عاجل
الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
الكتاب الذهبي
البنك الاهلي

بريق أمل

رسم: جمال هلال
رسم: جمال هلال

أنهيت دراستى الجامعية منذ أكثر من شهر، ومنذ أنهيتها وأنا أشعر بالضجر الشديد بسبب مكوثى فى المنزل وعدم خروجى مثلما كنت أفعل.. أشغلت وقتى بمساعدة والدتى فى عمل المنزل، وقد تعملت الكثير عن الطبخ، وأقرأ ليلاً، لكن بعدما  أنهى معها إعداد وجبة الغداء أدخل إلى شرفتنا لمشاهدة ما يحدث فى شارعنا قبل عودة أبى من عمله لأنه يمنعنا أنا وأمى من ذلك، فكانت تسمح والدتى بمكوثى نصف ساعة فقط قبل عودة أبى، ورُغم ضيق الوقت إلاّ أننى كنت أجد متعة حقيقة فى الوقوف فى الشرفة. كانت تضحكنى مشاجرة عمّى عبده بقال شارعنا مع الأطفال الذين يلعبون بالكرة ويوميًا يهشمون له زجاج المحل، فيقوم بالجرى وراءهم وسكب الماء عليهم. 



كنت أشاهد أيضًا جارتنا فوزية، وهى تقف فى شرفتها تتحدث مع جارتنا الأخرى سعاد، وكانتا تتحدثان بصوت عالٍ حتى إن جميع مَن فى الشارع يسمعون. أشاهد بائع الجرائد، أشاهد بائع الخبز وهو راكب دراجته، وحامل فوق رأسه طاولة الخبز ويقود بثبات دون وقوع الخبز.

قضيتُ أوقاتًا سعيدة وأنا أشاهد المارة فى الشارع والجيران وهم يتحدثون وأدخل سريعًا قبل عودة أبى من عمله. كان أبى شديد الغيرة علينا أنا وأمى. وكان دائمًا عندما يريدنى أن أنزل لأساعده فى حمل الأغراض التي يحضرها لنا، كان يقف أسفل العمارة ويصيح بصوت عال:

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

"آدم. ياواد ياآدم".

لم يكن يقصد آدم أخى الذي يبلغ من العمر خمس سنوات لكنه يقصدنى أنا، بمجرد سماعى صوته العالى أترك ما فى يدى وأهرع إليه فى خوف لأحمل معه الأغراض؛ لأن أبى كان وزنه زائدًا ولا يستطيع حمل تلك الأشياء والصعود بها إلى الطابق الرابع. 

لأن مصعد عمارتنا يحتاج لإصلاحات.. 

مرت الأيام وأنا أختلس النظرات على المارة قبل عودة أبى، واتضح لى أننى لست الوحيدة التي تقضى على المَلل بالوقوف فى الشرفة، فقد لاحظت شابًا وسيمًا للغاية ذا عينين عسليتَىْ اللون فى العمارة المقابلة لعمارتنا دائمًا ما يجلس فى الشرفة ويقرأ الكتب ويرتشف القهوة، ولكنه دائمًا حزين وعابس الوجه، لكن عندما يصيح عمّى عبده فى الأطفال يميل برأسه ليشاهده ويستمر بالضحك هو الآخر. كان يجلس بثبات واتزان ويميل رأسه قليلاً للأسفل فيرى ما يريد ثم يعاود القراءة وعبوس الوجه والحزن مرة أخرى. 

أصبحت الآن أدخل الشرفة بلهفة لست لرؤية المارة وعمّى حسين؛ بل لأشاهد الشاب الوسيم عابس الوجه، كان يروق لى حقًا؛ خصوصًا دوامه على القراءة فأنا يروق لى الرجل المثقف.

كنت أسهر ليلاً أفكر فيه وأنتظر حتى يحين وقت دخولى إلى الشرفة أُملى عينَىْ منه ثم أخرج بسرعة قبل عودة أبى. ذات مرة نسيت أمْرَ والدى ووقفت أختلس النظرات عليه حتى جاء أبى وصاح:

"آدم".

نظر الشاب إلى صاحب الصوت سريعًا ثم نظر لى فوجدنى عدت بظهرى إلى الخلف لأختفى من والدى، فنظر إلىّ الوسيم وابتسم..

فابتسمتُ له بخجل وأخفضتُ رأسى حتى لا يرانى والدى وخرجت مسرعة إلى والدى لأحمل منه الأغراض. ونجلس بعدها لتناول الغداء، وظل أبى يلقى نكاته ومزحاته كعادته لكننى شاردة فى مكان آخر شاردة فى الابتسامة التي أرسلها لى. أصبحت يوميًا أدخل شرفتى وأنتظر أن ينظر إلىَّ، وبالفعل كلما ضحكت على ما يفعله عمّى عبده كان يضحك هو الآخر وينظر لى؛ وكنت رُغمًا عنّى أبادله الضحك ثم أدخل غرفتى خوفًا من رؤية أحدهم لى ويخبر والدى. بتُ أسهر الليالى الطويلة وأنا أفكر فيه، وأكثر ما يضايقنى عندما نذهب لزيارة جدتى فى نهاية الأسبوع وأمتنع عن رؤيته. 

نزل آدم ليعلب فى الشارع وتأخر فأرسلتنى والدتى للبحث عنه فاستغللت فرصة خروجى وقررت السؤال عن اسم جارى ومَن هو، عرفت من بواب عمارتهم أنه انتقل حديثا مع والدته وأنه روائى واسمه "آدم الجيزاوى"، ذهُلت وتأكدت من الاسم مرة أخرى، إنه ابن الكاتب الكبير محمد الجيزاوى صاحب دار الأمل للنشر.

ابتسمت وصعدت بآدم لأعلى ودخلت مكتبى وقمت بإخراج الروايات التي قد انتهيت من قراءتها مرارًا وتكرارًا وقررت قرأتها مرّة أخرى لأن الكاتب محمد الجيزاوى هو الكاتب الذي تروق لى كتابته.

أخذت رواية ودخلت الشرفة كعادتى وقرأت، وعندما انتهيت لاحظته ينظر إلىّ وعندما أرفع عينى لأراه أجده أخفى وجهه فى كتابه. طلبت من والدى إحضار روايات وكتب لتسلية وقتى ليلاً، وقلت له اسم الكاتب فأحضَر لى رواية "بريق أمل.. بقلم آدم الجيزاوى"، استمتعت بروايته حقًا ودخلت الشرفة لأكمل آخر فصل واندمجت فى القراءة، وعندما صاح أبى وقفت ووقعت الرواية من يدى، نظرت للأسفل ووجدت أبى ينظر لى، ارتعدت خوفًا ونزلت لأُنقذ الرواية لكن بمجرد سقوطها مرت عليها سيارة وأدهستها، حملتها بين يدى وكان لدى أمل أن أجد آخر فصل فيها سليمًا كى أكمله، رفعت رأسى وكلى خيبة أمل وجدته ينظر إلىّ هو الآخر وكأنه يقول بنظرات عينيه "لا تحزنى".. 

عاقبنى والدى على وقوفى فى الشرفة بعدم إعطائى نقودًا أو شراء كتب، جلست فى غرفتى حزينة حتى الصباح ولم أخرج منها إلى حين صاحت علىّ والدتى تخبرنى بأن دار الأمل أرسلت لى مجموعة من الكتب كهدية لى، تعجبت، لكننى تذكرت نظرة آدم، أخذتها بلهفة وأكملت قراءة الرواية ووجدت بنهايتها "منتظر رأيك وتقييمك ومعرفة اسمك"، كتبتُ رأيى فى الرواية ووضعته فى صندوق البريد الخاص بعمارتهم بمساعدة آدم.

مُنعت من دخول الشرفة لكننى كنت أقف خلف الستارة من نافذة غرفة والدتى وكنت أجده عابس الوجه ويبحث عنّى وينظر إلى الشرفة وإلى ساعته رأيت لهفته علىَّ فى وجهه. عاد حزينًا كما كان وما عاد يبتسم حتى عندما يصيح عمّى عبده بالأطفال.

أرسل إلىّ كتاب أقرأه وانتظر رأيى وسألنى لماذا لم أعد أخرج فى الشرفة.. فأرسلت إليه رأيى فى كتابه وكتبت له السبب.. ظل يرسل لى الكتب عن طريق دار النشر، وأرسل أنا رأيى فى صندوق البريد الخاص به دون علم أحد، وذات مرة وجدت فى نهاية الرواية رسالة منه "أحبك ".. دمعت عينى وأخذت كتابه فى حضنى ودخلت مسرعة إلى الشرفة حاولت أمّى منعى لأن أبى قادم وسوف يعاقبنى لكننى دخلت رُغمًا عنها، وجدت آدم جالسًا عابس الوجه على كرسيه كعادته ووالدته ممسكة كرسيًا متحركًا وانتقل إليه آدم بمساعدة والدته وعندما أراح ظهره وجدنى ففرح وابتهجت أساريرة  لكننى من صدمتى لم أبتسم، سحبته والدته إلى الداخل. صاح والدى "آدم".. عدت برأسى حتى لا يرانى ونزلت لأحمل عنه الأغراض.. وجدتُ آدم خارجًا من مصعد عمارته بمساعدة والدته ووقفت سيارة أمامنا وأسرع السائق لمساعدة آدم على صعود السيارة.. وجدنى آدم مرة أخرى ونظر إلىَّ.. 

لم أعلم ما حدث لى، لقد تجمدت أعضائى، خفضتُ رأسى أحمل الأكياس ورفعتها ووجدته قد ركب السيارة ووجهه حزين، التفت برأسه من زجاج السيارة ليجدنى أبتسم إليه بخجل كعادتى. لقد أحببته من كل قلبى ولن يمنعنى عن حبه شىء اختاره الله له، فكل ما يأتى من الله جميل. 

تمت اليوم خطبتى على آدم بعد صراع مع والدتى التي تريد تزويجى من ابن خالتي، وصراع مع والدى الذي دائمًا ما كان يقول "أنا مش هجوزك لواحد مشلول".. لكنهم وافقوا أخيرًا بعدما توسلت لهم والدة آدم أن لديه عملية خطرة وتريد تحسين نفسيته قبل العملية. 

لكننى متقبلة آدم كما هو وقبلت هدية الله لى، آدم هو هديتى من الله.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز