عاجل
الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
الكتاب الذهبي
البنك الاهلي

عيد ميلاد حماتى

رسم: جمال هلال
رسم: جمال هلال

 أصعب اللحظات، لا أقول الأيام، تلك التي أكون فى خصام مع زوجتى، اللحظات نفسها تصبح طويلة وقاسية قسوة برد الشتاء يخرم الصوف، وفى الحقيقة، ولله الحمد، لا يحدث هذا كثيرًا، لكن للأسف عندما تحدث تكون كما أقول شديدة الألم.



زوجتى طيبة القلب لكنها مكابرة، ممكن، متكبرة أيضًا ممكن، شديدة الاعتزاز بنفسها ربما؛ لا ترى نفسَها مخطئة، فلا تعتذر بسهولة، أو لا تعتذر من الأساس، فهى لا تعرف صيغة للاعتذار، تغضب أنت، وتتركك هى حتى ينفد صبرك، تكلم نفسَك، تخبط دماغك فى الحائط، لا يهم، المهم تتركك حتى تهدأ وتصل بنفسك إلى مرحلة الزهق والمَلل من الخصام والوحدة، وتشعر بأنه لا جدوَى، وأن الطيب أحسن ومن أجل العِشْرة والبنات وخراب البيوت، ترجع، وربما تعتذر أنتَ، وأنتَ لا تعرف عن أى شىء، لكن المهم تبدأ صفحة جديدة، بهدية جديدة، ومن الممكن أن يكون لهذا السبب نوبات الخصام قليلة، جرّبتها خلال الخمس عَشرة سنة من الزواج مرتين أو ثلاثًا وكنتُ أنا الخاسر دائمًا، وأصبحت أوثر السلامة وآخذها من قصيرها كما يقال وألمُّ نفسى.

هذه المَرَّة كان الأمْرُ صعبًا، منذ أسبوع تقريبًا، عندما طلبتْ نقودًا لشراء هدية عيد ميلاد أمّها، حماتى، طلبتُ منها الانتظار حتى نزول الرواتب، بضعة أيام، لا غير، تغيرت ملامحها فجأة، وبدأت تغمغم بكلام كثير، رجعت معه سريعًا لسِنّ الطفولة، والصفوف الأولى من التعليم الابتدائى، وحاولت التقاط بعض المفردات لأكوّن جُملاً مفيدة، للأسف كلها كانت بذيئة ومؤذية للسمع والمشاعر، مثلاً :

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

- أسود - شفتك - كان - يوم - ما - يوم.. 

وفهمت سريعًا أنها تقصد: كان يوم أسود يوم ما شفتك.. برقت عيناى غير مصدّق ما سمعت وما فهمت.

 زوجتى حبيبتى، زواجنا كان بعد تجربة حب عنيفة وقوية استمرت سنوات، رفضتْ خلالها الارتباط بالكثيرين من أجلى، وانتظرتنى طويلاً حتى أصبحت جاهزًا للارتباط بها.

لا.. لا يمكن أن تنطق بمثل هذه الكلمات، يوم إيه وأسود إيه وأبيض إيه!! الكلمات تأثيرها أقوَى من طلقات النار؛ خصوصًا أننا نحتفل بهذا اليوم باعتباره أول يوم تقابلنا فيه كعيد للحب (حُبّنا) الخاص بنا، بعيدًا عن اليوم المُسَمّى بـ(الفلانتين) الذي يحتفل فيه الجميع  لكن للأسف التقطت أذنى مجموعة كلمات أخرى سريعة متتابعة:

- لا - أنت- تستحق - معك- أعيش - أن. 

وفهمت أيضًا سريعًا أنها تقصد : أنت لا تستحق أن أعيش معك.. 

ثم توالت الكلمات وتوالت الترجمات الفورية والفهم السريع حتى وصلت فى الأخير إلى الجملة الختامية:

- لن أعيش معك ولا دقيقة واحدة بعد الآن.

وكانت هذه الجملة واضحة جدًا، قالتها تضغط على كل كلمة فيها. 

فى الحقيقة، كنت ألهث خلف الكلمات والعبارات كأنى فى سِباق، واختلطت المَشاعر، غير مصدّق، ما بين الدهشة والحسرة، الأمْرُ لا يستحق كل هذا، وبصوت ضعيف متهدج ملىء بمَشاعر الرجاء بأن تفهم، والتوسُّل بأن تقبل، حاولت أن أفهمها بأننا فى آخر الشهر والمتبقى من الراتب، مع الاستغناء عن بعض الأشياء الضرورية، بالكاد سيكفى بقية الأيام، من الممكن التحجج بأى شىء عن حضور عيد الميلاد، فهو ليس من الشعائر الموقوتة، حتى تنحل الأزمة على الأقل، ووعدتها بأنى إرضاءً لهما سأشترى هدية ثمينة مقابل التأخير.

هدأتْ قليلا، ثم وكأنها تذكرتْ فجأة، ارتفع صوتها مرّة أخرى:

 - كيف؟ أكذب؟! أتريدنى أن أكذب على آخر الزمن؟! لا، لن أكذب على أمّى أبدًا، لن يحدث أبدًا.. 

سريعًا قفزت إلى ذهنى فكرة، فى محاولة لاحتواء الموقف من جديد، وقلت:

- مَن قال هذا؟! أنا أكثر شىء أكرهه الكذب، ولا أقبل أن تكون زوجتى أمُّ بناتى كذابة،  أنا فعلاً متعب، ستخبرينها بأننى تعبت فجأة كما ترين، وارتفعت درجة حرارتى فجأة- أيضًا- كما ترين. 

فوجدتها عفويًا تضع يدها على وجهى وجبهتى تتحسَّس درجة الحرارة، وارتفعت يدها سريعًا متألمة:

- أنت فعلاً ساخن جدًا، يجب أن تذهب للمستشفى فورًا ..

- لا.. لا.. لا داعى للمستشفى... وقلت لنفسى بأننى فقط أقترح.

أكدتْ بأننى متعب، ولا بُدَّ من الذهاب للطبيب.

الغريب حتى هذه اللحظة لم أكن أشعر بتعب أو ألم، لكن بعد الجملة الأخيرة أحسَسْتُ برغبتى فى الكحة، لا استطيع، التنفس، لا أستطيع التنفس بصورة طبيعية..

- فعلاً أنت متعب.. أعراض الكورونا، لا بُدَّ من نقلك إلى المستشفى..

ثم، وهى تتصل بالخط الساخن، بدأت تبتعد عنّى وتحذر البنات من الاقتراب منّى أو ملامسة الأشياء التي أستخدمها؛ التليفون.. الريموت.. زجاجة الماء والكوب الذي شربت به، الحنفية والفوطة فى الحَمّام.. ثم طلبت منهن الذهاب سريعًا إلى بيت حماتى حتى تنتهى من جمع كل هذه الأشياء وتطهيرها.. 

لحظات.. كانت سيارة المستشفى أمام المنزل، تجمَّع الناس؛ الجيران والمارّة، ينظرون لى بحذر وكأنهم ينظرون إلى القنبلة توشك أن تنفجر، يريدون البقاء والفُرْجَة، والخوف يقتلهم..  قلت فى نفسى:

- لا يهم.. بضعة أيام فى المستشفى حتى ينزل الراتب أفضل من البقاء فى هذا المستشفى.

 سريعًا، وبمشاعر مختلطة أيضًا بين الألم والراحة، اختبأتُ داخل السيارة بعيدًا عن عيون الناس.

وصلنا.. يحيط بى رجال الإسعاف بحذر شديد، ثم إجراء التحاليل وقياس درجة الحرارة وأخذ المسحة، وبعد قليل فوجئت بارتفاع صوت الطبيب من آخر الطرقة يشخط ويتنرفز وهو يتجه نحوى ويرفع كلتا يديه، فى إحداهما النظارة وفى الأخرى نتيجة التحاليل: 

- مَن قال بأنك مصاب بالكورونا.. مَن اتصل بالخط الساخن؟! 

قلت بسرعة مدافعًا عن نفسى:  

- زوجتى.. زوجتى هى التي اتصلت. 

- ( بصوته الذي لا يزال عاليًا) من المؤكد أنك تشاجرت معها أو أغضبتها؟! 

- فعلاً.

- (وهو يتنهد بغيظ).. ألف ألف سلامة على حضرتك.. حضرتك تمام.. تفضل روَّح..

-  والمسحة الثانية؟! 

-  (وهو يضغط على أسنانه) تفضل روَّح.. كلمة واحدة ثانية ستبيت هنا مع الحالات المصابة.. 

اعتذرتُ بشدة وارتديت ملابسى وحذائى مرّة أخرى، وخرجت سريعًا أزفُّ البشرَى لزوجتى بأننى سليم والحمد لله، وأنه لا داعٍ لأن تتعب نفسها فى تنظيف المنزل أو تطهير الأشياء، وسأطلب منها أن تتصل بالبنات وتخبرهن، ويرجعن إلى البيت سريعًا لنتناول العشاء معًا.

بعد محاولات عدة مع الهاتف وإعادة الاتصال، ردَّت زوجتى، بالكاد سمعت صوتها، من حولها كان الصخب عاليًا، لكنها كانت فرحة جدًا، سألت نفسى:

- من أين تأتى كل هذه الفرحة وأنا من المفترض فى المستشفى، مصاب بالكورونا؟!

وعندما سألتها عن الصخب بجانبها، وأين هى؟! قالت بأنها عند حماتى، تحتفل معها بعيد الميلاد، وأخبرتنى بأنها أخذت كل النقود الموجودة فى حافظتى، واشترت هدية العيد التي فرحت بها أمّها كثيرًا.

أغلقتُ الهاتف وصممتُ على العودة مرّة أخرى للمستشفى، أعطيتهم عنوان حماتى واسم زوجتى، وذهبت أنا لمستشفى آخر فأنا فعلاً فى حاجة للعلاج.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز