عاجل
الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

تحت قصف الذكريات.. (قصة قصيرة)

د. أميرة سعد حافظ
د. أميرة سعد حافظ

لم ينتهِ الأمر عند حد الرحيل.. الأمر أبعد من الرحيل. لقد تركتُ جحيم الحرب إلى جحيم آخر يستَعِرُ بداخلي ولا سبيل للرحيل عنه؛ فحين تترك وطنك قسرًا كطفلٍ يتشبث بعباءة أمه، بينما يشده كل شيء بعيدًا، تشعر بِيُتمٍ لا يجبره مرفأ؛ لأن لا أحد يصلح أن يكون أمك سوى أمك، ولا شيء بوسعه أن يملأ خَواءً بحجم وطن.



كل يوم أحاول أن أزْدَرِد خَيبتي، وأعبُر محنتي، وأتجاوز ما تركتُ ورائي؛ ولكن الحرب ماضٍ أثقل من أن يُنسى، وبعضي الذي هناك أغلى من أن يُبتَر. شهور ثلاثة هنا ولايزال كل شيء حولي ينبش ذاكرتي حَتَّى في يومٍ كهذا؛ بداية عامٍ ميلاديٍّ جديد، والأنوار تَزِين الشوارع والمحال والمنازل، مازالت بعض البيوت تستحضر فيَّ بيتي الذي تركتُه ممتلئ الخزانات، وبعض السيارات تذكرني بسيارتي التي تركتُها تحت القصف بعدما ألقيتُ عليها نظرةَ الوداع وبكيتها وبكتْني، حَتَّى بعض البشر يذكرونني بأناي السابقة ذات البدلة الرسمية وربطة العنق، التي تحولت تحت وطأة الظروف إلى بائعٍ غيرِ قانوني لا يعلم عنه زبائنه سوى أنه بائع الحلوى البشوش، ذو الشارب العربي الذي يتخطى أزمة اللغة بابتسامة صامتة، حَتَّى نزهة على نهر "الراين" لم تكنْ لمن هم مثلنا؛ فمشهد الماء يعيد لأطفالي ذكرى رحلتنا الأليمة في المركب المكدَّس من سوريا للبلد العربي ومنها لأوروبا، ولا سِيَّما قد طالت في شِقِّها الثاني تسعةَ أيامٍ بعد عاصفة عاتية تلاطَم فيها اليأس والرجاء في رؤوسنا عشرات المرات، خاصةً بعد نفاد المُؤَن، ورأيتُ نفسي وأسرتي فيها مِرارًا جثثًا طافية قد يلوي العالمَ شَفتَه لأجلنا لثوانٍ ثمَّ ينسانا إلى الأبد.

تركتُ أفكاري على الأعتاب، ودخلت بأكياس الحلوى مناديًا طفلتَيَّ. نجحت المحاولة، ورأيتُ في عيونهما بعض الطُّمَأْنينة في أمسية حاولنا فيها أن نقتبس من البهجة حولنا بهجةً لنا... حَتَّى انتصف الليل، فكان لتقاليد هذا البلد رأي آخر؛ انطلقت الألعاب النارية كأنما تُلزِمنا مقعدنا من الخوف، وما أن بدأَتْ حَتَّى ركضتْ ابنتي الكبرى باكيةً تبحث عن ملجأ. كدتُّ أركض أنا أيضًا حَتَّى لمحت الأنوار الملوَّنة من النافذة، وجرت الصغيرة ذات العامَين تردد بفزع اسم دميتها لتختبئ معها كما اعتادتْ تحت القصف؛ تلك الدمية التي سألتنا عنها كثيرًا مذ أتينا دون رد. استجمعتُ الكلمات، وأخبرتهما أنها ألعاب فحسب، وحاولت جذبهما لتَرَيَا الألوان بالخارج، بينما ظلت زوجتي جاثية على ركبتيها تبكي بعد أن رفضَتا الخروج من وراء الأريكة. حَتَّى أنا وأمهما -نحن الراشدان- كان للصوت في نفوسنا دَوِي القنابل، ورائحة الفسفور، ومشاهد الموت؛ وما أن هَدَأَتا حَتَّى التْقطتُّ أنفاسي، وصرتُ أكرر لهما تحت قصف الألعاب النارية: "اطمئنَّا، كل شيء سيكون على ما يُرام".. رغم أنني لم أكن متأكدًا.

تمت

د. أميرة سعد حافظ

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز