نص كلمة شيخ الأزهر في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف
السيد على
ألقى الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف كلمة في احتفال وزارة الأوقاف المصرية بالمولد النبوي الشريف.. هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمدٍ وعلى آله وصَحبِه. السيد الرئيس/ عبد الفتاح السيسي- رئيس جمهورية مصر العربية (حفظه الله وأعانه)! الحــفل الكــريم! السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد؛ فإنَّه ليُسعدني أنْ أتقدَّمَ إليكم -سيادةَ الرئيس!- ولشعب مصر الكريم، ولأمتَيْنا العربيَّة والإسلاميَّة: شُعوبًا وحُكَّامًا - بأصدق التهاني وأطيبها، في ذكرى مولد رسول الإنسانية، ورحمةِ الله للعالمين، سيدنا محمد، صلواتُ الله وسلامُه عليه، وعلى إخوانِه من الأنبياء والمرسلين.. هذه الذكرى التي تَهِلُّ علينا مُتعانقةً مع ذكرى مَلحمة نصر أكتوبر من عام 1973م، تلكم الملحمةُ المصريةُ الخالدة، التي ملأتنا ولا تزالُ تملؤنا، بمشاعر الفَخارِ والزَّهو والعِزَّة، والاعتزازِ بجيشِ مصرَ العظيم، الذي فاجأ العالَم بما لم يَكُن في حُسبانِه من نصرٍ كاسحٍ أذهَلَ المعتدين وحطَّم أساطيرَهم، وردَّهم على أعقابهم خاسرين.. .. .. .. أيهـا الحـفل الكــريم!
إنَّ احتفالنا بمولدِ خاتم الأنبياء والمرسلين ليس احتفالًا بعظيمٍ من العظماء، مِمَّن يَتوقَّف التاريخ عند أدوارهم قليلًا أو كثيرًا، ثم ما يلبث أنْ يَرُوح ويتركهم.
بل هو احتفالٌ من نوعٍ آخَر مختلف، إنَّه احتفالٌ بالنبوَّة والوحي الإلهي وسفارة السماء إلى الأرض، والكمالِ الإنسانيِّ في أرفع درجاته وأعلى مَنازله، والعظمة في أرقى مظاهرها وتجلِّياتها.. إنه احتفال بالتشبُّه بأخلاق الله تعالى قَدْرَ ما تُطيقه الطبيعةُ البشريَّة، وقد تمثَّل كلُّ ذلك في طبائع الأنبياء والمرسَلين، الذين عصَمَهم الله من الانحراف، وحرَسَ سلوكَهم من ضلالات النَّفس وغوايات الشياطين، وفَطَرَ ظاهرَهم وباطنَهم على الحقِّ والخير والرحمة، وقد بلَغ محمد -ﷺ- في هذه المعارجِ المتعالية شَأْوًا بعيدًا، حتى أُطلِق عليه: «الإنسان الكامل» من فَرْطِ ما استوعَبَه استعدادُه الشريف من سموٍّ في الفضائل، وسُموقٍ في الخلُق والأدب الرفيع.
يؤكِّدُ ذلك ما زَخَرت به مُصنَّفاتُ الأخلاق والشمائل المحمدية من أوصافٍ لا يُمكن أن تجتمع لإنسانٍ إلَّا إذا كان من هؤلاء الذين هيَّأهم الله لهذه الأوصاف، وأعدَّهم للتحلِّي بحُلاها.
من هذه الأوصاف الشريفةِ التي يَسرُدها عنه بعضُ أصحابه أنَّه -صلوات الله وسلامه عليه!- لم يكن غليظ الطبع، ولا فاحشًا في قوله وعمله، ولا مُتفحشًا، ولا صَخَّابًا يرفعُ صوتَه في الطُّرقات والأسواق، ولم يكن يَجزي السيئةَ بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح.. ما ضرب بيده شيئًا قط، إلَّا أن يُجاهِد في سبيل الله، ولا ضرَب خادمًا ولا امرأةً، وما رُؤِيَ مُنْتقِمًا من مظلمةٍ ظُلِمَها قَطُّ، ما لم تُنتَهك محارمُ اللهِ تعالى، فإذا انتُهكت كان من أشدِّ الناسِ غَضَبًا، وكان يُبَشِّرُ المظلومين الذين لا يستطيعون دفعَ الظلم عن أنفُسِهم، ويُؤكد لهم: «مَا ظُلِمَ عبدٌ مَظلمةً صبَرَ عليْها إلَّا زادَهُ اللهُ عِزًّا»( )، وما خُيِّر هذا النبيُّ الكريم بين أمرين إلَّا اختار أيسرَهما، ما لم يكن إثمًا، وإذا دخل بيته كان بَشَرًا من البشَرِ.. كان يُعظِّمُ النعمة وإن قَلَّت لا يذمُّ منها شيئًا، ويحلب شاته، ويخدم نفسه، وكان يمسك لسانه إلَّا فيما يعنيه، وكان يُكرم كريم كلِّ قوم، ويولِّيه عليهم، يُحذِّر الناس، ويحترس منهم، ويلقاهم من غير أن يطوي على أحدٍ منهم طلاقة وجهه وبشاشته.
وكان يتفقد أصحابه، ويسأل الناس، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس.. ومَن سأله حاجةً لم يَرُدَّه إلَّا بها، أو بميسور من قولٍ بمعروف، مجلسه مجلسُ عِلْم وحياء وصبر وأمانة، يُوقَّر فيه الكبير، ويُرحم الصغير، ويُقدَّم ذو الحاجة، ويُحفظ حق الغريب.. وقد كساه الله لباسَ الجمال، وألقى عليه محبةً ومهابةً منه.
ترك نفسه من ثلاث: الجدل، والتعالي في مُعاشرته الناس، وما لا يَعنِيه..
وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدًا ولا يعيبه، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلَّا فيما يرجو ثوابه، وكان يصبر للغريب على جفائه في كلامه ومسألته، وكان يُمازح أصحابه: يضحك مِمَّا يضحكون، ويتعجب مِمَّا يتعجبون، يعود مرضاهم في أقصى المدينة، ويُداعب صبيانهم ويُجلسُهم في حِجْرِه، ومع شدة حبه للصلاة وولعه بها - يُسرع فيها إذا سمع بكاء صبي، وكان يقول: «إنِّي لأقومُ في الصَّلاةِ وأُريدُ أَنْ أُطَوِّلَ فيها، فأسْمَعُ بُكاءَ الصَّبيِّ، فأتجوَّز في صلاتي كَراهيةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ» ( ).
أمَّا موقفه من الدنيا وزينتها وأموالها ومتاعها فقد لخَّصه في جوامع كَلِمِه بقولِه -صلواتُ الله عليه -: «مالي وللدُّنيا، وما أنا والدنيا إلَّا كراكبٍ، استظَلَّ تحتَ شجرةٍ، ثم راح وتركَها»( )، ورآه عمرُ مرةً مضطجعًا على حصير قد أثَّر في جنبه فَهَمَلَتْ عينا عمر، فقال له: مالَكَ؟ فقال: يا رسول الله! أنت صفوة الله من خلقه؛ وكِسرى وقيصرُ فيما هما فيه؟ فاحمرَّ وجهه - عليه السلام - وقال: «أوَ في شكٍّ أنت يا بن الخطاب؟ ثم قال: أولئك قوم عُجِّلَت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا»( )..
وقد حجَّ حجة الوداعِ، والمسلمون معه مدَّ البصر، وجزيرةُ العرب من أقصاها إلى أقصاها في قبضة يده، فكان على رَحْلٍ رثٍّ، عليه قطيفةٌ لا تُساوي أربعة دراهم، وكان يدعو: «اللهم اجعله حجًّا لا رياء فيه ولا سمعة».
.. هذا قليل من كثيرٍ مِمَّا وصَفَه به صحابته - رضوانُ الله عليهم - وردَّده من بعدهم المسلمون والمؤمنون به وبرسالته، وعلى الجانب الآخَر هناك الكثير أيضًا مِمَّا قاله عنه عيون المفكرين والعلماء والفلاسفة، والأدباء ومؤرخي الحضارات في الشرق والغرب من غير المسلمين، من أمثال «غاندي» و«راماكريشنا» و«لامارتين» و«مونتجمري وات» و«زويمر» و«تولستوي» و«مونتيه» وغيرهم مما لا يتسع المقام لذكرهم، وسرد ما قالوه عنه وعن أخلاقه، وعن شريعته وآمالهم في أن تعود لتُصحح مسيرة العالم اليوم، وتُنقذ مصيره من هلاك مرتقب ودمار مُتوقَّع.. وأكتفي من بين ما كتبه هؤلاء باقتطاف ما قاله «برناردشو» الكاتب والناقد الإنجليزي الذائع الصِّيت الذي تَعرفه الدنيا بأسرِها، والمتوفى سنة 1950، يقول هذا المفكر العملاق عن رسول الإنسانية محمد ﷺ: «إنَّ أوروبا الآن بدأت تحسُّ بحكمة محمد ﷺ وبدأت تَعشَقُ دِينه، وإنَّ أوروبا سوف تُبرِّئ الإسلام ممَّا اتَّهمته به من أراجيف رجالها ومُفكِّريها في العصور الوسطى، وسيكون دين محمد ﷺ هو النظام الذي تُؤسِّس عليه دعائم السلام والسعادة، وتستندُ على فلسفته في حل المعضلات وفك المشكلات، وحَلِّ العُقَد.
ويقول: إنِّي أعتقد أنَّ رجلًا كمحمد لو تسلَّم زمام الحكم المطلق في العالم بأجمعه اليوم لتم له النجاح في حكمة ولقاد العالم إلى الخير، وحلَّ مشاكله على وجه يحقق للعالم السلام والسعادة المنشودة.. ثم يقول: أجل.. ما أحوج العالم اليوم إلى رجل كمحمد لِيَحُلَّ قضاياه المعقدة بينما هو يتناول فنجانًا من القهوة».. الحـفل الكــريم!
إذا كان برناردشو يرى ضرورة عودة الهدي المحمدي لإنقاذ عالمنا اليوم، فإنَّ هذه الضرورة أراها ألْزَمَ وأوجَبَ لإنقاذ مجتمعات المسلمين من الأوضاع اللاإنسانية التي تردَّى فيها البعض ممن يزعمون انصياعهم لتعاليم هذا النبي الكريم، واتِّباعهم لدينِه وشريعتِه، بينما هم يقتلون الأبرياء، ويحوِّلون بيوت الله التي أذِن أن تُرفع للذكر والتسبيح إلى ساحات حرب تُزهق فيها الأرواح، وتُراق الدِّماء، وتَنْتَثر الأشلاء، وتستباح الحرمات وتُهدر حقوقُ الناس، وحقوقُ النساءِ والفتيات والأطفال.
وإن هذا الوضع البائس ليُوحي للمهموم به بأمورٍ ثلاثة:
الأوَّل: أنَّ طوائف المسلمين وهم يقتل بعضهم بعضًا يُوظِّفون شريعة السلام في تبرير هذه الحرب، حتى أصبح بأسنا بيننا شديدًا. الأمر الثاني: ما يُصدِّرُه هذا العبث بالأرواح والدماء من صورٍ بالغةِ الوحشية تُغذي النزعاتِ اليمينيةَ المتطرفةَ في الغرب والشرق، (وما يسمى هناك بالإسلاموفوبيا)حتى أصبح الدفاع عن صورة الإسلام يبدو وكأنه أمرٌ يَصعُبُ قَبُولُه، فضلًا عن تصديقه.. يعرف ذلك كلُّ مَن قُدِّر له أن يُدافعَ عن هذا الدِّين الذي ظلَمَه بعضُ أهله، ويُنافحَ عن سيرة نبيِّه الذي تنكَّر له بعض أتباعه، مع علمِه أنَّ هؤلاء وأمثالهم إنما يُوظِّفون هذا الدِّين لأهوائهم ومآربهم وهو منهم براء، وإنْ هتفوا باسمه وتزيُّوا بزيه..
الأمر الثالث: إن الخروج من هذه الأوضاع المعضلة لا يتحقق - فيما أعتقدُ - إلا بإحياء صحيح هذا الدِّين الحنيف، واتخاذه نبراسا في سلوكنا وتصرُّفاتنا، جنبًا إلى جنبِ التأسي بصاحب هذه الذكرى - صلوات الله عليه – ترسيخِ هديه في مناهج تعليمنا، والاعتزاز برسالته وسُنَّته. وفي ختام كلمتي أُكرِّر تهنئتي لكم - سيادةَ الرئيس! – مع دعـائي بـــــأن يمنَحَكم الله -تعالى- المزيدَ من العزم والقوة، وأن يُحققَ على أيديكم آمالَ البلاد والعباد، وأن يحفظَكم لمصر ويحفظ مصر بكم.
شاهد أيضاً