
حكاية الجبرتيين في إريتريا

د. إسماعيل حامد
يُشير المُؤرخون إلى أن "بلاد جبرت"، أو "جبرتة" كان يُقصد بها "مملكة أوفات"، إحدى ممالك بلاد الزيلع السبعة، وعلى هذا من الممكن حسب تلك الرؤية الحديث عن "جبرت" ضمن الحديث عن "مملكة أوفات" بإريتريا، غير أنه نظرًا لخُصوصية اسم "جبرت" وما ارتبط بهذا الإقليم من أهمية تاريخية، فقد آثر المؤلفُ أن يجعل لإقليم جبرت مبحثًا مستقلًا عن "مملكة أوفات"، نظرًا لانتساب العديد من العلماء لهذا الإقليم وانتسابهم إليه بالاسم، فعرفوا باسم "الجبرتية"، وقد كان منهم بالطبع "الجبرتي" المؤرخ المشهور، كما كان لهم رواق خاص بهم بالأزهر الشريف حمل اسمهم.
وتعتبر "جبرت" من أكبر المدن الواقعة في "بلاد الزيلع"، وتبلغ المسافة فيما بين كل من "جبرت" إلى مدينة "زيلع" (وهي كانت عاصمة "مملكة أوفات") فيما يقال عشرون مرحلة.
ويقال عن أصل جماعات "الجبرتية" أنهم كانوا ممن نزل بلاد الحبشة مع التجار العرب القادمين من بلاد اليمن وبلاد الحجاز، وتحديدا كانوا جماعة من بطون قريش من نسل الصحابي عَقيل بن أبي طالب، رضي الله عنه، وهو بالطبع كان أخا للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم إن هؤلاء المهاجرين الطالبيين سكنوا منطقة أو إقليم "جبرت" من "بلاد الزيلع"، ثم سموا بعد ذلك باسم الجبرتية.
وعن أصل سكان هذه البلاد يقول المقريزي: "اعلم أن أهل هذه الدولة قام بها قوم من قريش، فمنهم من يقول: هم من بني عبد الدار، ومنهم من يقول: إنهم من بني هاشم، ثم من ولد عقيل بن أبي طالب، قدم أولهم من الحجاز، ونزلوا أرض جبرة التي تعرف اليوم بجبرت، وهي من أراضي الزيلع، واستوطنوها، وأقاموا بمدينة أوفات..".
ولأن الله تعالى وهب قريشًا الحزم والحكمة، لأنهم كانوا أهل الشرف والسيادة في أيامهم، فقد تمكن هؤلاء المسلمون من ولد عقيل بن أبي طالب أو من يمكن أن نطلق عليهم تسمية: (الجبرتية الأوائل) من تأسيس وإنشاء أول دولة إسلامية في بلاد الحبشة، وقد جعلوا قاعدة حكمهم في منطقة "أوفات"، وهي "جبرت"، وقد نظموا إدارتها وأحكموا أمرها.
رُواق الجبرتية بالأزهر الشريف:
يُعتبر هذا الرواق من أهم الأروقة العلمية التي كانت موجودة ضمن الأروقة التي كان يشرف عليها الأزهر الشريف عبر حقب التاريخ الإسلامي المتعاقبة، وقد كانت تلك الأروقة العلمية مُخصصةً بصفة عامة لطلاب الأزهر الوافدين من شتى بلاد المسلمين، وقد حمل كل رواق منها اسم البلاد التي جاء منها هؤلاء الطلاب، ولعل من ذلك "رواق التكرور" (أو رواق التكاررة)، وكان خاصًا بطلاب العلم القادمين من بلاد وممالك غرب إفريقيا، أو ما كانت تعرف خلال العصر الوسيط باسم بلاد التكرور، وكذلك اشتهر "رواق دارفور" وكان مخصصا للطلاب القادمين من إقليم دارفور وما جاوره من الأقاليم السودانية الأخرى، مثل إقليم كردفان، وكذلك كان يوجد "رواق الكانم"، و"رواق سنار".. إلخ.
وعلى هذا كان "رواق الجبرتية" مخصصًا لطلاب العلم القادمين من بلاد (أو إقليم) "جبرت" خصوصًا، وكافة "بلاد الزيلع" وبلاد القرن الإفريقي، وكذلك للطلاب القادمين من بلاد الحبشة.
وكان والد المؤرخ الجبرتي شيخا لـ"رواق الجبرتية"، وكذلك صار ذلك اللقب ملازمًا لأسرة هذا المؤرخ لمدة تقارب ثلاثة قرون، وقد كانت "الجراية" المقدمة للطلاب المقيمين في "رواق الجبرتية" تبلغ كل يومين في بعض الأحيان قرابة واحدًا وخمسين رغيفًا حسب بعض الروايات.
السُلطان محمد بن أبي البركات الجبرتي:
لقد كان من بين الحكام والسلاطين الذي ارتقوا العرش في ممالك "بلاد الزيلع" وتحديدًا "مملكة أوفات" من كان ينتسبُ باسمه بشكلٍ واضح إلى هذا الإقليم (أي: إقليم جبرت)، ولعل من أبرزهم السلطان المدعو: "محمد بن أبي البركات بن أحمد الجبرتي"، وكان هذا السلطان ينعت بلقب سلطان المسلمين في بلاد الحبشة، وقد حكم هذا السلطان خلال الفترة التي تمتد من (828-835هـ/ 1425-1432م)، وكان حاكما تقيًا عادلًا، يحب الخير وكان له وقار وهيبة، وكان- فيما يبدو- ذا سطوة على بلاد الحبشة، ثم حكم أخوه هذه البلاد من بعده، وكان يحب الجهاد في سبيل الله مثل أخيه أبي البركات، وكان يحب مرافقة العلماء وأهل الصلاح، وكان ينشر العدل في حكمه، وأسلم على يديه عدد كبير من السكان في بلاد الحبشة.
المؤرخ الجبرتي (ت: 1241هـ/ 1825م):
يعتبر عبد الرحمن الجبرتي أشهر الأعلام ممن ينتسبون لـ"إقليم جبرت"، وهو ينتسب إلى أسرة كانت قد قدمت في الأصل من هذه البلاد، أي من بلاد الزيلع، وكان المؤرخ الجبرتي ممن كانوا معاصرين للحكم التركي لمصر، وكذلك من أهم من أرخ للفترة التي جاءت خلالها الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت سنة 1798م، وقد عاش الجبرتي تحديدًا خلال الفترة (1167-1241هـ/ 1754-1825م)، وينتسب إلى أسرة اشتهرت وذاع صيتها بالعلم، وقد هاجر جد هؤلاء "الجبرتية" من إقليم "جبرت" إلى مدينة القاهرة خلال القرن السادس عشر الميلادي (العاشر الهجري)، أي قبل نحو قرنين من الزمان من ميلاد المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي.
وكان والد الجبرتي المؤرخ، ويدعى الشيخ حسن الجبرتي من أبرز علماء الأزهر الشريف في أيامه، ويذكر الجبرتي أن أباه كان قد قدم عليه بعض الطلاب من بلاد الإفرنج وأخذوا عنه العلم، وكان من بينها علوم الهندسة.
وتلقى الشيخ عبد الرحمن الجبرتي تعليمه الأول في الكتاتيب بحي الأزهر، ثم انتقل للتعليم في المدرسة السنانية بمنطقة الصنادقية، ولم يكن قد تعدى العاشرة من عمره، ومن اللافت أنه التحق برواق الشوام ضمن أروقة الأزهر الشريف، حيث تلقى أصول المذهب الحنفي على يد معلمه الشيخ عبد الرحمن العريشي، وهو كان صديقًا لوالده في ذلك الوقت، وقد أتم "الجبرتي" حفظ القرآن الكريم وهو لا يزال صبيًا غضًا صغيرًا، وكان يبلغ عمره آنذاك الحادية عشرة.
وقد كتب المؤرخ الجبرتي أول مصنفاته في علم التاريخ باسم: "مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس"، فيما يبدو فور خروج الجنود الفرنسيين من الأراضي المصرية سنة 1801م، ثم قدم الجبرتي هذا الكتاب إلى الوزير يوسف ضيا باشا، الذي رفعه بدوره إلى السلطان العثماني (سليم الثالث) فأعجب به وأمر بترجمته إلى اللغة التركية.
ثم أراد "الجبرتي" أن يجمع التراجم والأخبار التي كان قد دونها من قبل في كتاب يضم عدة أجزاء نظرا لكثرة ما كان قد كتب منها، وكان ذلك في أيام حكم والي مصر محمد علي باشا (1805-1848م) باسم: "عجائب الآثار التراجم والأخبار"، وقد امتدت الأحداث والتراجم التي كتب عنها حتى أيام تولي محمد علي باشا حكم مصر في سنة 1805م، وقد تعرض المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي لحملة شديدة من جانب البعض، كان منهم محمد الدفتردار، صهر محمد علي باشا، الذي قام بقتل ابن الجبرتي، المدعو "خليل"، وهو ما أحزن والده وجعله يكف عن الكتابة، وما لبث أن أصيب الجبرتي بالعمى، ثم مات في سنة 1825م.
أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الإفريقي