عاجل
الثلاثاء 19 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
في حِمى الإمام

في حِمى الإمام

نَمَا فيَّ الفضولُ إلى معرفة ما أحدث الصاروخ عند انفجاره في "غيط" شاتيلا، وفرزته بعينيّ خلف النافذة المطلة عليه، فإذا فجوة عميقة في وسطه، و"الزنبق" الأبيض أصبح أسود اللون، يلوي قامته إلى الأرض، والزهر الليلكي الذي كان يتغامز مع الضوء، ويعشق ندى الفجر، غطّاه ملح البارود.. وأملتُ نظري إلى الجهة المقابلة، فإذا صورة الإمام موسى الصدر تُزين حائط "جامع قريطم"، الحجري المرصوص، وتحتها علم "أمل" (أفواج المقاومة اللبنانية)، وعناصر تدخل وتخرج، وقرقعت رشاشات وبنادق. 



والجامع الذي كان المقاتلون فيه، في بداية الاحتراب الداخلي يُعَدون على أصابع اليد الواحدة، أصبح يعج بهم، ولا يرتاح ليل نهار، مصدر أخبار للشارع كله.      

والإمام موسى الصدر (الذي جاء إلي لبنان سنة 1959 من إيران، حيث ولد وترعرع، وتعلم وتفّقه، ينتمي في الأصل إلى أسرة ذات منبت وأصل لبناني، وتمددت فروعها إلى العراق ثم بلاد فارس) له الفضل في ترقية الشيعة اللبنانيين، فخلّصهم من التبعية والخضوع للزعماء الاقطاعيين، وكأنما كانوا ينتظرون قائداً، فإلتفوا حوله..  

 ودعوته الرافضة للعنف والداعية الى الحوار، جمعت من حوله مؤيدين مسيحيين، وقد أسعفته في ذلك شخصيته الكاريزماتية الجاذبة، وبراعته في استمالة الناس، وبهرهم الإمام الشيعي الذي لم يتردد في إلقاء المحاضرات في المدارس والمعاهد المسيحية، وفي المشاركة في القداس، واعظاً حول رسالته الإسلامية – المسيحية، وقوامها العدالة، والسِلم الأهلي، والوحدة الإنسانية والوطنية..  

 وأطلق الإمام موسى الصدر "حركة المحرومين"، وتعدّى بها إلى كل محروم من أى فئة أو مذهب، وكان مطران الروم الكاثوليك غريغوار حداد، "المطران الأحمر"، كما كان يُدعى، أول المؤسسين مع الإمام لتلك الحركة، وكانت مجلة "آفاق" التي أطلقها المطران، منبراً لتلك الحركة العابرة للطوائف. 

إلاَّ أن العنف الذي تفشى في لبنان، هَزَم الإمام موسى الصدر، وقوّض مشروعه، ووجد نفسه بين نارين: واحدة أشعلتها الميليشيات المسيحية التي جرفت في حربها الكل، والنار الثانية أشعلها الفلسطينيون في الجنوب، بسيطرتهم على منطقة "جبل عامل" الشيعية بامتياز وتحويلها إلى "دويلة"، وكقاعدة لإطلاق الصواريخ وعمليات حرب العصابات ضد إسرائيل، فكان رد الأخيرة موجعاً ومُدمراً للقرى الشيعية.

وراح الإمام المسالم يتعرض إلى ضغوط من أجل تشكيل ميليشيا شيعية للدفاع عن الذات، فرضخ مُكرَها وأنشأ "أفواج المقاومة اللبنانية" (أمل)، وبقيت في الخفاء إلى أن فضح أمرها انفجار ضخم في أحد معسكرات التدريب في "البقاع"، أدى إلى مقتل 35 شاباً، وقال الإمام موسى الصدر يومها كلمته المشهورة: "السلاح زينة الرجال".. وهو  ما أثار حفيظة وتخوف المسيحيين فانفضوا من حوله وحواليه، كما فعل العديد من المثقفين العلمانيين و"حركة المحرومين" التي كانت حركة لكل اللبنانيين.    

 ووجد الإمام موسى الصدر نفسه يلتحق بالسياسة السورية، إلا أنه كان يرى نفسه "شريكا" لحافظ الأسد، وليس "تابعا" أو "أداة، ويتلقى الإمام موسى الصدر سنة 1978 دعوة من العقيد معمر القذافي لزيارة ليبيا، واختفى، ولم يتضح قط إذا ما كان خُطف أو قُتل، ثم على يد من، وبأمر من؟! وليس للاستفاضة حول تغييب الإمام وأسبابه ومسبباته منفسح هاهنا.       

ولملت "أمل" نفسها، فاُختير حسين الحسيني مكان الإمام المغيب، إلا أن الوفاق لم يدُم داخل الحركة، فحدث انشقاق بين الذين يريدون الانغماس في الاحتراب الداخلي، وبين معتدلين يرفضون تلوث أصابع الحركة بالدماء. وكانت الغَلَبة للمتطرفين، فما كان من  حسين الحسيني إلا أن استقال من منصبه ومن الحركة رمّة، وابتعد عنها، ليحل مكانه نبيه بري. لقد كنا في "شارع مدام كوري" في "حِمى الإمام"، وعندما غادرت لبنان كانت صورته اختفت، من على حائط الجامع..                                                            ولأول مرة استمكنت مني الحرب، واستشعرت ذلها ومهانتها، وما عُدت أريد أن استرد الحياة كل يوم من فم الموت. 

وأدركت أننا محاصَرون بالمقاتلين، الحاملين كل هويات الأرض، رهائن على فوهات بنادق القناصة.. والبلد يحتضر، ونحتضر معه كل يوم.. أسرى كنا، فالمنافذ مغلقة، و"مطار بيروت الدولي" يعشش فيه العنكبوت، والدرب إلى الحدود اللبنانية – السورية، للسفر من دمشق إلى القاهرة مسدودة.

"مرفأ جونية" والوصول إليه محفوفاً بمخاطر الانتقال والعبور من بيروت الغربية إلى الشرقية، وفي ذلك المرفأ كانت المراكب تُقِل الهاربين إلى قبرص، ومنها إلى العالم الوسيع.

وطفقت أفتش عمن يدلني على طريق الخروج والرحيل.

"أجمل ما في الغربة أنها تجعل الغرباء أصدقاء".. تمتمت بسري وأنا أمر بعيني على وجهي المتعب، المرتسم أمامي في المرآة، وكان أمين نخلة قائل هذا القول على صواب.

ومن بين أصدقائي الكُثُر في غربتي إلى لبنان، كان شريف الأخوي يؤثرني بمكانة في نفسه، وكان بوصلتي اليومية، يدلني على الشوارع الآمنة والسالكة التي لم تُنتهك من القناصة، أو تعرقل الحواجز المرور فيها، فبَرَق في ذهني خاطر أن أستجير به، ولم يكذّب خبراً:

- "ما لك غير ميناء صور"

قال بنبرة الواثق وأكمل:

-  هل تعرف أحداً من جماعة "أمل"، أنهم مسيطرون على صور ومرفأها.

"أعرف.. طبعاً أعرف".. انتشيت بالكلمة وأردفت:

" ناسي، يا أستاذ، أننا نعيش في حِمى الإمام"، وأعطى شريف الأخوي ضحكته مداها وقال:

-"عال... عال.. إنحلت المشكلة"

انتعش الأمل في نفسي، دغدغتني سعادة غامرة، فقررت مفاتحة الحاج سليم الصيداوي، صاحب محل البقالة في "مدام كوري"، فهو جنوبي أباً عن جد، وله دالّة على "جماعة أمل"، كما سماهم شريف الأخوي، فوعد، وهو يكرّ بأنامله السبحة الطويلة ويمسك حباتها واحدة ... واحدة بتأمين وصولنا إلى ميناء صور مع "الجماعة"، وأن يجد لنا مكانًا على إحدي السفن التي تأتي بالبضائع من قبرص أو مصر ، وهي عادة سفن بضائع صغيرة .

وكانت رحلة العودة الصعبة.  

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز