دار ملكهم، وكان حولها ثلاثمئة وستون قرية كلها عامرة. ثم توجه إلى جهات المغرب الأقصى فوصل إلى طنجة، ومنها إلى الجنوب الغربي، قاصدًا بلاد السوس الأدنى، حيث بنى مسجدا في مدينة درعة، ثم غادر صحارى مراكش باتجاه الشمال الغربي إلى منطقة (تافللت) من أجل أن يدور حول جبال أطلس العليا كي يدخل بلاد صنهاجة الذين أطاعوه دون قتال، وكذلك فعلت قبائل هكسورة في مدينة (أغمات)، بعدها اتجه عقبة نحو الغرب إلى مدينة تفيس، فدخل المدينة منتصرًا وبذلك أتم تحرير بلاد السوس الأقصى، ودخل عاصمتها (ايجلي) التي بنى فيها مسجدًا، ثم دعا القبائل فيها هناك إلى الإسلام، فأجابته قبائل جزولة، وبعد ذلك سار إلى مدينة (ماسة)، ومنها إلى رأس (إيفران) على البحر المحيط. وبوصول عقبة بن نافع إلى ساحل المحيط الأطلسي يكون قد أنجز تحرير معظم بلاد المغرب.

وتشير مصادرنا التاريخية إلى أن عقبة لما وصل إلى المحيط الأطلسي قال: يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهدًا في سبيلك.

ثم قال: اللهم اشهد أني قد بلغت الجهود، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بالله، حتى لا يعبد أحد من دونك، ثم وقف ساعة، ثم قال لأصحابه: ارفعوا أيديكم، ففعلوا، فقال: اللهم لم أخرج بطرًا ولا أشرًا، وإنك لتعلم أنما نطلب السبب الذي طلبه عبدك ذو القرنين، وهو أن تُعبـد ولا يُشرك بك شيء، اللهم إنا معاندون لدين الكفر، ومدافعون عن دين الإسلام، فكن لنا ولا تكن علينا يا ذا الجلال والإكرام، ثم انصرف راجعًا (ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 1989، 590).

وصيته لأولاده

بعد اكتمال بناء القيروان عام خمسة وخمسين، عُزل عقبة بن نافع عن ولاية إفريقيا، ثم لمّا أُعيد إليها عام اثنين وستين قام برحلته الجهادية المشهورة التي قطع فيها ما يزيد على ألف ميل من القيروان في تونس إلى ساحل المحيط الأطلسي في المغرب، وقد استخلف على القيروان زهير بن قيس البلوي، ودعا لها قائلًا: يا رب املأها علمًا وفقهًا، واملأها بالمطيعين لك، واجعلها عزًا لدينك وذلًا على من كفر بك.. وامنعها من جبابرة الأرض (ابن عذارى، البيان المغرب، 23)، وخرج عقبة بأصحابه الذين قدم بهم من الشام وعددهم عشرة آلاف، إلى جانب عدد كبير انضم إليهم من القيروان، ودعا بأولاده قبل سفره، وقال لهم: إني قد بعت نفسي من الله عز وجل فلا أزال أجاهد من كفر بالله، ثم قال: يا بني أوصيكم بثلاث خصال فاحفظوها ولا تضيعوها: إياكم أن تملؤوا صدوركم بالشعر وتتركوا القرآن، فإن القرآن دليل على الله عز وجل، وخذوا من كلام العرب ما يهتدي به اللبيب ويدلكم على مكارم الأخلاق، ثم انتهوا عما وراءه، وأوصيكم أن لا تُداينوا ولو لبستم العباء، فإن الدّين ذُلٌّ بالنهار وهمٌّ بالليل، فدعوه تسلم لكم أقداركم وأعراضكم، وتبقَ لكم الحرمة في الناس ما بقيتم، ولا تقبلوا العلم من المغرورين المرخصين فيجهلوكم دين الله، ويفرقوا بينكم وبين الله تعالى، ولا تأخذوا دينكم إلا من أهل الورع والاحتياط فهو أسلم لكم، ومن احتاط سلم ونجا في من نجا، ثم قال: عليكم سلام الله، وأُراكم لا ترونني بعد يومكم هذا ثم قال: اللهم تقبل نفسي في رضاك، واجعل الجهاد رحمتي ودار كرامتي عندك (ابن عذارى، البيان المغرب، 23).

 

أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية

كلية الآداب بدمنهور

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز