عاجل
الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الفن على قرن شيطان

للمجتمعات حقوق أصيلة فى إعادة الاتفاق على معنى الفن وإعادة تعريف الإبداع

الفن على قرن شيطان

مؤكد أن الدولة المصرية لن يضيرها فيلم مارق هنا، أو محاولة تدليس هناك. لن يضير دولة بهذا الحجم من الإنجاز محاولات بعضهم لتشويه الواقع، بدس السم فى العسل، وبإشارات يأس مزيف بحجة الإبداع.. وتحت ستار الفن. 



 

إنجازات الدولة على الأرض واضحة، وملامح التغييرات الجذرية فى حياة المصريين ظاهرة، واضحة جلية. 

 

تغيير كامل فى حياة الريف، تغيير كامل فى خرائط العشوائيات. تجربة إصلاح اقتصادى باتت نموذجًا تنشده دول أخرى فى الإقليم، ورقمًا كبيرًَا فى معادلة السياسة الدولية على خريطة الكوكب. 

 

مع ذلك يبقى أننا قد وصلنا لمرحلة مفصلية، لا بد فيها من وقفة. لا بد فيها من نقطة نظام لإعادة فهم معنى الفن.. وإعادة الاتفاق على تعريف الإبداع. 

 

الفن نظريات علمية، ورؤى فلسفية متعارف عليها يدرسها طلاب الفلسفة، وطلاب علم الجمال حول العالم . 

 

فن السينما شقان، الأول فنى يخضع لنظريات النقد، وتنظيرات علم الجمال، والثانى تجاري يخضع لمتطلبات السوق، وللعرض والطلب شأن باقى الصناعات. 

 

شق الإبداع فى السينما يخضع لتقييم علم الجمال. علم الجمال فرع من فروع الفلسفة.  تسعى الفلسفة للبحث عن القيم الثلاثة: الحق والخير والجمال. 

 

علم الجمال بوصفه فرعًا من فروع الفلسفة، نشأ بحثًا عن الجمال فى الواقع، وتصويره، وتأصيله، وفهمه. 

 

عرّف علم الجمال الإبداع الفنى كالتالى: «الإبداع هو انعكاس الصورة الحسية للواقع على أداة الفنان لتجميله»، الأداة هى ما يستخدمه الفنان لتصوير الواقع، حسب التعريف أن الجمال فى الواقع هو أساس مستهدفات الفن. 

 

فى تعريف آخر عّرف علم الجمال الفن بأنه: «انعكاس الصورة الجمالية فى الواقع على أداة الفنان وتعبيره».

 

نشأ علم الجمال فى محاولة إنسانية للهروب من أزمات الواقع، وحروبه، ونزاعاته إلى رسائل جمالية، تمنح الأمل، وتصور جمالًا يمنح مزيدًا من الرغبة فى حياة إنسانية هادئة مستقرة.  بعد مراحل تاريخية، نشأ علم النقد الفنى، ومهمته الأساسية تقييم ما إذا كان الفنان قد أظهر جمال الواقع كما يجب من عدمه. 

 

ممكن اعتبار النقد الفنى رقابة جمالية على الأعمال الإبداعية. 

 

رقابة النقد لها منطق، ولها ما يسندها من نظريات الفلسفة العلم الأم، وضمن الدائرة الأوسع التي تعمل من خلالها نظريات علم الجمال. 

 

(1)

فى عصر النهضة فى أوروبا تطورت الفنون بعد صراعات ونزاعات ودماء كثيرة على الأرض، قسّمت الأوطان، وقتلت العباد، بصراعات مذهبية دينية وعرقية لم تشهد لها الإنسانية مثيلًا. 

 

وقتها تطورت نظريات الجمال وفلسفته، فتحولت النظريات إلى إلزام الفنان بأنه إذا لم يجد فى الواقع ما هو جميل، فإن عليه الإبداع تصويرًا لما يجب أن يكون عليه الواقع من جمال.  وقتها كان المواطن الأوروبى قد خرج من أزمات وصراعات ومعارك ووحشية ما قبل عصور النهضة، فى حاجة إلى آمال جديدة لعالم جديد. 

 

كان الأوروبى يطلب الحياة، وكانت الحياة فى الفنون، وكانت الفنون هى الأمل فى الجمال المنتظر، والقيمة المنشودة، حتى ولو لم يكن على أرض الواقع ما ينشده الفنان من جمال.  السؤال: ماذا لو كان عملًا فنيًا ما قصد تشويه الواقع، ودلّس على المشاهد؟ هل يدخل فى إطار الإبداع؟ 

 

ماذا إذا كان عملًا ما، يتعمد بدعوى حرية المبدع، وبحجة حرية الفنان بث رسائل يأس جمعى، ويتعمد تجاهل الحقائق على الأرض، فيدس سمًا تحت الجلد، بإبر رفيعة، ليشيع معانى اللا أمل واللا معنى.. واللا جدوى؟ 

 

هل نسميه فنًا وإبداعًا؟ هل نتوقف عن الكلام لأنه لا رقابة على الإبداع ولا على حرية المبدع ولا على الآفاق الضيقة لمن استبدل ما سماه فنًا، بقالب طوب، وبطح به المشاهد فى أُم رأسه؟ 

 

لو خرجت السينما عن تعريفات علم الجمال ونظريات النقد، فإنها تفقد شِِقّها الإبداعى، ليبقى شق الصناعة التي يجيز للمجتمع وجوب التدخل لتقييمه. 

 

(2) 

لو فقدت السينما مواصفات العمل الإبداعى فإنها تتحول إلى بضاعة مصنوعة معروضة فى الأسواق. 

 

حق أصيل للمجتمع تقييم ما يعرض عليه من بضاعة. كثيرًا ما تكون البضاعة فاسدة.. أو منتهية الصلاحية. 

 

كثيرًا ما تبقى البضاعة فى فاترينات العرض بعد أن أكلتها الشمس، وبعد أن تفاعلت فيها المواد الحافظة.. فلا يبقى لها إلا صندوق الزبالة! 

 

بعض السينمائيين، وبنيات غير خالصة وبهوى مسمم، أغلقوا على نفسهم دوائر ضيقة، وصنعوا من بعضهم كهنوتًا، فباتوا كأنهم حراس معبد الفن وحدهم، فلا يدخله أحد إلا هم، ولا يقربه إلا هم، والحجة أنهم الأكثر فنًا، وأكثر علمًا.. وأكثر حريًّة.. وأكثر قدرة على الإبداع!  كله كلام فارغ. كله كلام لا أساس له من الصحة.. ولا سند له من العلوم . 

 

بعضهم دلس عامدًا متعمدًا، وبعضهم غالى فى إظهار سوءات الواقع، فى أزمنة سابقة، ومنهم استمروا للآن، يدلسون بقلب الحقائق على الأرض، بعدما تغير واقع زمان، وبعدما تغيرت الأشكال، وبعدما تغيرت الأحوال أيضًا. 

 

السؤال المهم هنا: لماذا يصر هؤلاء على نفس المشاهد، ونفس الحبكات، ونفس المناظر، ونفس السيناريوهات بدعوى إظهار الواقع، مع أن الواقع تغير، ومع أن الأحوال قد تبدلت؟  السؤال الأهم الثانى: هل يمكن التعاطى مع تجار نقود مزورة بقوانين الإبداع؟ هل يمكن التعاطى مع محترفى تدليس وفق معادلة أنه لا سقف للإبداع؟ 

 

إن جيت للحق، لو فقدت السينما عناصرها الفنية، أو فقدت خواصها الفلسفية فلا يجوز إلا التعامل معها كصناعة، وبضاعة. هنا لابد للمجتمع أن يتدخل لمكافحة المغشوش منها .   لابد هنا للمجتمع أن يتدخل تنبيهًا من خطورة مواد سامة سبق وأدت إلى إثارة الشارع، وساهمت فى أزمنة سابقة، فى أن وضع بعض المخدوعين أنفسهم فى مواجهة دولتهم، بعدما فقدوا الأمل فى الواقع، وفقدوا الأمل فى المستقبل، وفقدوا الرغبة فى الحياة، وبعدما تنامت لديهم رغبات الهدم، ورغبات الحرق كفرًا بقيم الوطن.. وكفرًا بكل مفاهيم الانتماء فى الطريق للستين داهية! 

 

(3) 

بعد الحرب العالمية الثانية، ظهر فى أوروبا ما أطلق عليه وقتها مسرح العبث. كانت التغيرات الاجتماعية والجيوسياسية التي صاحبت الحرب العالمية، بالملايين من القتلى والجرحى، وملايين الأسر التي فقدت العائل، وفقدت الأبناء كل هذه المتغيرات أحدثت نوعين من رد الفعل فى المجتمعات الأوروبية . 

 

الأول كان اتجاهًا وجد أن الحل فى إعادة البناء، وتعويض ما فات، ومحاولة الاستعاضة عما أفقدته الحرب للمجتمعات بالانخراط فى إعادة البناء وإقامة الدولة. 

 

بينما كان الاتجاه الثانى، أكثر سلبية بسوداوية شديدة الاضطراب، أدت إلى ظهور حركة فنية سوداء، أشاعت فى المجتمع أنه لا فائدة، وأن الإنسان خلق ليموت، وأن القصة عبثية، وأن الحكاية لا فائدة فيها ولا فائدة منها. 

 

فى تلك الفترة ظهر مسرح صمويل بيكت، وظهرت أعمال مونتسيكو، ودخل المواطن الفرنسى المسرح، وخرج غير مبالٍ لا بحياة ولا بأسرة ولا بدين ولا حتى بقانون، نتيجة كم هائل من رسائل العبث التي نزعت الأمل، ونزعت من الحياة مواصفات الحياة من على خشبة المسرح!

 

صحيح هناك تفسيرات مختلفة ومتباينة للمرحلة العبثية فى المسرح الأوروبى، لكن لا خلاف على أن رد فعل المجتمع الفرنسى مثلًا على هذه النوعية شديدة السلبية كان ردًا عنيفًا، بعدما تبين الشارع كيف أن هذه الاتجاهات المسرحية، قد سربت إلى الشارع بدعوى الإبداع، آراء انهزامية، وأفكارا يائسة، وأفكارا شديدة الإحباط بانعكاسات شديدة السلبية على مجتمعات تريد أن تنهض. 

 

فى أزمنة كثيرة صنع بعضهم بدعوى الفن وبحجة الإبداع، مواد قابلة للانفجار فى وجه المجتمع، يتعدى تأثيرها شخصية الصانع إلى انفجارات مدوية فى وجه مجتمع متلقى. نهاية السبعينات مثلًا ظهرت فى مصر مدرسة المشاغبين التي دوت فيها ضحكات مرتادى المسرح، من الذين لم يتبينوا وقتها كيف تخفّت تحت, وتتسرسب للشارع من تحت تلك الضحكات قيم معطوبة، ومبادئ مقلوبة، وسموم على الجميع . 

 

كانت مدرسة المشاغبين أول مشاهد مواجهة يعرفها الشارع المصري بين الطالب وأستاذه . كانت أول معركة من نوعها، ينتصر فيها طالب «فاشل» بسخرية قاضية من ناظر المدرسة، وكانت أول مرة يشهد فيها الشارع المصري كيف أن تلاميذ ينجحون فى إقناع أستاذهم بارتداء «شراشيب» بعدما خلع ملابسه كاملة على خشبة المسرح لانتزاع ضحكات المريدين! 

 

للإنصاف، لا بد من الاعتراف بأن تلك النوعية مما يسمى مجازًا فنًا، أو يسمى تجاوزًا إبداعًا، قد ساهمت بشديد الأثر فى تغيرات اجتماعية شديدة طالت الذهنية الجمعية المصرية، وقتها، وما بعدها، وهى أيضًا سبب مباشر فى كثير مما تعانى منه مجتمعاتنا للآن من لخبطة قيمية، ومسالب اجتماعية. 

 

لا يمكن الاعتداد فى بعض الأحيان بحرية المبدع، ولا يمكن قبول الدفع بأنه لا رقيب على الفنان إلا نفسه. 

 

يراد بهذا الكلام الحق.. باطلًا كثيرًا فى أوقات عدة. 

 

على الهواء سألنى مذيع القناة الأمريكية: «لماذا تريدون الحجر على رؤية فنان فى عمل فني بدعوى أنه يحدث اضطرابًا فى المجتمع ويشوه الواقع؟».

 

قلت للمذيع إن العكس هو الصحيح، وأن الطريف فى الأمر، أن من أغلقوا على نفسهم دوائر الكهنوت السينمائى، هم الذين وصلوا إلى مرحلة، يريدون فيها الحجر ومصادرة الآراء التي تنبه إلى المواصفات السامة فى أعمالهم. 

 

كان طريفًا أن الكهنة الذين طالموا نادوا بحرية الفن، وحرية المبدع، هم فى الوقت نفسه الذين يرفضون أى نقد أو انتقاد لأعمالهم، فى سلوك مضاد ومتناقض تمامًا مع حرية الرأى وحرية التعبير! 

 

والحقيقة أنه طالما تخطى العمل الفنى الدائرة الضيقة للحرية الفردية للصناع، ليتصادم مع دائرة أوسع وبتأثيرات سلبية على مجتمعه، فهنا لا بد للمجتمع أن يقف ليناقش.. ويسأل.. ويستفهم .. ويستفسر. 

 

من قال إن المبدع ملك متوج على عرش لا يمكن المساس به؟ من قال إن للفنان وحده الحرية فيما يصدره لمجتمعه، بصرف النظر عن مدى تأثير صناعته سلبًا أو إيجابًا ؟ 

 

هذه آراء لا يمكن الاعتداد بها علميًا.. ولا التعاطى معها عمليًا. إذا نزع عن الفن الإبداع مواصفاته الفلسفية، فإنه قد يتحول إلى سلاح أسود سام.. بشديد الأثر على المتلقى، وهنا لابد أن تخضع تلك الصناعة لأحكام المجتمع ورقابته. 

 

ليست هذه دعوى للرقابة بمفهومها التقليدى، لكنها دعوة لإعادة تعريف مفهوم الفن، ورسائله، ومدى حريته، ومدى ما يفهمه بعضهم عن معنى الإبداع بالمفهوم الصحيح.  الحريات مشروطة حتى فى الإبداع.. وحتى فى الفنون. 

 

صحيح للإبداع حصانة فى المجتمعات الحديثة حسب تنظيرات الإبداع الحديثة، لكن بنفس التنظيرات ووفق نفس القواعد، يظل للمجتمع كامل حريته فى انتقاد عمل ما، وتشريحه، وتفصيصه، للوقوف على ما خلفه من رسائل، وما يخفيه من مكائد، وتزييف، وتدليس على مُشاهد ربما يتلبسه الشيطان دون أن يدرى. 

 

إلى متى يظل بعضهم مرتزقة فى أبراج عالية، بدعوى الكهنوت الفنى وبحجة الإبداع المزيف، ثم يذهبون مغاضبين يظنون أن لن يقدر عليهم أحد؟

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز