عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
حضارة بليغ حمدى الغنائية "2"

حضارة بليغ حمدى الغنائية "2"

للموسيقار العملاق «بليغ حمدى» حضارة غنائية عظيمة.. حضارة لها لغتها الموسيقية الخاصة وعلومها ومقاماتها، وآدابها وفنونها الرفيعة.. على جدرانها نقشت أجمل الألحان سجلت أرقى الانفعالات الإنسانية، وعلى ضفافها مرحت موهبة وعبقرية أصوات خالدة وعملاقة عَبْرَ 33عامًا من الإبداع العظيم من سيدة الغناء العربى «أمّ كلثوم» إلى عندليب الغناء «عبدالحليم حافظ» والساحرة «نجاة» وإلى أميرة الغناء «وردة» بأعمال تمثل العصر الذهبى للغناء الجميل، آثارها ثمينة وباقية وعابرة لكل الأجيال، يحاول خبراءُ الموسيقى فك طلاسمها الإعجازية فى كل ألوان الغناء، ويقدم الكتابُ الماثل أمامى «بليغ حمدى سُلطان التلحين» للكاتب أيمن الحكيم إسهامات وأسرارًا كمحاولة لفهمها وتأملها.



 

حب إيه

 

لقاء سيدة الغناء أمّ كلثوم- (62 عامًا) فى ذلك الوقت- وحضاراتها الخالدة وحضارة بليغ اليافعة (28عامًا)، لقاءَ التقاء الحضارات، ولهذا فإنه وكما قال «الحكيم» فى كتابه «سلطان الألحان» دَبَّرَهُ القدَرُ وسجّله المؤرّخون على جدران مَعابد الغناء. هذا اللقاءُ التاريخى فى منزل الدكتور «زكى سويدان» أحد علماء الطب والصديق المقرّب لأمّ كلثوم وبحضور عازف الكمان المعروف «أنور منسى» والشاعر العملاق «مأمون الشناوى» والمطرب «عبدالغنى السيد» والمطرب الفلتة «محمد فوزى» وكان أشد المؤمنين بموهبة بليغ الملحن الصاعد.

يقول أيمن الحكيم: ليلتها غنّى «بليغ» مطلع أغنية جديدة تحت التلحين كلمات شاعر شاب اسمه «عبدالوهاب محمد» يعمل موظفًا فى شركة بترول، تقول كلماتها:

«حب إيه اللى انت جى تقول عليه.. انت عارف معنى الحب إيه لما تتكلم عليه»، وفى نهاية السهرة همست أمّ كلثوم فى أذُن «بليغ» الذي لم يكن عمره قد تعدّى الـ28 عامًا «فوت عليّا بُكرة الصبح»، وعلى لسان بليغ: «ذهبت إلى بيتها وليس فى ذهنى إلا تصوُّر واحد أن سيدة الغناء تريد أن أقوم بتلحين بعض الأغانى لابن شقيقتها إبراهيم خالد الذي يفكر فى احتراف الغناء آنذاك، وبالفعل ذهبت وقابلتنى بترحاب وتكلمنا بشأن إبراهيم واتفقنا أن أعمل له لحنًا، وبعد ذلك التفتت إلىَّ قائلة: تيجى نتسَلطن شويّة؟ وأعطتنى العود وقالت: سَمّعنى اللحن اللى غنيته إمبارح.. وبعد استماعها للمَذهب قالت: كلام مين ده؟، فقلت لها صديقى ويعمل بشركة شل للبترول واسمه عبدالوهاب محمد، ثم سألتنى: انت حافظ بقية الكلام؟ فقلت لها: لا؛ لكن ممكن نكلم عبدالوهاب.. ثم طلبته وقلت له ياريت تيجى فيلا الست أمّ كلثوم، فقال: يا أخى انت بلاش هزار.. وتناولت أمّ كلثوم السَّمَّاعة وقالت له: اسمع ياعبدالوهاب؛ خد تاكسى وتعال حالًا.

ويقول أيمن الحكيم: بليغ بعد رضا أمّ كلثوم عليه قرّر أن يكون بجوارها، فاستأجر شقة بالزمالك «أوضة وصالة» وفى هذه الشقة الصغيرة وُلدت أعمال خالدة صاغها بليغ لحنجرة أمّ كلثوم (حب إيه 1960، أنساك ياسلام لمأمون الشناوى 1961، أنا وانت ظلمنا الحب لعبدالوهاب محمد 1962، سيرة الحب لمرسى جميل عزيز 1964، كل ليلة وكل يوم لمأمون الشناوى 1964، بعيد عنك حياتى عذاب لمأمون الشناوى 1965، فات الميعاد لمرسى جميل عزيز 1967، ألف ليلة وليلة لمرسى جميل عزيز 1969، الحب كله لأحمد شفيق كامل1971، حَكم علينا الهوَى 1973).. فى 13 عامًا أشغالاً موسيقية شاقة وجميلة أسفرت 10 أغنيات مضافًا عليها رائعة «إنا فدائيون» 1969 من روائع الغناء العربى لا تزال باقية.

 تخونوه وحليم 

«بليغ حمدى» الذي قال فى مذكرات بصوته واحتفظ بها صديقه الإذاعى الشهير «وجدى الحكيم» حسبما قال «أيمن الحكيم» فى كتابه: المزيكا بالنسبة لى مش عمل أو مهنة؛ بل حالة حب.. وقال بليغ: نزلت من بطن أمّى بحب المزيكا، ولمّا دخلت كلية الحقوق- بناءً على طلب والدته- زاد ولعى.

فى كلية الحقوق قابل المطربة «فايدة كامل» زميلته فى الكلية، ولحن لها أول لحن «فاتنى ليه» استمعت له بالصدفة والإذاعة المصرية أطلقته والناس مش عارفة اسم الملحن وبسببها دخلت الإذاعة وبسببها بدأت أقتنع إنى أتفرّغ للتلحين.

ويصف «بليغ» علاقته بعبدالحليم بأنها علاقة خاصة جدًا فيها أسرار شخصية بحُكم إنه مثل الأخ، ويقول «بليغ» رغم صداقتى المبكرة بعبدالحليم ورغم سهرة كل يوم بمعهد الموسيقى، لكن التعاون كان متأخرًا وتحديدًا فى أغنية تخونوه- وهى عام 57 - رغم أن الأغنية لم تكن له أصلاً تأليف «إسماعيل الحبروك»، وعندما لحنها أعجبت بها الفنانة «ليلى مراد» وقررت تسجيلها لحسابها وإهداءَها للإذاعة حتى قابله المايسترو «صلاح عرام» وقال له: حليم عايزك وبيقولك هو عند المنتج رمسيس نجيب.

ويقول بليغ: رُحت لمكتب رمسيس نجيب ولقيت إسماعيل الحبروك هناك، وصمم حليم أن يأخذ الأغنية، وقلت: أنا مش موافق اللحن ده لليلى مراد لا يمكن أن أزعّلها لأنى بحبها وطول عمرى بموت فيها ولا يمكن التنازل عن الأغنية إلا لها، لكن عندما اتصلوا بها وأعطونى السماعة قالت لى: بليغ أعطِ اللحن لحليم.

رغم مشوار «بليغ» مع «عبدالحليم» التاريخى؛ فإنه يتوقف عند أغنية «أى دمعة حزن لا»، ويقول بليغ: ناس كتير بتكتب فى المزيكا وهى مش فاهمة حاجة فوقتها بيقولك الربع تون مقصور على التعبير المسرحى، وأنا أثبت جهلهم من خلال الأغنية فعملت مقدمتها من مقام السيكا لأبيّن لهم عكس ما كانوا يعتقدون، يعنى عبدالحليم وهو بيقول «أى دمعة حزن لا» كان وكأنه بيؤدى مسرحية، وأنا لمّا بدأت تلحينها كنت قاصد كده، وأكتر واحد حَسّ بما أقصده عبدالحليم نويرة، وقال: إيه اللى انت عامله فى الأغنية دى؛ انت عايز تقول إيه؟ فقلت له: عايز أعمل مسرح.. فرد نويرة: أنا حَسّيت بكده.. وكنا ناويين أنا وحليم نكرّر التجربة، لكن القدَر كان أقوى.

 دندنة

أمّا «وردة» شريكة كفاحه وحُبه الحقيقى والكبير- رُغْمَ زواجه الأول وقصة حُبه العابرة والقصيرة وزواجه من آمال طحيمر- التي أسفرت هذه العلاقة عن أعمال غير مسبوقة- فقال بليغ: لن أتكلم عن وردة الفنانة، فالكل يعرف موهبتها وقيمة صوتها، لكنّى أحب أن أشير إلى وردة الإنسانة والزوجة، أنا أخدت منها الحنان والدفء والرّقة والصّدق والحُب، وأنا بعتقد أن الفنان يعنى حُب واللى مفيش جُوّاه حُب مااعتقدش أن جُوّاه فن.

ويحكى «الحكيم» رواية عن بداية تعرُّفه بوردة: الواقع إنّى سمعت وردة وأعجبتنى قبل أن أراها، فقد أحضر لى أنور منسى عازف الكمان شريطًا من لبنان به أغانٍ لوردة وسمعت لها أسطوانة بصوتها مسجلاً عليها أغنية «يا ظالمنى» لأمّ كلثوم وأسمعنى الإذاعى جلال معوض حفلات لها فى دمشق، وأعجبنى صوتها وجذب انتباهى إلى أن جاءت مصر بدعوة من المخرج حلمى رفلة للقيام ببطولة فيلم (ألمظ وعبده الحامولى) واتصل بى الشجاعى لكى أقدم لها لحنًا، ولكنى طلبت أن أراها أولاً، وفعلاً التقيت بها وأعجبتنى شخصيتها وبدأت معها بأغنية «بحبك فوق ما تتصور»، ثم أغنية «يانخلتين فى العلالى»، وفجأة اختفت وقيل إنها ذهبت إلى لبنان أو الجزائر بعد عيد الاستقلال وبعد سنوات إلى أن جاء موعد الاحتفال السنوى بعيد ميلاد صوت العرب ودُعيت وردة للغناء فيه، وطلبت أن أجهز لها لحنًا للحفل، وكان «والله زمان يا مصر»، ثم «العيون السود»، ومنذ ذلك اليوم تلاقت قلوبنا وكان لا بُدّ أن نتزوج..

 ولقصة حب «بليغ» و«وردة» روايات أخرى لو تجمّعت فإنها تصلح أن تتحول إلى فيلم سينمائى كبير يرسم فصوله الأغنيات التي جمعت بينهما من «أحبك فوق ما تتصور» إلى «بودّعك».. أغنيات أحدثت ثورة كبيرة فى الأغنية العاطفية وأيضًا على مستوى الجُمَل اللحنية.

 فتوحات خالدة

فتوحات بليغ الموسيقية لتوسيع نطاق حضارته الغنائية شملت مساحات ليست فى مصر فقط؛ بل العالم العربى تنقل فيها قوالب عاطفية ووطنية وشعبية واستعراضية وأيضًا دينية احتوت اكتشافات نادرة من مصر والجزائر إلى سوريا وبلاد الشام مثل «عفاف راضى» و«ميادة الحناوى» و«سميرة سعيد».

بليغ قال: «أنا جيت الدنيا عشان ألحّن.. عشان فيه رسالة أؤديها.. قدرت أؤديها الله أعلم وأترك هذا للتاريخ».. والتاريخ يا بليغ كتب فعلاً وأعمالك قالت كلمتها بأنك الموسيقار الفَلتة والعملاق صاحب الحضارة والرسالة الغنائية الخالدة بـ 746 لوحة غنائية لم ولن تتكرّر.

 الثلاثى الخالد

نجح بليغ عبدالحميد حمدى مرسى، الذي كان يحلو لسيدة الغناء العربى لها أن تناديه بـ يا «ابنى»، فى التجديد والإضافة لكتالوج أمّ كلثوم الغنائى وإدخال آلات موسيقية مثل الأكورديون فى أغنية «سيرة الحب»، ولم تكن الفنانة العملاقة متزمتة؛ بل هضمت التغيير وانبهرت به فى 11 لحنًا لها حتى وصفه نقاد عصره بأنه صاحب الجملة الموسيقية المفيدة والمختصرة والخيالية.بينما قدّم أروع أغنيات أفلام عبدالحليم حافظ واستكمل هذا النجاح بالأغنيات الطويلة التي قدّمها له، مثل «أى دمعة حزن لا» و«حاول تفتكرنى» و«موعود»؛ بل إنه رسم مرحلة جديدة فى مشوار حليم وهى المرحلة الشعبية التي قدّم فيها أغنيات «على حسب وداد قلبى» و«كل ماقول التوبة» كإضافة لكتالوج حليم والذي بلغ 31 أغنية. بينما كان لوردة «أميرة الغناء العربى» نصيب الأسد من ألحان بليغ وبلغت 77 أغنية خلال فترة زواجهما التي استمرت 7 سنوات من 1972 حتى 1979.. ويقول شقيقه الأكبر الإعلامى الراحل د.مرسى سعد الدين: إن وردة كانت أكبر حُب فى حياته وفترة زواجه منها هى أكثر سنوات عمره توهجًا وإنتاجًا واستقرارًا.

ويلخص الكاتب الكبير كامل زهيرى، نقيب الصحفيين الأسبق، فى مقال كتبه خصيصًا لكتاب «أيمن الحكيم» قيمة بليغ بقوله: موسيقاه أكملت المُثلث الذهبى للأغنية الشرقية الحديثة مع محمد الموجى وكمال الطويل وإنقاذها من الجفاف بعد جيل زكريا أحمد ومحمد القصبجى ومحمود الشريف، والثلاثى الذهبى منحوا نهر الأغنية رافدًا جديدًا ليس فقط فى مصر بل فى الأمّة العربية. 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز