عاجل
الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
الكتاب الذهبي
البنك الاهلي

نزهة مع سقراط

رسم: هبة عنايت
رسم: هبة عنايت

خرج نبيل ساعة العصر وقد تعثرعند خروجه  فى مجموعة كبيرة من الأحجار، وكاد أن يقع لكنه استطاع أن يقف على أطراف أصابع قدميه باتزان عجيب ثم أسند قدمه الأخرى على أرض مستوية، فانفرجت قدماه وأخذت وقفته هذه صورة مضحكة لكل عين تراه، ومن حظه فى ذلك الوقت أنه لم يكن هناك سواه فى الطريق فأنقذه ذلك من سُخرية الأولاد، ونصائح المارّة والتجار وغيرهم من أصحاب الحرَف والأعمال اليدوية: انتبه يا ولد! مع ابتسامة تُعبرعن ضحكة مكتومة كأنما يقول صاحبها: كاد أن ينقلب على وجهه زرع  بصل. 



نبيل وَلدٌ فى السابعة، جميل الشكل واسع العينين مثل أمّه، لقد حصل على مُجمل سماته منها وهو شديد التعلق بها، حتى قضى سنوات طويلة لا يفارق يديها، ولا تفارقه هى أو تتركه للطريق، وكان الأولاد يسمونه (ابن أمُّه) متى لمَحوه، أو استحضروا سيرته.

كان أبوه قد سافر ضمن رحلات التجار المتبادلة بين بلدته والبلاد الأخرى المجاورة، وهى رحلات ساعدت طويلًا فى نقل الثقافات واللغات وساهمت فى اتساع حلقة الفكر، ولم يعرف نبيل عنه شيئًا لسنوات تتجاوز نصف عمره الصغير، فقط يسمع عنه الحكايات المختلقة أحيانًا، والمستحضرة من الذاكرة أحيانًا أخرى. 

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

اعتدل نبيل وسار فى طريقه، وما إن بدأ يتحرك بثقة حتى سمع صوتًا قريبًا، كأنما يخاطبه وقد احتار إن كان يُهيَأ له سماع ذلك الصوت أمْ إنه يحدث بالفعل، وأن هناك فعلًا من يُوجّه له الكلامَ، ثم ظهر فجأة رجل غريب فى زى مهترئ من أطرافه يلف به جسده لفة عجب، ولديه لحية متوسطة الطول، يشير بإصبعه ثم يحك به ذقنه كأنما يشغله شىء فى عقله. ضحك نبيل مستغربًا ما يفعله الرجل أمامه، إنه لا يتصرف كالمألوف من الناس، ماذا يفعل؟ ثم ماذا يريد؟

ذهب نبيل تجاه الرجل، ولم يكن خائفًا رُغم تحذيرات أمّه الكثيرة ضد الكلام مع الغرباء فى الطريق، صاح بصوته الضعيف ليتأكد من وصوله إلى هذا الجسد العملاق: يا عم! هل تتحدث إلىّ أنا؟ 

انتبه الرجل إلى حركة تحت قدميه وصوت يحاول بلوغ أذنيه فى اجتهاد، ثم لاحظ وجود جسد صغير، اضطره إلى الهبوط والارتكاز على ركبته لينظر إليه فى تساوٍ، دون أن يعلق رأس الولد معه إلى أعلى وهو لا يزال غريبًا عنه ويحتاج إلى تواصُل قريب كهذا للفهم والاطمئنان. 

نظر نبيل إلى وجه الرجل فى اندهاش: يا لهذا الوقار كأنما طُبِعَت على وجهه الحكمة، وهى كلمة سمعها مرّة فى الطريق بينما يبحث عن الأولاد فى مثل سنّه، كان يكرّرها شاب وسط مجموعة وكان يبدو أنهم طلاب قد حصلوا على درسهم للتوّ.

ضحك الرجل ما إن سمعه يقول حكمة، وسأله فى الحال: وهل تعرف ما هى هذه الحكمة يا ولد؟، فرَد نبيل فى خجل: لا، ولكننى سمعتها من قبل وقفزت إلى ذهنى ما إن رأيتك، أنت تشبه هذه الكلمة كثيرًا حتى ولو لم أعرف معناها بَعد.

لم يُعطه الرجل جوابًا بشأن الكلمة، ولم يخبره بما تعنيه، قال: إذن فكر بنفسك، وتركه للسؤال وكان ذلك كافيًا ليحرك شيئًا ما داخل نبيل. ذهب الولد الصغير إلى بيته وقد أدركه الليل وهدوؤه، ثم عاد السؤال إلى ذهنه وأخذ يفكر كثيرًا ويخمن أى معنى يمكن أن تشير إليه هذه الكلمة؟، ولكن النوم غلبه فاستسلم. حلم نبيل فى تلك الليلة بالرجل وانتهى الحلم بمشهد كابوسى لعلامات استفهام تطارده، فاستيقظ  صباحًا وقد تعرّق حتى ابتلت ملابسه. 

لم يخرج نبيل من منزله ذلك اليوم، بقى يساعد أمّه فى إعداد بعض الأشياء، وبينما يفعل ذلك توقف ليسأل أمّه حول معنى هذه الكلمة التي شغلته بالأمس، فقالت له بعد أن ضحكت بخفة: ومن أين لى أن أعرف؟ 

واقترحتْ عليه أن يسأل جارهم وحيد، فهو طالب يدرس الرياضيات وأشياء أخرى وهو مُحب للمُطالعة وهى إحدى السّمات التي تجلب له المتاعب ما إن يظهرها أو تبدو عليه كأنما تفيض. أوصته فربما هو يعرف ما الذي تعنيه كلمة حكمة هذه!

انطلق نبيل ينفذ ما اقترحته عليه أمّه، فذهب إلى وحيد ودق بوابته ثلاث دقات وكان ينادى باسْمه كلما توقفت يداه عن لمس باب البيت، خرج له وحيد وكان يستعد للذهاب إلى درسه اليومى، فسأله نبيل على عَجَل: هل تعرف ما تعنيه الحكمة يا وحيد؟ 

نظر إليه وحيد والابتسامة  ثابتة على شفتيه تشير إلى إعجاب خفى بفضول الولد الصغير وربما زهوًا بنفسه، أخبره إن الحكمة تعنى أشياء كثيرة، إنها مجموع محاولات التفكير والتأمل والفهم والإلمام بحقائق الأشياء، والصبر والتأنى فى تحصيلها، وهى الخير والحق والجمال، وكذلك عدم الانغماس فى عمل القبيح والشرير وغير النافع للآخرين. ثم سكت وكأنما انقطع الكلام قطعًا عن لسانه لثوانٍ ثم واصل: التفكير وطرح السؤال إلى جانب القراءة والاطلاع يا نبيل تساعدك على أن تكون حكيمًا. قالها ومضى عنه ذاهبًا إلى درسه.

فرح نبيل بحصوله على إجابة شافية، شعر فيها بالاكتمال الذي يحتاجه ليحفظها بعناية فى الذاكرة، أخذها عن وحيد طازجة ودسّها فى رأسه، دون تفكير. وفى عودته إلى المنزل صادف الرجل الغريب ثانية، فأقبل نحوه مبتهجًا، وقال فى حماس شديد: حصلت عليها، ثم أخذ يُعد له الأشياء التي يمكن أن تشير إليها كلمة "حكمة"، يُعددها له كأنما لا يعرف الرجل أمامه ماذا تعنى الكلمة فعلاً، وكان الآخر يسمع لما يقول فى هدوء لا يُعبر إلا عن اهتمام شخص يتلقى معلومة للمرّة الأولى. وكان يفكر خلال ذلك إنه لا بُدّ أن الولد مصدر المعلومة هذه يعانى الكثير ولديه ما يكفيه من التعاسة لمعرفته أشياء كهذه. 

لاحظ  الرجل فى نبيل فضوله وقدرته على التذكر، وهو لا يزال صغير السّن يتعرف إلى الأشياء بفطرته، ولاحظ أيضًا أن لديه مشكلة كبرى، فهو رُغْمَ مهاراته غير المكتسبة لا من الناس ولا من أى شىء حوله؛ فإنه لا يفكر فيما يحصل عليه ويقوم على تجميعه من هنا وهناك ثم يحشره داخل رأسه. وإنه قد تجاهل حتى ما قيل فى نهاية جملته عن الحكمة، أن تفكر وتسأل هو كل ما تحتاج! وفكر أن يصحبه فى نزهة، لعله يفهم طريقة عمل هذا الدماغ، ويجد الحل أو يجعل الولد يكتشفه بنفسه.

طلب الرجل من نبيل أن يتقابلا ويتنزّها سويًا، على أن يذهب باحثًا عن إجابة للسؤال التالى: ماذا يعرف عن كلمة تفكير؟ ووافق نبيل فى تحدٍّ، سيحصل على إجابة مدهشة تدفع هذا الرجل غريب الهيئة إلى الإعجاب والزّهو به، ولأن نبيل لا يعرف إلا وحيد سبيلاً للإجابات الجاهزة فقد ذهب إليه ثانية، وكان وحيد يهرول على الطريق، يحاول اللحاق بدرسه الذي تأخر عنه عشر دقائق كاملة، فرمَى له إجابة سريعة ظن أنها تكفى فضول ولد فى عمر نبيل وتبعده عن طريقه: (أن تنظر فى الأمور) هكذا قال وهو يمضى فى سرعة خاطفة.

وكعادة نبيل حفظ الكلمات فى رأسه، وظن أن وحيد يقصد بالنظر فى إجابته هذه معنى الرؤية البصرية، وفرح بما حصل عليه، وقال: هذه إجابة جيدة وغير مجهدة، وسيكون حفظها وتذكرها سهلًا. لكن وللمفاجأة استقبل الرجل الغريب الإجابة التي أحضرها نبيل بملامح وإيماءات ساكنة، مما جعل الولد يشعر بجلوسه على صخرة جليدية، وادّعى الغريب إنه لم يفهم معنى ما قاله نبيل، وطلب أن يخبره ماذا يقصد بالنظر فى الأمور، ولم يجد نبيل سوى أن يعتمد على نفسه للإجابة هذه المرّة، فأخبره إنه يقصد بها رؤيتها. ثم كرّر الرجل وماذا يعنى؟ هنا سكت نبيل ثم انطلق فجأة كأنما استفزه شىء: ألا ترى أنك تسأل كثيرًا دونما إجابة واحدة؟ لماذا لا تجيبنى أنت!

ضحك الرجل فى دهاء وأخبره: هذا هو عملى، أطرح الأسئلة، ورفع حاجبيه فى فخر. على كلّ حال ها قد أعطيتك إجابة واحدة للتوّ كما طلبت، لا حجة لك، واستمر يضحك. كان نبيل ينظر إليه فى غيظ، وطلب من الرجل أن يُعرّفه بنفسه فمن غير المعقول أن يمر كل هذا الوقت دون حتى أن يعرف له اسمًا، ولا من أين جاء! لكن الرجل شرع يسرد له حكايات عن نشأته، طويت بتفاصيلها أى فرصة يخبره خلالها باسْمه، حتى تأخر الوقت وكان على نبيل العودة سريعًا إلى البيت. 

غاب الرجل ولم يظهر له سيرة أو أثر وقد مَرّ وقتٌ طويل تجاوز الشهرين، ونبيل ينتظر بصبر فحيرة فغضَب، ما الذي حدث؟ لماذا اختفى فجأة؟! 

فى صباح أحد الأيام وكان نبيل قد غُلب على أمره ولم يعد ينتظر عودة الرجل، وكان قد أحاله وأيامه المعدودة معه إلى ذاكرته، يستدعيه كفكرة أو صورة أو مشهد جميل نهايته مبهمة ومخيبة للآمال، دق على باب بيته ولدٌ صغيرٌ من أولاد الطريق، وترك له ورقة مطوية فى لفافة، لم تكن مزينة فقط كتب عليها: إلى نبيل بطريقة عادية، لا تثير شك، أو انتباه. 

قرأ نبيل الورقة المرسلة، وقد جاء فيها: 

الولد النبيه نبيل..

 مَرّ وقتٌ طويل أعرف ذلك، وأتمنى ألا تكون قد شغلت بالأمر أكثر من تدرُّبك على التفكير وطرح الأسئلة وإرضاء فضولك نحو المعرفة بنفسك وبهذا العالم كما عهدنا أن نفعل سويًا خلال أوقاتنا الأخيرة، لم أرغب فى تركك، وليس هناك من الوقت لأخبرك عن مبررات ذلك، قد يقودك السؤال يومًا ما إلى كل شىء، لكنّ شيئًا أساسيًا لا بُدّ أن يتحقق خلال الأيام المقبلة عليك الاستعداد له…

وقرأ نبيل فيما تبقى من الرسالة أن مغامرة جديدة سيبدأها بنفسه، مع درسه الأول فى مدرسة كان الرجل قد أوصى بتسجيل اسم نبيل بين طلابها. فتحقق لنبيل مستقبل مختلف عما كان يتصوره بظروف ونمط حياته الأولى. واعتاد طرح الأسئلة كلما تعثر فى فهم شىء، وقد فسَّر كثيرًا من الأشياء  بنفسه دون الحاجة إلى وحيد أو غيره، هذه المرّة وكل المرّات التالية التي سيكتشف خلالها أشياءً ومعانى أخرى متعلقة بالحياة وبالوجود وبنفسه دون أن يخبره بها أحد. 

ونظر نبيل ذات مرّة فى كتاب، بينما كان يبحث عن مادة تفيده فى فهم بعض الدروس، فوجد نموذجًا لإحدى اللوحات حيث يجلس رجل بملابس مطابقة تمامًا لملابس الرجل غريب الهيئة الذي كان سببًا لكل ما صار عليه الآن، كذلك كانت ملامحه وطريقة رفعه لإصبعه، وقد كتب تحتها "إعدام سقراط". 

فى ساعة شديدة الحَرّ استيقظ نبيل فجأة وكان يقاوم بعينيه ضوء الشمس المزعج أكثر من كونه منعشًا للروح والجسد، وقد تبللت ملابسه بفعل ارتفاع حرارة الجَوّ، وصار العرَق يسيل بتدفق من كل جسده، شابٌ فى الخامسة والعشرين، ينام بحديقة منزله ولا يفهم ما الذي أتى به إلى هنا، وكيف ارتمى بهذا الشكل على حشائش الأرض، وبين يديه كتاب فلسفى، لكنّ شيئًا لم يستطع أن يزيل من رأسه فكرة أنه قضى كل هذا الوقت مع سقراط الفيلسوف اليونانى الحكيم، وأن زمنًا طويلا يفصل بينهما لم يكن، فقد عاصره واقترب منه، وجمعتهما حكاية طويلة فكيف يتلاشى كل ما كان؟  

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز