عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
ذكرى انتصارات أكتوبر
البنك الاهلي

الروائي محمود عرفات في حوار خاص:

"سرابيوم" مسقط قلبي .. وانتصرنا في أكتوبر بالعلم واليقين (مقاتلون أدباء) "2"

الروائي محمود عرفات
الروائي محمود عرفات

الطيران الإسرائيلي كان يهاجم أهالي هذه القرية الباسلة كل دقيقة ومن شدة فرحتهم بالعبور لم يأبهوا بالخطر



تعلق قلبه بـ"سرابيوم"، تلك القرية الصغيرة التابعة لمركز فايد، التي تقع على بعد 12 كيلومتراً جنوب محافظة الإسماعيلية، بها قضى مدة خدمته العسكرية، وصنعت روايته الأدبية "سرابيوم"، التي كتبها بعد 37 عاماً من مشاركته كضابط احتياط في حرب أكتوبر 1973.

 

نقاط حصينة

 

بدأ كتابة الرواية عام 2003 وانتهى منها 2013، وإذا حدثته عن "سرابيوم" القرية والرواية تدفقت أفكاره ومشاعره وقال: "سرابيوم"، هي مسقط قلبي، هكذا تحدث محمود عرفات، الكاتب الروائي الذي عمل ضابط احتياط في أحد التشكيلات القتالية المدرعة بالجيش الثاني أثناء حرب أكتوبر 1973. شكلت خياله المصاطب التي شيدها المهندسون المصريون، لتكون مغازل للدبابات، منها يوجه الجنود ضرباتهم للعدو. ويضيف: عندما رأيت مصطبة "سرابيوم"، كتبت الفصل الأول من الرواية في خيالي، لقد بنيت المصاطب على مسافات متقاربة بالطريقة نفسها، تجريف كمية كبيرة من الرمال والطمي والردم، ويتم رفعها حتى تصير جبلاً صغيراً له مطلع ومنزل، ووسطها تكمن مرابض الدبابات، كانت المصاطب على طول الجبهة كنقاط حصينة، من مغازلها تبرز مواسير المدافع، وتوجه الضربات للعدو.

 

قلت: حسب وصفك تبدو هذه المصاطب مثل أهرامات فرعونية حديثة تحقق النصر والحياة. قال: هي بالفعل كذلك، كانت منصوبة على طول شط القناة، كل فرقة لها ثلاث أو أربع مصاطب تستطلع من خلالها العدو، ويقوم الجنود من خلالها بقصف العدو قبل الحرب، وقد صعدت مع رئيس العمليات وذهبنا إلى مصطبة "سرابيوم"، لنرى الموقع الذي سنحتله بالضبط، كنا نخطط لذلك، وقد حدث بالفعل، لقد انتصرنا بالعلم والتخطيط للنصر.

 

المرصد

 

قلت: وصف بطل روايتك "سرابيوم" موقع المصطبة بقوله: "هي مرصدي أترقب منه المستقبل الآتي، هي التي حققت لنا النصر، منها صعدنا لنكشف مواقع العدو، فرسمناها في رؤوسنا على الأرض، بنينا مواقع مثلها تماماً، وتدربنا على اقتحامها آلاف المرات حتى صار اقتحامها ساعة الجد أيسر مما عانيناه في التدريب".. ماذا تقول عن لحظات العبور وعن حرب أكتوبر الآن؟

 

قال: "في 30 سبتمبر 1973، عملنا عملية استطلاع على شاطئ القناة قبل الحرب بأسبوع، طلعت على المصطبة مع رئيس العمليات والضباط وشاهدنا المكان الذي سنحتله عندما نعبر، وعندما عبرت مع القوات يوم 7 أكتوبر 1973 عبرت من المدق المجاور للمصطبة من الغرب للشرق، كان معي عربة إذاعة متكاملة، كان عملي ضابطاً بالشؤون المعنوية، وكنت أذيع برامج إذاعية تعمل على التحضير المعنوي للجنود والمقاتلين قبل وأثناء العمليات، كنت أتحرك بين الوحدات بالسيارة في منطقة "القصاصين" محل وحدتي القتالية.

 

كان على المشاة أن يهاجموا النقاط القوية ويأمنوا مداخل المعابر، وبدأ المهندسون يمدون الكباري بين ضفتي القناة، بالإضافة للمدفعية في الغرب، وعناصر الاستطلاع التي تندفع مقدامة، استولى المشاة على النقاط الحصينة يوم 7 أكتوبر، كان الوضع قد استقر تماماً لقواتنا، وكان هناك غارات من العدو مستمرة على حشود جنودنا التي تحاول العبور، كانت قوات العدو تحاول إعاقة تدفق القوات المصرية على الشرق، كان لا يمكن بأي حال وقف الزحف، مشاعر المقاتلين المصريين كانت جارفة، فالجنود كانوا يتنافسون على الإغارات على النقاط الحصينة قبل الحرب، ومع اللحظات الأولى للعبور حدث ما كان يتمنونه، سماء المعركة اشتعلت ناراً على بعد 8 - 9 كيلو مترات من القناة، وصدرت التعليمات فدخلنا من المعابر إلى قرية "سرابيوم".. حرب أكتوبر بالنسبة لي التجربة الكبرى في حياتي، كتبت مزهوًا بها، وبانتصارنا العظيم في 1973.

 

بطولات الأهالي

 

قلت: صورت في روايتك الكثير من البطولات التي رأيتها أثناء المعارك، وكان وصفك لبطولة أهالي قرية "سرابيوم" رائعًا، حدثني عن هذه البطولات. قال: عندما صدرت التعليمات وعبرنا ودخلنا هذه القرية الباسلة وجدنا أهلها يخرجون من بيوتهم ويهتفون للجنود على المدق، ويريدون التعبير عن دعمهم بكل وسيلة، كانوا عزلا، وقلوبهم تنبض بالمحبة، الطيران الإسرائيلي كان يهاجم الجنود والأهالي كل دقيقة، وليس كل ساعة، والأهالي من شدة فرحتهم بالعبور لا يأبهون لأي خطر، مشهد لا يمكن أن يغادر خيالي، الطائرات الإسرائيلية تضرب المدق، والأهالي والجنود في ثبات، والمدفعية المصرية تسقط طائرات العدو، معارك جوية كانت فوق رؤوسنا نشاهدها بفخر، ونثق أن صواريخنا ستقضي على الطائرات المغيرة، تضافر المدنيين والعسكريين معًا حقق النصر، ولهذه الأسباب كتبت مقالاً في مجلة "الثقافة الجديدة" قلت فيه: "سرابيوم هي مسقط قلبي".

 

تسجيل البطولات

 

سألته عن تأثير تجربة الحرب في كتاباته الأدبية، فقال: "في مجموعتي القصصية "المريدون" كتبت أول قصة عن "جابر" أحد أبطال روايتي فيما بعد، وفي مجموعتي القصصية "الخسوف"، هناك ثلاث قصص عن الحرب لم تغادرني أبداً. ويضيف: حرب أكتوبر في قلبي وفي روحي، وفي روايتي "سرابيوم" حرصت على تسجيل البطولات المصرية، وعمليات الاستطلاع، ووصف معركة تحرير القنطرة شرق بدقة بشكل روائي، وتجسيد بطولات رجال الصاعقة أثناء مقاومة حدوث الثغرة في غرب القناة.

 

عن القرية الباسلة

 

سألته: لماذا كتبت هذه الرواية بعد انتهاء الحرب بحوالي 37 عامًا؟ قال: "منذ خرجت من الحرب سالمًا وأنا أريد الكتابة عنها، كنت مزهوًا بانتصارنا العظيم في 1973، وتأخرت في الكتابة لأنني كنت لا أزال داخل تجربة الحرب لم أخرج منها، وعندما أردت أن أستعيد أجواء المعارك بعد هذه المدة الطويلة طلبت من اللواء متولي سعد الدين، محافظ الإسماعيلية، أن أعود لرؤية وزيارة الأماكن التي رأيتها في الحرب، فدعاني لزيارة الإسماعيلية والأماكن المهمة، وكان أول طلب لي أن أذهب إلى "سرابيوم"، ورافقني الشاعر غريب موسى، وهو من الإسماعيلية، وقد سألني عن سر ارتباطي العميق بهذه القرية، فقلت له: لأسباب كثيرة، منها أنني ارتديت الزى العسكري عندما كنت طالباً بالجامعة، وقتها تشكلت فرق جامعية لخدمة الجبهة، وكنا نتلقى بعض التدريبات العسكرية، وذهبنا إلى الجبهة لزيارة الجنود.

 

وكان أن ذهبت إلى الإسماعيلية لزيارة الفرقة الثانية مشاة - اللواء 117 قبل الحرب، وعشنا أسبوعين في "جانين"، بعدها ذهبت في فوج إلى السويس، ثم جُندت في سبتمبر 1969 بسلاح المدفعية لمدة عام ونصف العام، ثم عملت ضابط توجيه معنوي، وتلقيت دورات عن الحملات النفسية، وكنت وزملائي نقوم ببعض المناورات والتدريبات نصل خلالها إلى "سرابيوم".

 

قلت: عشر سنوات كاملة 2003 - 2013 لكي تكتب رواية عن هذه القرية الباسلة، حدثني عن هذه التجربة.  قال: "كنت أريد أن أصوٍّر هذه التجربة المهمة، كنت أكتب ثم أعيد صياغة ما كتبت مرات ومرات، حتى أصل لصياغة فنية مناسبة، كانت البطولات التي شهدتها في الحرب تتجسد أمامي معجزات بجميع المقاييس، قام بها العسكريون والمدنيون معاً، أذكر على سبيل المثال أنني عندما عبرت يوم 7 أكتوبر وفى الساعة الثامنة صباحاً كنا قريبين من شط شرق القناة، فوجدت غراب مياه حلوة (أي ماسورة مياه حلوة داخل سيناء مدها المهندسون والإداريون والعمال من غرب القناة إلى داخل سيناء، من أقامها؟.. ليس واحداً ولا اثنين، بل جيش من العاملين المصريون، بالتأكيد صنعتها نصف كتيبة أو سرية من المهندسين والصنايعية والإداريين.

 

كنت أريد أن أصوّر روح اليقين التي يتمتع بها الجندي المصري، هناك في منطقة "طوسون" شرق القناة كانت توجد نقطة إخلاء جرحى يتم إرسالهم للعلاج بالمستشفيات غرب القناة، وقفت أرى حالة المصابين والجرحى، لم أجد واحداً منهم يشكي، كان بعضهم بطنه مفتوح وينزف لكن على وجهه ابتسامة، كنت أريد أن أصور هذا اليقين الذي كان يغمرهم بأن أعمارهم وجروحهم هي أقل ما يمكن أن يقدموه للوطن الغالي.

 

العقيدة القتالية

قلت: وماذا عن دورك المهم في التوجيه المعنوي للجنود في الأيام الأولى من الحرب، وأثنائها؟ قال: "كل وحدة كان لها ضابط توجيه معنوي، يقوم ببناء العقيدة القتالية في نفوس الجنود، والقيم الاجتماعية والدينية التي تحث على الدفاع عن الأرض، وقمت من خلال سيارة الإذاعة بإذاعة بيان قائد اللواء للمقاتلين، اللواء عثمان كامل، وقد أذعت البيان يوم 6 أكتوبر عن بدء المعارك لرفع الروح القتالية للجنود، كان ذلك في 6 أكتوبر الساعة الحادية عشرة صباحاً، مررت على جميع الوحدات، كان اللواء متمركزاً في منطقة "القصاصين".

 

وكنا نذيع أغنيات حرب أكتوبر أيضا، بيانات النصر، وأذكر أنني في صيف 73 نزلت إجازة 48 ساعة، فظللت أبحث في مكتبات ومحلات شرائط الكاسيت عن أغنية لعبدالوهاب ينشد فيها: "يا إلهي انتصرنا بقدرتك.. وبجهادنا"، بحثت عنها ووجدتها، وأخذتها بالإضافة إلى أغنيات وطنية أخرى مثل "والله زمان يا سلاحي"، وغيرها.

 

وأذعت أغنية عبدالوهاب "يا إلهي انتصرنا بقدرتك وبجهادنا"، ثاني أو ثالث أيام الحرب. وفي رأيي أن كل أغاني حرب أكتوبر رائعة، خاصة أغنية شهر زاد "سمينا وعدينا"، وأغنية "خلي السلاح صاحي"، التي غناها عبدالحليم حافظ.

 

سألته عن الكتابات والرؤى التي استطاعت تجسيد بطولات حرب أكتوبر. قال: كتابات الغيطاني في "حكايات الغريب" وسمير الفيل في رواية "تلك الجبهة"، وكتابات فؤاد حجازي، فهو أحد رواد الكتابة عن الحرب، ومن أهم أعماله رواية "الرقص على طبول مصرية"، ومن أجمل الروايات أيضا رواية "العمر لحظة" ليوسف السباعي، لأنها رصدت التفاصيل الصغيرة والحياة الإنسانية لأبطالها.

 

 

العلم والتخطيط

 

قلت: صوّرت في رواية "سرابيوم" جنديين يتسابقان إلى الاستشهاد، "دسوقي" و"متولي" فتقول: "رأيت بجوار جسده شظية مازالت بحجم ساطور".. يا إلهي، كان ممكن أن تقتلنا هذه الشظية معا، فلماذا اخترته يا رب من دوني؟ قال: حقيقة، كان الجنود يقاتلون بروح اليقين أن أرواحهم فداء لمصر، كان "دسوقي" يصف ما حدث للشهيد جابر. وأضاف: "الجندي المصري خير أجناد الأرض، ونصر أكتوبر معجزة حققناها بالعلم والتخطيط، فنحن شعب يستطيع تحقيق المعجزات، ولا بد أن نحافظ على شعلة أكتوبر متوهجة في نفوسنا، وعلى الكتاب والفلاسفة والمفكرين أن يغذوها بإبداعاتهم لتظل متوهجة على الدوام، باعتبارها الثمرة التي حصلنا عليها من حرب أكتوبر، ولا بد أن نحافظ عليها.

 

استعدت كلمات بطلة روايته الأيقونة، وهو يتغنى بمواقع القتال وبانتصار أكتوبر العظيم، كلمات ينشدها من فوق إحدى المصاطب التي أنشأها المهندسون المصريون، لتكون أهرامات حياة، فيقول: "المصطبة هي أرضي وروحي ومسجدي الذي أؤدي فيه صلوات المحبة لوطني، وصلاة الخوف عليه، المصطبة التي شهدت مولدها أمام عيني، وعرفت أسرارها، واعتليتها لأرى بعيني ساحة مصرع الأوغاد قبل أن تنطلق دانات المدفعية من مزاغلها لتحول مواقعهم إلى أعمدة من نار ودخان".

 

لقد استطاع محمود عرفات، في روايته "سرابيوم" أن يكتب بيد دافئة بعد 37 عاماً من انتهاء الحرب، من مسقط قلبه عن نصر أكتوبر العظيم.  

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز