

محمد هلال
حكايات فلاسفة الغرب مع نبي العرب
بقلم: محمـد هلال
أن يمدحك من يحبك ويدبج القصائد والمقالات في جلال أوصافك وجمال صفاتك وعمق محبتك، وحتى أن يبالغ في وصف خصالك الحميدة أو يتجاوز؛ فذا شأن عادي.. فالمحبوب في عيون حبيبه لا مثيل له؛ في جماله ودلاله.. وهذا في شرع المحبة جائز، بل إن عدم الالتفات إليه من موبقات القلوب العاشقة في عُرف الصوفية.. ويسمى في علوم النفس والاجتماع والفلسفة، عبادة أو على الأصح تقديس الأبطال. خلاصة القول إن الإنسان العظيم هو من يعرف قدر العظيم، أما الصغار فيتأكلون ويتقذمون ويذهبون قبض ريح، مهما بلغت بهم الدنيا وظنوا أنهم شيئًا. هكذا ذهب من هاجموا سيد الخلق وذهبت نفوسهم الصغيرة، وبقي من رأوه بقلوب عامرة ونفوس ذكية وأرواح طاهرة. كما فعل الفيلسوف الأسكتلندي توماس كارليل 1795 م مؤلف كتاب "الأبطال"، أول من كتب مدافعًا عن النبي محمـد في التاريخ الأوروبي.
المحكمة الدستورية الأمريكية والنبي
الحق يقال، حتى الساعة لم يحظ أحد من خلق اللـه بتلك الميزة إلا نبي الإسلام محمـد صلى الله عليه وسلم.. ولن نناقش هنا ما قاله المحبون فذا له شأن آخر.. وإنما الذي سنذكر بعض شهادات أو مقالات ـ سمها ما شئت ـ لفلاسفة وأصحاب عقول مشهود لهم بالرجحان في بلادهم قبل بلادنا، وكلهم من غير المسلمين التابعين للعقيدة التي كان يدعو إليها نبي الإسلام.. وقبل أن نخوض غمار البحث والتنقيب في بطون الكتب. يطالعنا في صدر المحكمة الدستورية العليا في الولايات المتحدة الأمريكية نصب منقوش عليه ما هذا نص ترجمته: "المحكمة الدستورية العليا تكرم النبي محمـد لكونه من أعظم مصادر القانون في العالم". ولك أن تدهش في كنه هذا الرجل الذي لم يخرج من صحراء جزيرة العرب، مذ ألف وخمسمائة عام، ومازال حتى الآن يختلف أتباعه في كونه "أمي" بمعنى، لا يقرأ ولا يكتب.. أم بمعنى "أممي"، أي لم يعتنق أي عقيدة سابقة عليه، وثنية أو يهودية أو مسيحية.. أن تكون أقواله من أعظم مصادر القانون في عالم اليوم؟! هنا علامة استفهام كبيرة بحجم الكون تثيرها شهادة المحكمة الدستورية الأمريكية العليا.
مايكل هارت.. وأعظم الخالدين
يأتي على رأس القائمة كتاب "الخالدون مائة أعظمهم محمـد"، الذي ترجمه الكاتب المصري الكبير أنيس منصور عن مؤلفه "مايكل هارت"، وهو فيزيائي فلكي يهودي أمريكي، والكتاب عبارة عن قائمة بأفضل 100 شخصية تأثيرًا في مجريات التاريخ البشري.. على رأسها كما يصرح عنوان الكتاب اسم النبي محمـد صلى الله عليه وسلم. أما مبررات حكم مايكل هارت ليختار محمـد بن عبدالله على رأس البشرية فيقول: "لقد اخترت محمـد في أول القائمة، ولا بد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار، ولكن محمـد هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيوي.. وبعد قرون طويلة من وفاته فإن أثره مايزال قويًا.. إلى أن يقول مايكل هارت: "فهذا الامتزاج بين الدين والدنيا هو الذي جعلني أومن بأن محمـد هو أعظم الشخصيات تأثرًا في تاريخ الإنسانية كلها".
الأسكتلندي كاريل.. و"البطل رسولًا"
نأتي لذكر فيلسوفنا توماس كاريل مؤلف كتاب "الأبطال" وهو دراسة أدبية فلسفية تاريخية، نقلها إلى العربية المترجم محمـد السباعي، والذي بين أيدينا هي الطبعة الثالثة، وقد صدرت في سنة 1930م. يقول المترجم: كان الرسول قبل هذا الكتاب هدفًا لأقلام الكثيرين من الغربيين ولاسيما أهل القرن الثامن عشر.. قرن فولتير، أعني قرن الإلحاد، يرمونه جهلًا وكنودًا بقواذع الهجاء وقواذف الذم.. ما جعل ريتشارد جازييت يقول: فلما كتب كاريل مقالته عن الإسلام ينافح فيها عن النبي محمـد ويناضل دونه لم يبق صاحب هجاء أطلق يده في عِرض محمـد إلا قبضها مجذومة شلاء، ولا فحاش يرمي ذلك الأديم الأملس وتلك الصحيفة البيضاء بسهام السباب إلا وردت سهامه في نحره حتى راح شرف النبي في تلك الديار بفضل الفيلسوف كاريل صحيح الأديم موفور الجانب، فحق على أهل الإسلام جميعًا أن يشكروا لذلك الفيلسوف البطل الجليل هذه اليد البيضاء. كانت خطة توماس كاريل المتوفى في سنة 1881 م، في كتاب الأبطال هي تقديس خاص لعظماء الرجال في التاريخ، ولذا سمى كتابه "الأبطال" الذي يحوي ستة فصول، ولم تقتصر البطولة من وجهة نظره في ذلك المجال أو ذاك في شخص واحد وإنما لأكثر من شخص، فيرى مثلًا "البطل شاعرًا" في شخص دانتي أليجيري ووليم شكسبير. ويرى "البطل ملكًا أو حاكمًا " في شخص كرومويل ونابليون ـ وكان معاصرًا له ـ وهكذا. أما فصل "البطل في صورة رسول"، فقد اقتصر فيه على شخص النبي محمـد وحده. وذلك كما قلنا للمرة الأولى في تاريخ الفكر الغربي.. وقال في صدر الكلام: ننتقل الآن من تلك العصور الخشنة، عصور الوثنية الشمالية "يقصد أوروبا" إلى دين آخر في أمة أخرى.. دين الإسلام في أمة العرب. في هذا التطور الجديد لم ير الناس في بطلهم إلهابل رسول بوحي من الإله.. وهذه هي الصورة الثانية للبطل، فأما الأولى "البطل الإله"، فقد ذهبت إلى حيث لا تعود. لقد كان اعتبار الرجل العظيم إلهًا غلظة وحشية فاحشة. ثم يقول كاريل: لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدين من أبناء هذا العصر أن يصغى إلى ما يظن من أن دين الإسلام كذب، وأن مُحمَّـدًا خداع مزور، وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة، فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول مازالت السراج المنير مدة (أثنى عشر قرنًا) لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا ـ الآن مضي 15 قرنًا وبلغ تعداد المسلمين في دول العالم 1,8مليار مسلم.. والإسلام هو العقيدة الثانية بعد المسيحية ـ خلقهم اللـه الذي خلقنا، أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائقة الحصر والإحصار أكذوبة وخدعة؟ أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبدًا ولو أن الكذب والغش يروجان عند خلق اللـه هذا الرواج ويصادفان منهم مثل ذلك التصديق والقبول فما الناس إلا بُله ومجانين وما الحياة إلا سخف وعبث وأضلولة كان الأولى بها ألا تخلق. المقال كبير جدًا يبلغ عدد صفحاته 43 صفحة من القطع الكبير، وهو الفصل الثاني في كتاب "الأبطال". المستشرق السويسري.. ونبي الخير
المستشرق السويسري العلامة ماكس فإن برشم 1863م توفي في 1921م الذي تخصص في النقوش الإسلامية وله عدة مؤلفات في ذلك، وقد أسس فن معرفة الكتابات العربية القديمة.. ما يعنينا في هذا المقام كتابه "العرب في آسيا"، حيث قال في مقدمته: "إن محمـدًا نبي العرب من أكبر مريدي الخير للإنسانية، إن ظهور محمـد للعالم أجمع إنما هو أثرُ عقلٍ عالٍ وإن افتخرت آسيا بأبنائها، فيحق لها أن تفخر بهذا الرجل العظيم، إن من الظلم الفادح أن نَغمِط حق محمـد الذي جاء من بلاد العرب، وإليهم وهم على ما عَلِمناه من الحقد البغيض قبل بعثته، ثم كيف تبدَّلت أحوالهم الأخلاقية والاجتماعية والدينية بعد إعلانه النبوة، وبالجملة مهما ازداد المرءُ اطلاعًا على سيرته ودعوته إلى كل من يرفعُ من مستوى الإنسان، إنه لا يجوز أن ينسب إلى محمـد ما ينقُصُه، ويدرك أسباب إعجاب الملايين بهذا الرجل، ويعلمُ سبب محبتهم إياه وتعظيمهم له". وفي دراسة لمركز الشرق العربي كتب المستشرق الألماني دكتور شوميش جاء فيها: يقول البعض إن القرآن كلام محمـد وهذا القول محض افتراء، فليس في استطاعة محمـد ذلك الرجل الأمي في تلك العصور الغابرة أن يأتينا بكلام تحار فيه عقول الحكماء. ربما تعجبون من اعتراف رجل أوروبي بهذه الحقيقة، لكن سيزول العجب إذا ما علمتم أني درست القرآن فوجدت فيه من تلك المعاني العالية، والنظم المحكمة، وتلك البلاغة التي لم أجد مثلها قط في حياتي، جملة واحدة تغني عن مؤلفات. هذا ولا شك أكبر معجزة أتى بها محمـد عن ربه. تولستوي.. "حِكم النبي مُحمَّد"
في كتابه الأشهر "حِكَم النبي مُحمَّـد"، يقول أحد عمالقة الروائيين الروس، في القرن التاسع عشر هو الكونت ليف نيكولا يافيتش تولستوي 1828 ميلاد 1910 وفاة.. وكان ليو تولستوي روائيًا وداعية سلام ومصلحًا اجتماعيًا ومفكرًا أخلاقيًا، ومن أشهر أعماله روايتي "الحرب والسلام" و"أنا كارنينا" وكان قد تراسل محاورًا مع الإمام المجدد محمـد عبده ولم يمهلهما الموت لاستكمال حوارتهما. قال الفيلسوف تولستوي فيما قال: "من فضائل الدين الإسلامي أنه أوصى خيرًا بالمسيحيين واليهود لاسيما قسوس الأولين؛ فقد أمر بحسن معاملتهم ومؤازرتهم، حتى أباح هذا الدين لأتباعه التزوج من المسيحيات واليهوديات مع الترخيص لهن بالبقاء على دينهم، ولا يخفى على أصحاب البصائر النيرة ما في هذا من التساهل العظيم، ومما لا ريب فيه أن النبي محمـدًا من كبار المصلحين، الذين خدموا الهيئة الاجتماعية خدمة جليلة ويكفيه فخرًا أنه هدى أمة برمتها إلى النور الحق وجعلها تجنح للسكينة والسلام وتفضل عيشة الزهد ومنعها عن سفك الدماء وتقديم الضحايا البشرية، وفتح لها طريق الرقي والمدنية وهو عمل عظيم، لا يقوم به إلا شخص أوتى قوة، ورجل مثل هذا جدير بالاحترام والإكرام. ومحمـد لم يقل عن نفسه أنه نبي اللـه الوحيد، بل اعتقد أيضا بنبوة موسى والمسيح وقال إن اليهود والنصارى لا يكرهون على ترك دينهم بل يجب عليهم أن يتمموا وصايا أنبيائهم. رسالة محمـد عبده إلى تولستوي.
وختامًا لمقالنا السريع هذا رأينا أن نثبت نص الرسالة الوحيدة التي بعث بها الإمام المجدد محمـد عبده إلى الفيلسوف تولستوي.. الذي جهر بالحق وسط اللغط والتلفيقات والأكاذيب الشرسة ضد الإسلام ونبي الإسلام، لكن الموت حال بين تواصل الرسائل والحوار، ولد الإمام سنة 1849 م وانتقل إلى جوار ربه في سنة 1905 بعد إرسال رسالته بعدة أشهر عن طريق البريد، وكان الوسيلة المتاحة في هذا الزمان.. والرسالة مثبته في كتاب " حِكم النبي محمـد".. قال الإمام في رسالته: "أيها الحكيم الجليل موسيو تولستوي: لن نحظ بمعرفة شخصك ولكننا لم نحرم من التعارف مع روحك، سطع علينا نور من أفكارك، وأشرقت في آفاقناشموس من آرائك، ألفت بين نفوس العقلاء ونفسك، هداك اللـه إلى معرفة سر الفطرة التي فطر الناس عليها ووقفك على الغاية التي هدى البشر إليها، فأدركت أن الإنسان جاء إلى هذا الوجود لينبت بالعلم ويثمر بالعمل ولأن تكون ثمرته تعبًا ترتاح به نفسك وسعيًا يبقى به، ويربي جنسه، وشعرت بالشقاء الذي نزل بالناس لما انحرفوا عن سُنة الفطرة وبما استعملوا قواهم التي لم يُمنحوها إلا ليسعدوا بها فيما كدر راحتهم وزعزع طمأنينتهم. ونظرت نظرة في الدين مزقت حجب التقاليد، ووصلت بها إلى حقيقة التوحيد ورفعت صوتك تدعو الناس إلى ماهداك اللـه إليه، وتقدمت أمامهم بالعمل لتحمل نفوسهم عليه فكما كنت بقولك هاديًا للعقول، كنت بعملك حاثًا للعزائم والهمم، وكما كانت آراؤك ضياء يهتدى بها الضالون كان مثالك في العمل إمامًا يقتدي به المسترشدون، وكما كان وجودك توبيخًا من اللـه للأغنياء كان مدادًا من عنايته للضعفاء والفقراء، وإن أرفع مجد بلغته وأكبر جزاء نلته على متاعبك في النصح والإرشاد هو هذا الذي سماه الغافلون بالحرمان والإبعاد، فبيس ما حصل لك من رؤساء الدين سوى اعتراف منهم أعلنوه للناس أنك لست من القوم الضالين فاحمد اللـه على أن فارقوك في أقوالهم كما كنت فارقتهم في عقائدهم وأعمالهم. هذا وأن نفوسنا لشيقة إلى ما يتجدد من آثار قلمك فيما تستقبل من أيام عمرك وإنا نسأل اللـه أن يمد في حياتك ويحفظ عليك قواك ويفتح أبواب القلوب لفهم قولك ويسوق النفوس إلى التأسي بك في عملك والسلام.
التوقيع.. محمـد عبده مفتي الديار المصرية
رسالة الفيلسوف للشيخ المجد
ومن غرائب الأشياء، أن رسالتا الإمام ورد تولستوي عليها محفوظتان حتى الآن في متحف تولستوي بموسكو.. فخبر الموت حال دون وصول الرد فحفظتا في المتحف. ومن تمام الفائدة أن نذكر رسالة الفيلسوف تولستوي، وهي مترجمة في كتاب "ورثة تولستوي".. ردًا على الإمام محمـد عبده.. قال ما هذا نصه: "لقد تلقيت رسالتكم الطيبة الحافلة بالمديح وهأنذا أسارع بالرد عليها مؤكدًا لكم أولًا السعادة الكبرى التي أعطتني إياها إذ جعلتني على اتصال برجل متنور.. حتى ولو كان ينتمي إلى إيمان يختلف عن إيماني الذي ولدت وترعرت عليه.. ومع هذا فإني أشعر بأن ديننا واحد. لأني أعتقد أن ضروب الإيمان مختلفة ومتعددة. وإني لآمل ألا أكون مخطئًا إذ أفترض ـ عبر ما جاء في رسالتكم ـ بأنني أدعو إلى الدين نفسه الذي هو دينكم.. الدين الذي يقوم على الاعتراف باللـه وبشريعة اللـه التي هي حب القريب ومبادرة الآخر بما نريد من الآخر أن يبادرنا به، إنني مؤمن بأن كل المبادئ الدينية الحقيقية تنبع من هذا المصدر، والأمر ينطبق على كل الديانات، وإنني لأرى بمقدار ما تمتلئ الأديان بضروب من الجمود الفكري والأفكار المتبعة والأعاجيب والخرافات، بمقدار ما تفرق بين الناس بل تؤدي إلى توليد العدوات فيما بينهم.. وفي المقابل بمقدار ما يصيبها النقاء تصبح أكثر قدرة على بلوغ الهدف الأسمى للإنسانية ووحدة الجميع. وهذا هو السبب الذي جعل رسالتكم تبدو لي ممتعة وفي النهاية أرجو أن تتقبلوا يا جناب المفتي تعاطف صديقكم.. تولستوي.