عاجل
الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
"روزا" و"هنا لندن".. والعرب

الغربة الثانية 7

"روزا" و"هنا لندن".. والعرب

كنتُ أراجعُ في بعض الأيام أوراق ملاحظاتي المبعثرة وغير الملمومة عن أيامي الأولى في غربتي الثانية في بريطانيا، وكم رجعت أيام وأطلّت من الذاكرة الذكريات.



لقد أخطأ من قال إن الأيام تمضي وتبتعد وتغسل الذاكرة من الذكريات، إنَّما هي نتف من حياة، بصمات متروكة في العقول والقلوب، وجوه تأتي وتروح، ومعها ألف ذكرى وحادثة وأثر و.. بصمة باقية على الزمان والعقل والوجدان.

مما أسعد في غربتي الثانية أنني عشت أيامًا متطاولة في صداقة بعض النخبة من زملاء المهنة، من الذين طوتهم الغربة، بعضهم يشتغل بالحرف والحبر والورق، وبعضهم وهبوا أصواتهم للمذياع وتركوا الأثير يحمل نبراتهم الحلوة إلى آلاف المستمعين في غير دولة عربية، وبعضهم يمزجون الألوان يضمخون بها ريشهم التي تنزل تهتك عري الورق والقماش.

منهم كُتب لهم التوفيق في مضطرب الحياة، ولطالما نظرت في حال هؤلاء من قريب، فكنت لا أجد أن الذكاء كان أقوى لهم من الخُلُقِ، فمن يظن أن التفوق في الحياة يقوم على "الذكاء" ولا غير، فقد فَالَ رأيهُ.. هكذا على الأقل علمتني الحياة نفسها.

كان المكتب في "ريجنت ستريت" محطة لكل آتٍ من "المحروسة" إلى لندن، من زملاء المهنة ومن محرري "دار روزاليوسف"، أو الذين يعيشون ويعملون في مدينة البرد والضباب.

والمواعيد لا تنتهي، بين الموعد والموعد موعد آخر، وكلام في متاعب المهنة والسياسة ومشاكلها وأزماتها، والغربة وهمومها، وإذا ما بقي من النهار بقية، فهي للكتابة، وإلاّ فإن القلم يغمس رأسه في محبرة الليل.

وحدث أن دُعيت لزيارة القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية في "بوش هاوسBush House" بمنطقة "أولدويتش Aldwych" و"ستراند"Strand. وكان لقاء مع عدد من معدي البرامج والمذيعين الذين تدخل أصواتهم بيوت الناس، ومن آذانهم إلى قلوبهم، فاصطفيت بعضهم وأصبحوا من الأصدقاء، وكانوا مجموعة مرموقة، لن أعدد أسماءها خشية أن يفلت مني اسم. 

وإذا كان القسم العربي قد بدأ البث من "بوش هاوس"، فإن محطات خدمة هيئة الإذاعة البريطانية العالمية BBC World Service التي تنطق وتبث بكل لغات الأرض بدأت بثها الإذاعي من مبنى مجاور لبناية "مورلي هاوس" في "لانجهام بليس"، حيث مكتب "روزاليوسف" الجديد.

"بوش هاوس" صممته شركة تجارية أمريكية على النمط الأمريكي ليكون مركزًا تجاريًا، وتم افتتاحه في عيد الاستقلال الأمريكي، وكانت BBC شغلت أربعة من أصل أجنحته الخمسة بعقد إيجار يتجدد كل سنة.

أما الجناح الخامس فقد استأجرته كل من جريدة "هيرالد تريبيون" الأمريكية، و"شركة باركر"، وشركة سوفيتية للتصدير، و"وكالة تاس" الروسية للأنباء. 

في العشرينيات اُفتتحت كافتيريا في القبو، وكانت أول مطعم في لندن يعمل بنظام "الخدمة الذاتيةSelf Service. " وغالبًا ما كنت وأصدقائي الجدد من القسم العربي نتناول الغداء فيه، والطريف أن "استديو 26" في قبو الجناح الجنوبي الشرقي كان حمام سباحة، و"استديو 42" في الجناح الشمالي الشرقي كان صالة لعرض الأفلام السينمائية، وكان هناك ملعب لكرة الريشة في الجناح الشمالي الشرقي.

خدمة BBC العالمية عمرها مئة وبضع سنوات، واعتبرها كوفي عنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، الأسبق، أنها "أهم وأعظم هدية قدمتها بريطانيا إلى العالم في القرن العشرين"، وعنان كان على صواب.

وتوطدت العلاقة بيني وبين عدد من المشتغلين خلف المذياع في BBC، وكانت حبة القلب للمذيعة العراقية أولجا جويدة، التي اشتهرت بتقديم البرامج الثقافية، وكان برنامجها "نصف ساعة مع أولجا جويدة" من أكثر البرامج الإذاعية سماعًا (ولا يناطحه على استحواذ آذان العرب في كل مكان إلا برنامج تعلم اللغة الإنجليزية)، كانت أولجا جويدة قارئة نهمة، تفتش عن كل جديد، إذا أسكرتها نغمة أو استهواها لحن، أذاعته، وإن أعجبها كتاب، حكت عنه وقرأت منه، وإن استهواها مقال عرضته، وكثيرًا ما كانت تتصل بي لتبلغني أنها ستذيع فقرات من مقال أعجبها في "روزاليوسف" أو في "صباح الخير"، وكثيرًا ما كانت تطلب مني معلومات عن كاتب المقال الذي استملحته. ويأخذك صوت عفاف جلال العذب، ويسرح بك، ولا غروة أن المستمعين راحوا يتعشقون لها، ولكل ما كانت تبثه لهم وتنقله، وعفاف هي شقيقة الروائي محمد جلال "الملعونة"، "حارة الطيب"، "قهوة الماوردي، "فرط الرمان"، وزوجة المذيع حسن أبو العلا، الساطع اسمه بين المستمعين العرب.

وقد استضافتني عفاف في أكثر من حلقة من حلقات برنامجها الصباحي المتميز، وفي إحداها طلبت مني أن أحدث مستمعيها، وهم كُثُر, عن "روزاليوسف" وكتّابها وفنانيها، ورؤساء التحرير الذين تعاقبوا عليها وعملت معهم، ومنهم: إحسان عبد القدوس، أحمد بهاء الدين، عبد الرحمن الشرقاوي، فتحي غانم وكامل زهيري، وعن رسامي الكاريكاتور الذين عرفتهم وعملت معهم: صلاح جاهين، أحمد طوغان، جمال كامل، جورج البهجوري، رجائي ونيس، إيهاب شاكر، أحمد إبراهيم حجازي، حجازي، بهجت عثمان وناجي كامل.

ثم سجلت عفاف جلال في بيتنا حلقة من برنامجها "لقاء مع أسرة مصرية"، تحدثنا فيه، زوجتي وأنا، عن تجربتنا في الغربة الأولى في بيروت، وغربتنا الثانية في مملكة إليزابيث الثانية.

و"القسم العربي" يعيش في مدار كوكب ماجد سرحان، صاحب الصوت الرخيم والعبارة المشهورة التي يستفتح فيها برامجه: "...وهذا ماجد سرحان يحييكم من لندن"، وهو كان بدأ حياته المهنية مُدرسًا للتاريخ واللغة الإنجليزية، متنقلًا بين "الضفة الغربية" و"القدس" و"الأردن"، وفي سنة 1969 ترك ماجد سرحان التدريس ليجلس أمام الكاميرا ويقدم نشرات الأخبار في التليفزيون الأردني، ونقل حادثة حريق المسجد الأقصى. 

ثم ترك الأردن والعالم العربي إلى بريطانيا، وكان بين 300 شخص تقدموا للعمل في القسم العربي، فتم قبوله مع اثنين من زملائه، فأصبح واحدًا من أشهر الأصوات المميزة، وأنجح المذيعين ومقدمي البرامج السياسية والإخبارية، مثل "عالم الظهيرة"، و"حصاد اليوم" الإخباري، و"مشوار المساء"، و"أسبوعيات الثقافة والأدب"، وسلسلة" تعلم اللغة الإنجليزية بالراديو".

كان ماجد يطير بزهوه عندما كنت أرسل له أسبوعيًا "روزاليوسف" و"صباح الخير"، لافتًا موجهًا نظره إلى بعض القضايا الاجتماعية المهمة التي تتناولها "صباح الخير"، أو مقال ورأي سياسي وكاريكاتور مميز في "روزاليوسف"، ونادرًا ما كان تخلو البرامج التي كان يعدها ويقدمها من الاقتباس من "روزا" أو "صباح الخير"، أو التعليق على كاريكاتور أعجبه بريشة بهجوري الذي كان يفضله، وكان من الطبيعي أن يبدي ماجد اهتمامًا بأي مقال في الشؤون السياسية، أو دراسة عربية، خصوصًا كل ما ينشر في مطبوعات "روزاليوسف" عن فلسطين. 

تعاونت أيضًا في BBC مع كل من ماهر عثمان، محمد الأزرق، ليلى طنوس، مديحة المدفعجي، هدى الرشيد، سلوى الجراح، محمد شبلاق، أيوب صديق ورشاد رمضان، في تسليط الضوء على "روزاليوسف" كلما سنحت الفرصة.

لم تكن لندن تعرف جرائد ومجلات العرب، لا تأتيها بانتظام، وإن وُجدت في أكشاك الباعة والمكتبات، فبعد يومين من صدورها في بلدانها.

"الأهرام" شيخة الجرائد العربية، وحدها بين الجرائد والمجلات المصرية كانت تصل لندن، وتوزعها سلسلة محلات WHSmith وتحصر تواجدها في العاصمة، من دون سائر المدن البريطانية الكبرى.

وجارت الأيام على بعض العرب، ويعيد التاريخ الدُّوار نفسه، وتتكرر هجرة الأقلام، وهذه المرة بعدما أحرقوا بيروت (وليس هاهنا منفسح للحديث عن تلك الهجرة، فلنا عودة إليها متى حان وقت سردها).

سنة 1973 حمل عبد الوهاب الفتال، قلمه وحقائب سفره من الرياض إلى لندن، وكان لجأ إلى السعودية بعدما قامت الوحدة المصرية– السورية، وهو القومي الاجتماعي، وقف ضد تلك "الوحدة".

وأصدر عبد الوهاب الفتال في لندن مجلة "الشرق الجديد"، التي كانت تصدر على شاكلة نشرة، فدخل بها تاريخ الصحافة المهاجرة، كأول مطبوعة عربية عرفتها لندن.

و"الشرق الجديد" مجلة "الشخص الواحد"، فكان عبد الوهاب الفتال، يحررها من ألفها إلى يائها، ومن بابها إلى محرابها، يحبر الكلام، لا يظهر فيها اسم محرر إلا هو.. ومكاتبها بيته، ولا عنوان على صفحاتها، ولا رقم هاتف، إنما صندوق بريد!

أزال عبد الوهاب الفتال في مجلته كل الحواجز، فراح بقلمه البتّار يلذع، على أسلوب "الصحافة الصفراء"Yellow Journalism، وهو مصطلح أمريكي المنبت والأصل، شاع لوصف الأسلوب الصحفي الذي اتبعه الناشر والصحفي وليام راندولف هيرست، ويقوم على كسر الحواجز، والمزج بين الخاص والعام في حياة السياسيين ورجال المال والأعمال، بغية إثارة الرأي العام ضدهم، ورفع مبيعات المطبوعة، ثم الانحياز البيّن والهيّن لمن ينفق على المطبوعة أكثر.. ولم يكن عبد الوهاب الفتال يصون نفسه وقلمه عن ذلك.

التقيته في "بيروت المساء"، كان رشاد الهوني في معية الصادق النيهوم، في زيارة أمين الأعور، رئيس تحرير المجلة، الممولة أصلًا من الليبيين.

كان ساهمًا، تشعر وهو جالس أمامك بأنه شارد الذهن، قليل الكلام، يحكي بعينيه قبل لسانه، وإن تدخل في الحديث وأعطى رأيًا أو جادل في أمر، انتقى كلماته، ولقد ظهر لي من حسن خلقه ما رغّبني فيه وفي لقائه، والحديث عن الشعر والفن والتصميم الصحفي.

وتنسل الأيام وتدور، وتدور معها الظروف لأعود والتقيه في لندن.

مال رشاد الهوني إلى الشعر، وهو بعد طالبًا في كلية التجارة في الجامعة الليبية، فوزّع شعره على مجلات ذياك الزمان، وكان شعره لطيفًا، رقيقًا، جزلًا.

سنة 1964 عندما أصدر شقيقه محمد جريدة "الحقيقة" أسبوعيًا، راح ينشر شعره فيها، أما مقالاته فكانت تُنشر تحت ترويسة "من يوم ليوم"، وقد مسَّ فيها حبات القلوب.

سنة 1966 أصبحت "الحقيقة" تصدر يوميًا، فشارك رشاد شقيقه في الأعباء المالية، وتولى إدارة التحرير.

وانتقل محمد ورشاد الهوني إلى مكاتب حديثة مجهزة، وكانت للجريدة مطبعتها الخاصة بها، وضم جهاز التحرير عددًا من المراسلين، إضافة إلى المحررين المحليين، وانتشرت "الحقيقة" وصار لها قرّاء يدمنون عليها كل صباح، في طرابلس، وبنغازي، والمرج، والخمس، ومصراتة، وسبها.

حاول رشاد الهوني في "الحقيقة" أن يكتب الحقيقة، من دون تملّق وموالسة، ولم يكن يميل مع الريح حيث تميل، لا يهادن ولا يلين، فأغضب مجلس قيادة الثورة الليبية الذي ما كان يريد أن يغمس الصحفيون أقلامهم إلا بحبر السلطة، والسلطة وحدها.. فسئم رشاد الهوني الحياة في ليبيا وصار بَرِمًا بها.

واتهم رشاد الهوني مع عدد من أصحاب ورؤساء تحرير الجرائد والمجلات المستقلة بقضية "إفساد الرأي العام"، ونُظر في القضية في محكمة الشعب في 17 يناير (كانون الثاني) 1972. 

واحتجبت "الحقيقة" ومعها 11 مطبوعة أخرى، وبعد خروجه من السجن، أرسل العقيد القذافي من يُبلغ رشاد الهوني بأنه غير مرغوب فيه، وعليه أن يرحل عن البلاد.

ويرحل رشاد الهوني.. تفتح له بيروت صدرها، وقد سبقه إليها صديقه الصادق النيهوم، فأسس معه "دار الشورى"، وعنها أصدرا سلسلة "مكتبة في كل بيت"، ومع اشتعال النار في بيروت، تركها رشاد الهوني إلى لندن. 

ولم يدُم عمله في "هيئة الإذاعة البريطانية" طويلًا، تركها سنة 1977 ليتشارك مع أحمد صالحين الهوني (آخر وزير إعلام في العهد الملكي، والمتهم الأول مع رشاد في إفساد الرأي العام)، والحاج علي السلاك، وهو رجل أعمال ليبي على قدر من الوفر المادي، في إطلاق جريدة "العرب".

وتولي مسؤولية تحرير "العرب" إلى جانب رشاد الهوني، محمد حامد، الذي عُرف في الوسط الصحفي باسم محمد محفوظ، وهو قاصِ ومخرج ورسام كاريكاتور، لكنه انشغل بالكتابة والإدارة الصحفية، ولأنه في قصصه تأثر بالواقعية التي انتهجها الأديب نجيب محفوظ فأطلقوا عليه اسم محفوظ، وكان محسوبًا على المعارضين للرئيس السادات، فسافر إلى الإمارات وهناك عمل في جريدة "الوحدة"، وكان بين الفينة والفينة، يتخلى عن الكلام، ويعبر عن مواقفه السياسية بالرسومات الكاريكاتورية الجريئة.

وترك محمد محفوظ جريدة "الوحدة" ليسهم في تأسيس جريدة خاصة باسم "الوثبة"، ثم ترك أبو ظبي إلى الشارقة ليصمم جريدة "الخليج"، ولم تدم إقامته في الشارقة طويلًا ليتركها إلى لندن، وبعد "العرب" استعان به الكاتب محمود السعدني فيما بعد في إصدار مجلة 23 يوليو.

جهاز تحرير "العرب" ضم في البداية الصحفي الفلسطيني بكر عويضة، كسكرتير تحرير، ثم أصبح فيما بعد مديرًا للتحرير، وفوزية سلامة، أنيس الجوهري ومحمد قبرطاي. 

وضع الماكيت والشكل الأساسي للجريدة محمد محفوظ، وعاونه نشأت الذي هاجر إلى أميركا، والفنان السكندري فكري عياد، الذي أسهم في تطوير شكل الصفحات وطريقة تنفيذها بعد دراسات عليا في فنون الجرافيك، ومعهم ميشال وعادل نعمان، وفي قسم الصف محسن بسيسو، فرج، بهية، وسلوى الجبلاوي، ثم انضم إلى أسرة التحرير أحمد فوزي، يسري حسين، عادل درويش، وشوقي إبراهيم، السوداني محمود السعدني- وهو غير كاتبنا الكبير- وقسم الإعلانات رأسته ليلى جرجس، ولاحقًا انضم أستاذنا الفنان حسن فؤاد، كمستشار شخصي للمسؤول عن التحرير رشاد الهوني، وكان له دور آخر سأذكره في حينه.

ولخلاف ليس هاهنا مكان الكلام عنه بين رشاد وأحمد صالحين الهوني، فُضّت الشراكة. ترك رشاد "العرب" وأصدر مجلة "الغد"، مقلدًا ومتأثرًا بمجلة "2000"، إلا أنه لم يستطع مجاراتها فأغلقها، وترك لندن إلى القاهرة، فلم يطل مكثه فيها، فعاد إلى بنغازي، حيث ترك القلم والورق إلى الأعمال الحرة. 

في الثاني من أكتوبر (تشرين الأول) 1993، أسلم رشاد الهوني الروح.   

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز