عاجل
الثلاثاء 29 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
الصحافة اللبنانية.. موسم الهجرة إلى أوروبا

الغربة الثانية 16

الصحافة اللبنانية.. موسم الهجرة إلى أوروبا

كُنتُ في بعض الأيام في مجلة "الديار"، وكان اجتماع التحرير الأسبوعي الذي اعتاد عقده حنا غصن، الصحفي المخضرم وصاحب امتياز جريدة "الديار"، قبل أن يحولها ياسر هواري إلى مجلة أسبوعية. نزل حنا غصن يومها على الحديث على ما كانت بدأت الصحافة اللبنانية تعانيه، مع اشتداد أوار الاحتراب الداخلي.. فاستذكر ما قاله سياسي عربي محنك كان مرّ بلبنان في مطالع السبعينيات: "لبنان برلمان العالم العربي"، فسال وقتها حبرًا كثيرًا على هذا القول.



لم تكن نقطة كلام السياسي العربي تدور على النظام البرلماني اللبناني، إنما كان صوّب كلامه على الصحافة اللبنانية، التي جعلت البلد الصغير منبرًا كبيرًا وحرًا، تتلاقح فيه الأفكار.

خلال عملي طوال نيف وسنوات ست في الصحف اللبنانية، متنقلًا من مجلة إلى أخرى، كنت الشاهد المنغمس في دور تلك الصحافة كمنبر حر، وأفق مفتوح للعرب.. كل العرب.

ولما طغت السلطنة العثمانية، وبغت وتجبّرت وقست، حُرم اللبنانيون من حرياتهم في القول والكتابة والفعل، فهاجر الصحفيون، حملوا معهم صحفهم ومجلاتهم، إما إلى مصر، وإما إلى أوروبا والولايات المتحدة.

وترك هؤلاء بصماتهم على الحياة الصحفية والفكرية في مصر، كما في البلدان التي حملوا إليها أقلامهم، وأفكارهم، وإجادتهم، وإبداعاتهم.

كثيرون منهم نُكِّلَ بهم، عُذِبوا وتعذبوا، جُلِدوا في أقبية السجون، وبعضهم عُلِّقَ على المشانق، لأنهم لم يحنوا هاماتهم للعثماني الجائر، وظلت رؤوسهم مرفوعة بعنفوان وكِبَرٍ.

وفي كل سنة في السادس من مايو (آيار) يذكر اللبنانيون سعيد فاضل عقل، الشيخ أحمد حسن طبارة، عبد الغني العريسي، بترو بولي وجرجي حداد.

طوال سنتي الإعصار السياسي والعسكري في لبنان، عاندت الصحافة، حاولت أن تصمد، ألا تتوقف جريدة عن الإطلالة اليومية على الناس المتلهفين لتسّقط الأخبار، أو مجلة عن موعدها الأسبوعي أو الشهري.

حتى عندما كنا نُحبس في مكاتبنا، ونبقى تحت رحمة القناصة، ونختبئ من القذائف العمياء التي تنزل علينا من كل حدب وصوب، ما توقفنا عن الكتابة. وكنا ننتظر بفارغ الصبر أن نسمع صوت شريف الأخوي من "إذاعة لبنان"، ليدلنا على الشوارع والدروب "السالكة والآمنة" لنعود إلى منازلنا.

وإلى جانب الجرائد والمجلات المُرَخَّصُ لها ولامتيازها، نبتت، مثل الفطر، جرائد ومجلات غير شرعية وغير مأذون لها قانونًا بالصدور والتوزيع، كانت تُفرض فرضًا على الحواجز المنصوبة في الشوارع الرئيسية، وحتى الفرعية.

تقف "سيارة السرفيس" عند الحاجز، ويتكرر المشهد: تفتر شفتي المقاتل الشاب عن ابتسامة ماكرة، في عينيه ترتعش شرارة اللحظة، تختفي ملامحه تحت شعيرات نبتت على وجهه، تطل منها شعيرات بيضاء. شعره المجعد المنكوش يكمل الصورة التي انطبعت في الأذهان، عن مقاتل تعبت اصبعه من الضغط على الزناد، ونسي النوم على أصوات القذائف وأزيز الرصاص.

وأنت كل يوم تمر على الحواجز، وهات اصبعك أعد عليها، فبين الحاجز والحاجز حاجز آخر، ومسلح يشبه الذي قبله، وتنتظر أن ترى مثله بعده.

ولا يسألك المقاتل الأشعث الشعر وهو يُدخل رأسه من نافذة السيارة، يتفحص بعينيه المحمرتين من السهر والتعب ويقرأ وجوه الركاب، عن هويتك، ومن أين أنت، وإلى أين أنت ذاهب.. كل همه في تلك اللحظة أن يبيعك مجلة يصدرها تنظيمه المسلح أو حزبه.

وأنت في رحلة الوصول إلى مكتبك، قد تشتري عشر مجلات لعشرة تنظيمات مسلحة، وقد تجاوز عدد هذه المطبوعات غير الشرعية التي استباحت القوانين، مئة مطبوعة. 

والمجلات والجرائد المتناحرة والمتنافسة على الأرض، تقابلها إذاعات غير شرعية تتنافس على الهواء، وتتناطح عبر الأثير.

وما لجوء التنظيمات السياسية إلى إصدار تلك الصحف والمجلات والنشرات، سوى برهان آخر على مدى إيمان اللبناني (إلى أي حزب أو تنظيم انتمي وبأي لَوْنٍ لَوَّنَ فكره)، بقدرة وسطوة الصحافة على الإقناع.

أمام هذه الحقيقة الناصعة التي لمستها خلال سنوات غربتي في لبنان، وجد المخططون والمحرضون والمنفذون للاحتراب الداخلي الذي مزق البلاد وشرّد العباد، أن السلاح وحده لا يحل القضية المتنازع عليها، وأن لا مناص من القلم والحبر والورق، للوصول إلى مبتغاهم. وثمة حقيقة أخرى، في أن تلك النشرات والمجلات والجرائد المقتصرة على البيئة والمحيط الضيقين، تعني أن ناشريها، وهنا التنظيمات والميليشيات، بحاجة إلى استقطاب لسياساتهم وأهدافهم، وإلى تثبيت المحاربين الذين حولهم وحواليهم في مواقفهم.       

فجأة تغير كل شيء. في أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1976 قبلت سوريا اقتراح قمة الجامعة العربية التي انعقدت في الرياض، والذي أعطى دمشق "تفويضًا" بإبقاء 40 ألف جندي في لبنان، باعتبارهم "قوات ردع" مكلفة بفض الاشتباكات، ووضع حد للاقتتال بين الأحزاب والميلشيات والمنظمات الفلسطينية، واستعادة الهدوء إلى الأراضي اللبنانية.

في البدء، كانت دول عربية أخرى تشارك في تلك القوات المفترض بها حفظ السلم ومنح الأمان للبنانيين المنهكين المثخنين بالجراح، إلا أن تلك الدول بدأت تنسحب تدريجيًا، الواحدة بعد الأخرى، ليبقى الجيش السوري وحده في الميدان، فقوات الردع التي بدأت عربية، انتهت سورية. 

إنَّ المشادة بين "الصحافة" و"السلطة" قائمة منذ أن كوّرت الأرض، فما بالك إذا كانت الصحافة هي الصحافة اللبنانية، وراحت قذائف الجيش السوري، تستهدف الجرائد التي لا تواليها، فقصفت جريدة" بيروت" المحسوبة على بغداد فاحتجبت، فكانت هجرة الصحافة اللبنانية الثانية إلى أوروبا وبعض البلدان العربية.

أما جريدة "المحرر" فقد حاصر مبناها مائة جندي، وعلى الرغم من ذلك أصر وليد أبو ظهر (وكان تولى الجريدة بعد وفاة شقيقه الأكبر هشام أبو ظهر) الصدور في اليوم التالي. فصدرت الجريدة وعلى الصفحة الأولى بالخط العريض: "المحرر لن تركع". 

فما كان من دمشق، إلا أنها ضغطت على السلطات اللبنانية، فصدر قرار بإيقاف العمل بترخيص الجريدة، ولم تنفع الاحتجاجات والبيانات المُندِدّة في تغيير القرار الذي أصاب الصحافة اللبنانية بمقتل، وكان الدافع الآخر للهجرة. 

وترك وليد أبو ظهر لبنان إلى باريس، وأصدر بتمويل عراقي مجلة "الوطن العربي"، واستأجر لها مكاتب في شارعMarbeuf  في الدائرة الثامنة، الذي يبدأ من شارع "جورج الخامس" وينتهي في "شانزليزيه"، فراحت تنافس مجلة "الحوادث" على الصدارة، إلا أن مجلة اللوزي كانت في مركزها لا تتزحزح منه. أما جريدة "المحرر" التي بقي امتيازها بيد أرملة هشام أبو ظهر، فقد عاد الدكتور نبيل المغربي وأصدرها في باريس، بعد الاختلاف مع وليد أبو ظهر، ليشتريها الصحفي السوري نهاد الغادري ويصدرها ردحًا من بيروت.

وفُجّرت مكاتب مجلة "الديار" قبل أن أصل إلى مكتبي فيها بفارق نصف ساعة، فلملم ياسر هواري أوراقه، وهاجر إلى باريس، وأصدر مجلة Arabies باللغة الفرنسية، وأتبعها بعد سنوات بواحدة باللغة الإنجليزية سماها Trend.

وقبل أن يمسه الضّرُّ، أغلق على بلوط أبواب مجلة "الدستور" وهاجر بها إلى باريس، أولًا، ليعود ويستقر بها في لندن.

ولما طاولت القذائف مبنى "الحوادث" في "عين الرمانة"، ورصاص "الدوم دوم" الحارق أشعل النار في المبنى، قرر سليم اللوزي نقل مجلته لتكون بجوار شقيقتها The Events التي كان أصدرها باللغة الإنجليزية في لندن، (ولي عودة للكلام عن هجرة "الحوادث" وعملي في إنتاجها، ومقتل صاحبها، متى حان ذلك).

وتتابع موسم هجرة الصحافة اللبنانية إلى أوروبا: بتمويل من المصرفي اللبناني جوزف عبده الخوري والثري الفلسطيني فيصل أبو خضرا، اشترى نبيل خوري امتياز مجلة "المستقبل" من الوزير السابق المهندس هنري إدّه، وكان أصدرها بعد استقالته من "حكومة الشباب" التي كان شكّلها الرئيس صائب سلام، وكانت أولى حكومات عهد الرئيس سليمان فرنجية، الذي انتهى بالحرب التي دمرت لبنان، وراح هنري إده في مجلته يشن الحملات القاسية ضد العهد وحكوماته، وقد استكتب عددًا من الكتاب العرب، منهم لطفي الخولي، الذي كان يكتب مقالًا كل أسبوع.

إلى جانب "المستقبل"، أصدر نبيل خوري "ياسمين" مجلة نسائية شهرية، تولى رئاسة تحريرها إبراهيم يوسف يزبك. ولنبيل خوري تجربة سابقة مع الصحافة النسائية لما أصدر مجلة "الخنساء" في بيروت وهي التي لم تعمر، كما "ياسمين" الباريسية طويلًا (ولي عودة إلى نبيل خوري وظروف تركه "الحوادث"، وهجرته إلى باريس، متى كان الحديث عن مجلة "الحوادث).

بعد اشتداد حدة الاقتتال والاجتياحات الميليشياوية، بات غسّان تويني يتخوف من إجبار "النهار" على التوقف، والاحتجاب. فارتأى أن يتم إصدار طبعة دولية مؤقتة من "النهار" هي "النهار العربي والدولي"، بحجم جريدة "لوموند"، ووضعت صيغة فريدة لرئاسة التحرير، فكانت ثلاثية: غسان تويني، فؤاد مطر وإلياس الديري. وبعد فترة، حلّ أنسي الحاج مكان فؤاد مطر ومعه عبد الكريم أبو النصر.

في مطالع الثمانينات، وكانت الحرب العراقية- الإيرانية على أشدها، وجدت القيادة العراقية بأنها بحاجة إلى إطلالة دولية، فموّلت إصدار مطبوعتين: واحدة في باريس تولاها ياسر هواري وسماها "كل العرب"، وثانية في لندن، تولاها فؤاد مطر وسماها "التضامن"، التي لي معها حكاية سأرويها متى حان أوانها.

 ما دار في خلدي لحظة واحدة، أن تُحدث "هنا لندن" ما أحدثتهُ من وقع حَسن لمّا صدرت بشكلها الجديد وبحلتها القشيبة، في الوسط الصحفي العربي الذي كان بدأ يتشكل في العاصمة البريطانية، فلفتت الانتباه إلى ما يمكن أن تؤديه شركتي الوليدة التي كانت لم تزل تحبو، من خدمات للصحف والمطبوعات التي تصدر، والأخرى التي تتحضر وتتهيأ للصدور في عاصمة الضباب.

جاءني صوت حسين قدري، متوهجًا، متلهفًا، متشوقًا ليزف إلى خبرًا، كان يريد أن يسبق فيه غيره، وقد كانت بيننا رفع كلفة ومودة منذ اليوم الأول الذي التقينا به في "بوش هاوس"، فقال بنبرة نشوانة:

-   "لم يترك أحدًا ممن يعرفهم، إلا وسأله عنك"! أدرك أنه تركني أتعجب، وقبل أن استفسر عن ذلك الذي يسأل عني، صهلل صوته:  - "رياض نجيب الريس.. أظنك لا بد عرفته في بيروت، فهو صحفي ملء السمع والبصر". هامت الأسماء في ذهني، ورحت أبحث أين قرأت اسم الرجل.. وفجأة قفزت جريدة "النهار" إلى ذهني، واستحضرت بعجالة الرسائل التي كان يرسلها رياض نجيب الريس من "فيتنام" خلال الحرب المأساوية فيها، فقد كان الصحفي العربي الوحيد الذي غطى تلك الحرب، وكنا نتحرق لقراءتها متى سمحت سلطات ذياك الزمن لجريدة "النهار" بدخول المحروسة. فأجبته معتدًا:

- أعرف عنه ولا أعرفه، وما صدف أن التقيته خلال إقامتي وعملي الصحفي في بيروت. انتعش صوت حسين قدري:

 -"ما علينا.. الرجل في لندن من فترة، والتقينا على فنجان قهوة، وعرفت منه أنه ينوي إصدار جريدة سياسية أسبوعية، ولست أدري من دَلَّهُ عليك، وأغلب الظن أنه عرف أنك وراء إنتاج "هنا لندن"، فسألني إن كنت أعرفك، فأعطيته عنوان مكتبك، وأرقام هواتفك".

انتشيت حبورًا، دغدغتني سعادة غامرة، راجعتني الثقة بنفسي وبمشروعي، ومع ذلك بت منشغل البال، انتظر ما يمكن أن يكون متى تم اللقاء.

وتعاقبت الأيام، وبعد أسبوعين من مكالمة الصديق حسين قدري، اتصل بي شاب، قدّم نفسه على أنه وليد الحاج، واكتفي بالاسم، من دون أن يلحقه بألقاب ومسؤوليات، وطلب بتهذيب مفرط لو "أتفضل، وأضرب موعدًا للقاء الأستاذ رياض نجيب الريس". 

وكان اللقاء، وولادة جريدة "المنار". 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز