عاجل
الإثنين 16 ديسمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
سهير البابلي.. دائرة اكتمال الأرواح الطيبة

سهير البابلي.. دائرة اكتمال الأرواح الطيبة

تولد الموهبة الحقيقية كالموج حرة، وتقضي العمر في بناء ميناء لراحة الروح القلقة والجسد المتعب. 



إنها الفترة المتوهجة من عمر زماننا 1937 إلى 2021، العمر المديد للفنانة المصرية الكبيرة سهير البابلي، رحمها الله رحمة واسعة وأسكنها فسيح جناته. 

حياة بدأت بالتمرد ضد الاعتيادي والمتكرر لفتاة من فارسكور لأب متحرر العقل، وأم تقليدية ربة منزل، رفضت أن تعمل ابنتها بالتمثيل. 

إلا أن الروح المتمردة للموهبة الضاغطة دفعتها للالتحاق بالمعهد العالي للفنون المسرحية، البوابة الشرعية لهذا العالم الساحر. 

طرقت سهير الأبواب ففتحت لها عالم الإبداع والشهرة، فقد كان معها بطاقة الدخول الخضراء، ألا وهي موهبتها الأصلية النادرة.

وسهير البابلي واحدة من أهل الإبداع التمثيلي، تدفعك للوقوف مندهشًا أمام سحرها المبدع المختلف، وتجعلك تسأل: ما هو السر خلف هذا السحر والاختلاف؟

في المعهد العالي للفنون المسرحية تعلم آلاف كثيرة مثلها، ولكن تبقى سهير البابلي بتفردها صاحبة البصمة المتفردة والحضور الخاص. 

ما هذه الطاقة العصبية الدافئة التي تدب في جسدها وتشع من عينيها عندما تمثل؟ 

سهير تركت نفسها للتجربة الإبداعية الحرة بلا قيود. 

كانت الصورة الذهنية للفنان مختلفة في مصر والوطن العربي، ولذلك كانت سهير مطمئنة، تعرف جيدًا أن ما تفعله من إبداع مختلف، يلقى الفهم والقبول المجتمعي والاحترام والتقدير. 

وأحاطت نفسها بمحيط اجتماعي خاص جدًا، سمح لها بحرية الإبداع في ظل حياة اجتماعية بطابع الجودة. 

لكن أصحاب الموهبة وهي في أحد تعريفاتها نور من السماء، وهبة من الخالق الأعظم، بقيت تترك لدى كل من زاملها وشاركها العمل أثرًا أخلاقيًا مثاليًا ممزوجًا بروح مرحة. 

ويبقى هذا الأثر الأخلاقي المثالي واضحًا في الإطار العام لحياتها المهنية والخاصة. 

فهي عندما تحب تتزوج، وعندما ينتهي الحب ترحل في هدوء تاركة ذكرى طيبة. 

وعندما تقتنع بما هو إبداعي تكون في قمة الإخلاص والتفاني، وعندما لا تصدق ما تفعل ترحل أيضًا في هدوء. 

عملت مع كبار المخرجين في السينما والمسرح، وقدمت للسينما والدراما التلفزيونية أعمالًا عديدة تقدر على وجه التقريب بخمسين فيلمًا وسبعة عشر دراما تلفزيونية، إلا أن نقطة الوهج والإشعاع كانت في المسرح المصري، فقد التحقت سهير البابلي بفرقة المسرح القومي 1958، لتبدأ رحلتها مع توفيق الحكيم ومسرحيته "الصفقة"، ثم توالت أعمالها المسرحية في أدوار مركبة جادة (سليمان الحلبي والفرافير وبلدي يا بلدي وإيزيس والخال فانيا ويرما وبيت برنارد آلبا)، لتجوب عوالم متعددة للكبار، عبد الرحمن الشرقاوي ورشاد رشدي ويوسف إدريس والإسباني العبقري جارسيا لوركا، وغيرهم، ودخلت عالم المسرح الشعري المصري الكلاسيكي والحر معًا، بتقديمها رائعة أحمد شوقي "مصرع كليوباترا"، ورائعة صلاح عبد الصبور "ليلى والمجنون". 

وانفجرت موهبتها في الإبداع الضاحك في "جوزين وفرد" بالمسرح الكوميدي 1966، ثم مسرحية "نرجس" مع حسن عابدين.

وواصلت اهتمامها بالأدوار المسرحية الجادة، ومزجت بين الاهتمام بالنوعين معًا. 

وعندما شعرت سهير البابلي بأن تلك التجربة الإبداعية في مسرح الدولة لا يمكن تحقيقها بذات الوهج والاتقان والاحترافية، تقدمت بالاستقالة لترحل من المسرح القومي، وتبدأ رحلتها مع عالم الضحك بفرقة محترفة خاصة، هي "الفنانين المتحدين"، مع جمهور أوسع وحضور خاص متوهج، من "مدرسة المشاغبين" مرورًا بمسرحية "يا حلوة ما تلعبيش بالكبريت"، و"العالمة باشا" وغيرها، أما مسرحيتها الأشهر "ريا وسكينة" مع الفنان الكبير عبد المنعم مدبولي والفنانة الكبيرة شادية، رحمهما الله رحمة واسعة، فقد اكتملت فيها الدائرة الإبداعية المتصلة، حيث الاحتراف والإنسانية، وفن صناعة الضحك والمتعة. 

وقد كانوا ثلاثتهم، أنزلهم الله تعالى من فضله منازل المغفورين الكرماء، من أهل الإنسانية المفرطة. 

فقد كانوا ممن يكفلون الأسر الفقيرة، والطلاب أصحاب الظروف الخاصة، وغير ذلك من الأعمال المجتمعية الخيرية. 

ويبدو أن تلك الإنسانية المفرطة المرتبطة بدعم الآخرين، هي صفة مشتركة في هذا النوع من الموهوبين الكبار، ذلك أن الموهبة حقًا هي نور الله الذي لا يُعطى إلا لمن استحقه. 

مرت سهير البابلي بأزمة تراجع البهجة والاحتراف والاتقان في نهايات حياتها المهنية. 

فذهبت للحرمين الشريفين تسأل الله الحلول، فكان أن حببها الله في الانقطاع للعبادة والدعاء، والاستغفار وأعمال الخير. 

لقد فرغت من مسارها المهني فنصبت في دارها للعبادة والاستغفار، هكذا يكتمل المسار لأصحاب المواهب الكبرى، هؤلاء الذين أمضوا عمرهم في البحث عن الحق والخير والجمال. 

سهير البابلي نجمة مصرية كبيرة، بيتها هو المسرح المصري، ورحيلها فقد كبير، نعزي أنفسنا فيه بأنه دائرة اكتمال أصحاب الأرواح الطيبة. 

نحتسبها عند ربها في أرفع المنازل، سهير البابلي حياة تستحق التأمل والاحترام.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز