عاجل
الثلاثاء 19 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
د.فوزى فهمى "المثقف النبيل".. "شمس لا تغيب"

د.فوزى فهمى "المثقف النبيل".. "شمس لا تغيب"

الأستاذ الدكتور فوزي فهمي أحمد، كما كان يحب أن يكتب اسمه، الأستاذ وهو اللقب الأهم في حياته المهنية والأحب إلى قلبه، يرحل إلى ربه محاطاً بعلامات حسن الخاتمة (1938 - 2021)، كنت أهاتفه قبل رحيله بأيام ثلاثة، وكنا نضحك ونتبادل المحبة كعادتنا منذ أن سعدت وتشرفت بمعرفته ومحبته منذ عام 1982 .



إنه الأستاذ الذي حرص على أن يكون إنجازه الحقيقي هو إبداع إنساني يتجلى في تعليم مجموعة من الطلاب من مختلف الأجيال جوهر المسرح، والفنون، والثقافة، منذ أن كان معيداً بالمعهد العالي للفنون المسرحية وأستاذه الناقد الكبير محمد مندور، حتى آخر لحظات العمر المديد الثري الحافل بالعمل، والبناء، والإبداع.

 

كان ينتقي من الموهوبين أحباء له يدخلهم حياته الشخصية، ويصبحوا في موقع الأصدقاء، وما أجمل أن يكون الأستاذ صديقاً.  كان من تلاميذه الأحباء الكاتب الكبير لينين الرملي، الذي حكى لي أنه كان يأخذه في جولات ليلية بالقاهرة القديمة، يعلمه فيها الكتابة الدرامية، قال لي إنه استاذي الذي علمني الكتابة، وغيره كُثرٌ من الموهوبين ونجوم الكتابة والإخراج والتمثيل في مصر، كان الأستاذ قد دعمهم بعمله، ومحبته، وقدم لهم الفرص الكبرى.

 

كان يرى المسرح بعينين، الأولى هي عين التمرد، والبوح، والتعبير عن نضال الإنسان من أجل الحرية، والثانية بعين الحكمة، والقيم، والأخلاق.

 

وكان رحمة الله لديه ميعاداً مقدساً يومياً في التاسعة والنصف صباحاً في قاعة المحاضرات، كان الموعد الأهم لديه، وقد عملت معه معيداً ومدرساً مساعداً لفترة دامت عشرة أعوام متواصلة، كانت بهجة كبرى، لم يكن يقرأ من كتاب أو يحمل أوراقاً، كان يأتي محتشداً مطلعاً ليلة المحاضرة على مراجعة وكتبه، ليبدع متوهجاً.

 

روح ساخرة مشعة بذكاء مرح، تجعل من المحاضرة مكاناً للتعلم وللمتعة، تلك الإشراقات الصباحية المهمة لا يمكن أن تغادر ذاكرتي ولا وجداني.

 

كانت تلك الطاقة الإبداعية المتألقة نوراً وعلماً، هي المصدر الأول لشحذ اهتماماته الأخرى، ولمنحه السعادة والصفاء في أدواره المهنية الأخرى، التي كانت تحتاج لمهارات غير مهارات الأستاذ، وهي أدوار القيادة الثقافية الفاعلة.

 

كنت أيضاً ألحظ أن محاضراته هي واحة من الحرية والديموقراطية، يحاضر فيها بكل تحرر من كل القيود، وكان طلابه يتنفسون حرية في مناقشة كل الأمور حتى أمور الشأن العام، كانت مساحته للبوح الحر وللتوهج، وكان يناجي فيها يومياً أستاذه الدكتور محمد مندور، الذي جعلني من كثرة ما حكى عنه أشعر بأنني عشت تجربته الإنسانية الثرية ذاتها.

 

ثم يخرج من محاضراته إلى دور آخر، سواء عندما كان عميداً للمعهد العالي للفنون المسرحية، أو عندما كان رئيساً لأكاديمية الفنون، ليصبح رجل الإدارة المسؤول، كان مكتبه يظل عامراً إلى منتصف الليل بمئات المبعوثين إلى كل دول العالم، خلية نحل أنجزت البناء الثاني لأكاديمية الفنون، والدراسات العليا، ومنح درجات الماجستير والدكتوراه، ثم إنشاء المبنى التعليمي المركزي، وهو صرح تعليمي قيم، ثم إنشاء 23 مبنى في أرض أكاديمية الفنون المجاورة منها معاهد عليا تم استحداثها، مثل المعهد العالي للفنون الشعبية، والمعهد العالي لفنون الطفل.

 

كانت إنجازاته حاضرة في كل مكان حل فيه، فعندما حضر رئيساً للمركز القومي لثقافة الطفل، ترك 100 كتاب مترجم للأطفال، وأنشأ الحديقة الثقافية للأطفال بالسيدة زينب، مسقط رأسه ومحل طفولته.

 

وقد حصلت الحديقة لمصر على جائزة الأغخان في العمارة عام  افتتاحها، من  فرط جمالها وتميزها.

 

وعندما فكر الفنان الكبير فاروق حسني، وزير الثقافة الأسبق، صاحب الإنجاز الثقافي الأكبر، بعد إنجاز د. ثروت عكاشة، والمؤسس الثاني لوزارة الثقافة المصرية، في تجديد المشهد المسرحي المصري والعربي، كان الدور الهام للمثقف المصري النبيل الفاعل د. فوزي فهمي، في فترة رئاسته لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، فقد شهدت مصر حضوراً سنوياً متكرراً لأهم التجارب والتيارات المسرحية المعاصرة، صاحب ذلك ترجمة مئات الكتب من أهم ما صدر معاصراً في عالم المسرح، والنقد حول العالم، عمل عليها مئات من المترجمين المختصين.

 

كان د. فوزي فهمي، يمنح خبرته أيضاً لوزارة الإعلام المصرية في لجانها الاستشارية الفاعلة، وفي دعمه للبرامج الثقافية بالتليفزيون المصري، ورعاية تعليم الإعلام، وكان أن أنشأ الأكاديمية المصرية للفنون وتكنولوجيا الإعلام، والتي كانت أهم معالم مدينة الإنتاج الإعلامي المصرية، والتي اقتربت من علوم الإعلام اقتراباً معاصراً. 

 

وكان له إسهاماته البارزة في رئاسة اللجنة العليا للمهرجانات المصرية، والتي شهد الجميع بعدالة عملها وتميزها في فترة قيادته لها. 

 

وكان عضواً فاعلاً في لجنة اختيار القيادات بوزارة الثقافة، ومعظم البارزين في مجال القيادة الثقافية هم من اختياره. 

 

رحمه الله كان له في مجال الصحافة المصرية أحباء، وخلصاء مصريين، يتعهدهم بالمتابعة والحوار، منهم الكاتب المصري الكبير، عبدالله كمال رحمه الله، والكاتب والإعلامي المتفرد محمد هاني، وصديقه الكاتب الراحل سامي خشبه. 

 

وقد منح الأهرام مقالاً أسبوعياً لسنوات طويلة، كان يهتم فيه بالشأن العام أكثر من اهتمامه بالكتابة عن الفنون، استكمالاً لدور المثقف العام في المشاركة بالرأي، والمتابعة، والفهم، والتصحيح للمسارات المصرية الوطنية. 

 

ثم أخذ لنفسه مساراً جديداً مبتكراً في نهاية سنوات مقاله الأسبوعي، إذ ابتكر أسلوباً خاصاً كان يحكي فيه أهم الروايات العالمية والعربية، ثم يفسرها تفسيراً معاصراً في ضوء القراءة الحية للواقع. 

 

كان يقول لنا: لقد اخترت أن استشهد ككاتب من أجل إنتاج مئات الكتاب، والمبدعين، والفنانين، والإعلاميين. 

 

لكن يبقى ما كتب مضيئاً متفرداً، كتابه النظري الذي هو مشروع تخرجه "موت المفهوم التراجيدي" دراسة نظرية درامية  مختلفة، ويبقى أيضاً إبداعه المسرحي ككاتب حاضراً في ثلاثة قطع مسرحية نادرة، انتجها المسرح القومي المصري بكبار المبدعين، ومنهم نور الشريف، محمود ياسين، وعبد الغفار عودة، وغيرهم رحمهم الله رحمة واسعة.

 

إذ قدم للمسرح المصري والعربي "عودة الغائب"، وهى تتحدث عن يونيو 1967 وأسبابها وتحلل الواقع الموضوعي في علاقة الحاكم بالمحكوم، وهى ذات الفكرة التي حضرت في مسرحية "الفارس والأسيرة"، وناقشت مسألة الحرب والسلام 1979، ثم مسرحية "لعبة السلطان" 1983، وعنها كتب د. لويس عوض مادحاً: "قدم لنا د. فوزي فهمي، مسرحية نبيلة جميلة.. نبلها في رقي مقصدها وجمالها من عباراتها الشاعرية الوعرة، التي تشبه الصخور الكريمة المنحوتة في بطون الجبال".

 

وقد كان ذلك هو أسلوبه المتفرد كلما كتب حتى في معايداته الموسمية للأصدقاء، كان متسامحاً جميلاً، لا يعيش إلا في الإبداع والعمل والإنجاز، اللهم رحمة واسعة ومغفرة لأستاذي الحبيب، وأبي الروحي الذي تمتعت بصحبته أربعين عاماً، ولم أكن وحدي فقد كان معي في محبته أجيالاً عدة. 

 

اللهم بكل ما قدم، وبكل ما أنجزه لمصر وللناس، وللحياة، ارحمه رحمة واسعة، نحسبه عند ربه في أحسن مقام، مع الأبرار والمخلصين.  

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز