عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
د. جابـر عصفـور.. التكامل عبر الاختلاف

د. جابـر عصفـور.. التكامل عبر الاختلاف

إنه الرمز الثقافي المصري الكبير د. جابر عصفور (1944 – 2021)، أحبه جدًا لأنني أفهمه جيدًا، وأعرف أوجهه المتعددة. 



إنه أحد الحلول المتجسدة حية، منجزة، ناجحة، قادرة على الحركة والفعل في كل الاتجاهات، لأنه حل عبقري سار بيننا على قدمين، حلًا منطقيًا للتناقض الطبيعي والتاريخي في كل أنحاء العالم المعاصر، وليس في منطقتنا العربية فقط، بل هو ذلك التناقض الذي يحمل الطابع التاريخي أيضًا، منذ أن عرفت البشرية الدول المنظمة ذات المؤسسات المتعددة. 

إنه ذلك التناقض التاريخي بين العلوم السياسية والثقافة والفنون. 

ود. جابر عصفور رمز مصري حاول صناعة هذا التكامل بين الثقافة والأدب والنقد والفن، وبين العلوم السياسية، لإدراكه كمثقف ومفكر أن هذا التكامل هو تكامل يحدث عبر الاختلاف وليس عبر التطابق، لاختلاف الأهداف وطريقة العمل، فالسياسة هي لغة القوة والمصلحة، أما الثقافة والفنون فهي لغة الحق والخير والجمال. 

ولذلك أقبلت على العمل معه عضوًا في لجنة المسرح أثناء فترة عمله أمينًا عامًا للمجلس الأعلى للثقافة، بكل فخر وثقة، لأنني كنت أفهم ضرورة أن يكون المثقف المصري في القلب من المؤسسة الرسمية كي يعطيها أدوارًا متعددة، وكي يفهم ماذا تريد، وكي يكسب احترامها، وكي يمارس دوره الثقافي في المراجعة واقتراح السياسات الثقافية. 

كان السؤال كيف يصبح الأستاذ المساعد الممنوع من العمل في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، والمستبعد من جامعة القاهرة، أمينًا للمجلس الأعلى للثقافة، ثم وزيرًا للثقافة؟ 

الإجابة، أنه أدرك أين تقع المساحات المشتركة بين السياسة والثقافة، وأنه وجد الحل المناسب كي يصنع الثقافة بشكل مؤسسي من داخل وطنه مصر. 

ولذلك وخلال خمسة عشر عامًا في أمانة المجلس الأعلى للثقافة، أنجز د. جابر عصفور مهمات كبيرة، وحقق أهدافًا صعبة ومنها: 

1- استعادة الدور المحوري المركزي المصري في الثقافة العربية، وقد أضحى المجلس آنذاك بيت الثقافة العربية، بشهادة كبار المثقفين في العالم العربي من مختلف الاتجاهات السياسية والفكرية. 

2- أخذت فعاليات المجلس طابعًا علميًا حقيقيًا يمكن فهمه وتقييمه بمعيار جودة البحث العلمي، ممزوجًا بطابع أنيق يعبر عن وهج وثراء وثقة بالدور الثقافي المصري والعربي. 

3- ساهم المجلس الأعلى للثقافة آنذاك في فتح أبوابه لكل الأطياف الثقافية، من يسار ويمين السلطة والمجتمع، وقد حقق هذا التنوع مساحة من حرية التعبير والثراء الفكري. 

4- ساهم المجلس الأعلى للثقافة في حضور مصر في الثقافة الإنسانية في معظم أنحاء العالم، وقد استضاف المجلس آنذاك مفكرين عالميين من أمثال مارتن برناك، وروبرت يانج، وجاك دريدا، وفي أمانته وعبر مشاركتي البحثية في مؤتمر مئوية الكاتب المسرحي هنريك أيسن، صافحت ملكة النرويج، وما أجمل أن يكون البحث العلمي أنيقًا إلى هذا الحد. 

5- في المجلس أيضًا قُدم عبر المشروع القومي للترجمة إصدارات مهمة، وعناوين مختلفة ترجمت كتبًا تأسيسية من مختلف لغات العالم، في محاولة لتفكيك الترجمة عن الإنجليزية والفرنسية كمركزية تاريخية في مشروعات الترجمة في مصر والعالم العربي، وقد استكمل هذا الدور في المركز القومي للترجمة بشكل أكثر كثافة وعمقًا، وذلك في مشروع مؤسسي تاريخي، أبدى فيه عمقًا معرفيًا وفهمًا للتنوع الثقافي. 

6- في وزارته للثقافة كنت بكل دفء مندهشًا من عمله الشاق وحركته كشاب ثلاثيني، وهو في سنه الكبيرة وقلبه المجهد، وقد صارحته بذلك طالبًا منه الاهتمام بصحته، فقال لي: لدي الكثير لأقدمه، وأبدى أثناء عمله الوزاري فهمًا خاصًا للبشر وللإدارة، تجلى فيه بوضوح أهمية التاريخ الإنساني لرجل عاش في مصر، وعاش وعرف النسيج الاجتماعي في مختلف أطيافه ودرجاته، وخبر الناس والحياة. 

ولعل أبرز ما أنجزه آنذاك هو الاستراتيجية المهمة لمنظومة الثقافة المصرية، والتي يجب النظر إليها بكل احترام وتقدير. 

هذا الثراء مصدره التجربة الإنسانية العميقة والثراء المعرفي، ولهذا فالطالب المتفوق تلميذ د. سهير القلماوي، عاشق طه حسين، المتخرج بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، جابر عصفور العصامي المبهج؛ هو والد هذا المفكر الكبير د. جابر عصفور، الذي أنجز كتبًا مهمة لا تتكرر، منها: 

1- عصر البنيوية من ليفي شتراوس إلى فوكو، دار آفاق عربية 1985.

2- دفاعًا عن التنوير، الصادر عن الهيئة العامة للكتاب 1993. 

3- النقد الأدبي والهوية الثقافية، الصادر عن مجلة دبي 2009. 

4- زمن الرواية، الصادر عن دار المدى عام 1999. 

5- ترجمات عديدة، منها كتابه صغير الحجم المترجم من الإنجليزية وهو كتاب رامان سلدن، عن النظرية الأدبية المعاصرة، وهو كتاب شديد الثراء، وهو بداية اتصالي العلمي الحقيقي معه، إذ غير هذا الكتاب اتجاهي النقدي في الوعي بنظريات القراءة والتلقي والتأويل، وهو ما ظهر جليًا في العديد من أبحاثي العلمية المتصلة بالمناهج النقدية الحديثة. 

ومن أدواره المهمة، التي كنت أراقبها بكل إعجاب ودهشة، هي كتاباته النقدية في جريدة الأهرام والحياة اللندنية، وعدد من المجلات المهمة، وفيها كنت أرى الناقد المتصل بالحياة الثقافية الذي يكتب عن روايات جديدة، ويبشر بتطبيقات نقدية مدهشة بوجوه إبداعية مختلفة. 

وفي عمله الجامعي بجامعة القاهرة، وجامعة الكويت، وستوكهولم، وهارفارد، ترك تلامذة في كل مكان، ووهجه في لقائه مع الدارسين وحضوره الشخصي الرائع أمر يشدو به طلابه وتلاميذه ومريدوه، في مصر والوطن العربي، وأنحاء العالم. 

إنه د. جابر عصفور، المفكر والناقد والأستاذ، وصانع الثقافة، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، طاقة عمل وإرادة إنسانية ومعرفية نادرة، رمز مصري كبير لا يتكرر. 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز