عاجل
السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
المثقف والسلطة.. أحمد بهاء الدين نموذجاً! (2/3)

المثقف والسلطة.. أحمد بهاء الدين نموذجاً! (2/3)

تسمرت في مكاني مع خبر سفر الأستاذ بهاء للكويت. انتظرت هنيهة، استسلم إلى الاستغراب المرسوم على وجهي، خرجت الكلمات متدافعة من بين شفتي: "الكويت.. قلت الكويت"؟ تنهد، تنهيدة مكروب: "وإلى رئاسة تحرير مجلة "العربي" خلفا للدكتور أحمد زكي".



جرحت عينيه دمعات تجمدت فيهما، استرد بسرعة وقاره، تحفز، قطب، تاهت يده في الفراغ، تقوّى بنبراته: "حافظت في كل الظروف على إبداء رأيي بأمانة واستقلال، وكنت أرى، كما كنت تلاحظ، إنه إذا تعذرّت الكتابة بسبب الرقابة، امتنعت وكتبت في قضايا أخرى مثل التاريخ أو السياسة الدولية، لكنني في كل ظروف الثورة، أعتز بأنني لم أكتب غير ما أعتقد، مخطئا كنت أم مصيبا". رمقني بنظرة عجلي، وذاكرته لم يرهقها التذكر، ولم يُغيّب الزمان الحقائق: "أتذكر جيدًا، أنني كتبت "أيام لها تاريخ" في مرحلة كانت الرقابة فيها بالغة الشدة، وقد قصدت فيه تذكير الناس ان مصر لم تولد من رحم ثورة يوليو، بعدما تمادى المتنفعون والمتملقون للقضاء على الماضي".

 

خرجت من عينيه نظرة غضبى، رشها على وجهي: "كان ذلك في عام 1954 أثناء "أزمة مارس"،وكنت أريد أن أقول أيضًا، إنه لا بد للبلد من دستور ومن حد أدنى من الديمقراطية، على الرغم من توافقي على الاتجاهات الاجتماعية الأساسية للسلطة الجديدة".

أخذت عنه الكلام: "فاستعنت بالتاريخ لإيصال أفكارك، من دون أن تجعل الرقيب يحذف أو يمنع. فجاءت فصول الكتاب، إذا لم تخُني الذاكرة، تتحدث عن حرية الرأي، وضرورة وجود الدستور من خلال قصص ومواقف من تاريخ مصر الحديث". هتف، فرحًا: "صحيح... صحيح". بعد ثورة "الضباط الأحرار" في 23 يوليو 1952، انبرى كثير من المثقفين والكتاب والصحافيين إلى الاقتراب من السلطة الجديدة، وبعضهم تمادى إلى حد الالتصاق بتلك السلطة، وبعضهم الآخر إلى حد الالتحاق، والقلة القليلة، حافظت على درجة من الاستقلالية في الرأي، فانحازت مواقفهم إلى قناعاتهم، وحدها، من دون خوف ولا وجل من إغضاب تلك السلطة. وكان أحمد بهاء الدين من عجينة هؤلاء، فكانت علاقته من السلطة متَّسِقة ومتماهيةً مع رؤيته للأمور وقناعاته، ومنطلقًا، في تلك العلاقة، منذ أن بدأ يغمس القلم بالحبر ويجرجره على الورق، من منتصف الأربعينات حتى دخوله في الغيبوبة التي أماتته،من مشروعه التنويري، الليبرالي.. ولا غرو، فهو الابن البار لليبرالية المصرية، ظل همه في كل ما كتب ودبج وصاغ، البحث عن جماليات الديمقراطية، التي تمزج بين الوطنية، والمعرفة، والقدرة على التحليل، ثم النفاذ إلى المستقبل. وأذكر، فيما أذكر، ويجب ذكره ها هنا، أن محمد فائق، الذي كان تولى حقيبة "الإرشاد القومي" (الإعلام فيما بعد) في الحكومة التي شكلها جمال عبد الناصر بعد استفتاء 30 مارس سنة 1968.

 

قال على الملأ: "إن أحمد بهاء الدين، كان في كل ما كتبه عن سياسة الدولة، متفقًا معها، كان يكتبه من قناعاته، ومن دون أي معلومات، أو تعليمات، بينما كانت تعليمات الرئيس عبد الناصر لنا: يوضع محمد حسنين هيكل في الصورة بشكل دائم".

 

وعلى ذلك، تكون مقالات هيكل مُوحى بها، ومزودة بكل المعلومات، وما يُراد تناوله وطرحه وتعميمه في الداخل والخارج، بينما مقالات أحمد بهاء الدين، مصاغة، انطلاقا من قناعاته، ورؤيته المستقلة.

 

كان أستاذي وصديقي كامل زهيري، يردد أمامي: "بهاء الدين، ضحية استقلاليته الدائمة، وهو أنموذج للعلاقة بين السلطة والمثقف". ويُشيح الزهيري بوجهه بعيدًا، وينتشي بكلماته: "أحمد بهاء الدين، وصفته دائمًا بأنه "كيميائي الكلام"، فهو يستطيع أن يلخص الموقف بكلمتين، ومن دون تطويل وتزويق باهت، مصطنع، وهو يصك العبارات الدقيقة كأنه جواهرجي".

 

وكامل زهيري كان على صواب، فأحمد بهاء الدين هو صاحب تعابير كثيرة، دخلت لغة الصحافة، وباتت على رأس كل قلم ينزل على الورق، منها "الدولة العصرية"، "الدولة المدنية"، "دولة القانون".

 

وقد أخذها الرئيس السادات عنه، "الفجوة الحضارية".. لم يمنعه تأييده المتحمس للرئيس جمال عبد الناصر من المواجهة غير المحسوبة معه، وتطلع من الذاكرة ما حدث في 28 فبراير سنة 1968.

 

كان أحمد بهاء الدين، في هاتيك السنة، نقيبًا للصحافيين،فعقد مجلس النقابة اجتماعا طارئًا لمناقشة تظاهرات الطلبة الجامعيين الذين افترشوا الشوارع، احتجاجًا على نتائج محاكمة قادة سلاح الطيران، وقد حمّلوا عبد الناصر مسؤولية"نكسة" يونيو 1967.

 

وبعد الكثير الذي نزل على الكلام في الاجتماع، استقر رأي المجتمعين على إصدار بيان يساندون فيه تظاهرات طلبة الجامعات، ويدعمون احتجاجات العمال في المحافظات شتى،باعتبارها "تعبيرًا عن إرادة شعبية عامة تطالب بالتغيير على ضوء الحقائق التي كشفت عنها النكسة، وبناء عليه يجب الإسراع في حساب كل المسؤولين، وتعميم الحساب ليشمل كل القطاعات والمؤسسات في البلاد.

ويجب توسيع قاعدة الديموقراطية، والإسراع في إصدار القوانين المنظِّمة للحريات العامة، وإجراء انتخابات اللجان النقابية ومجالس النقابات التي تجمدت، وحُرمت من حقها في انتخاب قياداتها، وتحقيق العدالة في توزيع الأعباء المترتبة على الاستعداد لإزالة آثار العدوان".وقّع أعضاء المجلس ومنهم كامل زهيري، محمود المراغي وعلى حمدي الجمّال على البيان.

 

وقبل إصداره تلّقى أحمد بهاء الدين اتصالًا هاتفيًا، كان على الطرف الآخر محمد فائق،يطلب منه عدم توزيع البيان.. فرد أحمد بهاء الدين بلهجة حاسمة: "آسف يا سيادة الوزير،القرار ليس قراري وحدي لكنه قرار مجلس النقابة".

 

وانهالت الاتصالات عليه، وكان رده هو الإصرار على توزيع البيان. ويتصل على صبري، ويقول بلهجة معتدة: "يا أستاذ أحمد، بوصفي أمين الاتحاد الاشتراكي، أرجوك عدم إصدار البيان وتوزيعه".فجاء رد أحمد بهاء الدين حاسمًا، ومعتدًا هو الآخر: "إن الاتحاد الاشتراكي قد يكون يملك مؤسسات صحافية، إلا انه لم ولن يملك نقابة الصحفيين". ولم يتردد لحظة واحدة، أو يعيد النظر، جلس إلى طاولة السكرتيرة، مرّر ورقة على محدلة الآلة الطابعة وجمع أحرف البيان.

في صباح اليوم التالي، كانت هناك نسخة من البيان على مكتب الرئيس عبد الناصر، الذي لم يخفِ لمحمد حسنين هيكل، ولمن اجتمع معهم في ذلك اليوم، أن البيان "طعنة موجهة إليه" من "نقابة الصحفيين"، فانتفض شمس بدران،واقترح اعتقال أحمد بهاء الدين وكامل زهيري، ومعهما عدد من أعضاء مجلس النقابة، إلاّ أن الرئيس جمال عبد الناصر، الذي كان يقدر، ويتفهم "استقلالية" أحمد بهاء الدين، رفض الاقتراح قائلًا: "لأ.. ده أحمد بهاء الدين وأنا عارفه مخه كده". ولأن "مخه كده"، كان الصدام مع أنور السادات، وتكررت علاقة المثقف مع السلطة، ويذهب أحمد بهاء الدين ضحية تلك العلاقة، وضحية استقلاليته في الفكر والرأي مرة أخرى. بعد حرب أكتوبر سنة1973 بأشهر معدودات،مرّر رئيس الوزراء عبد العزيز حجازي القرار رقم 34 الذي قضى بفتح الاقتصاد المصري لرأس المال العربي والأجنبي في شكل استثمار مباشر، من دون وضع استراتيجية تلحظ ردود الأفعال الشعبية.

فكتب بهاء الدين مقالًا في "الأهرام" في 12 يوليو 1974 بعنوان "الانفتاح ليس سداح مداح"، هاجم فيه النظام وتوجهاته الاقتصادية الجديدة، التي غلّبت الانفتاح الاستهلاكي على الانفتاح الإنتاجي، واعتبر فيه، وهو على صواب،إن التحولات التي تقررها الدولة، على أي صعيد، يجب أن تكون مدروسة، ولها خطة معروفة ومُعلنة، وتراعى الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية لقرارها. كان للمقال رجع صدى، في الأوساط السياسية والشعبية، أزعج السلطة وهزّها، واعتبره رئيس الحكومة، في ذاك الزمن، عبد العزيز حجازي،أنه يحّرض على "الشَغَب"، وتوجه إلى الرئيس أنور السادات يشكو إليه من الحالة التي تولدت في الشارع نتيجة هذا المقال، فقرّر السادات، بعدما راجع المقال، وناقشه مع حجازي،منع بهاء الدين من الكتابة.. ظن "الأستاذ" أن السادات أمنّه، وجعل له في ذمته عهدًا، ليجد أن "الريس" أوصد باب النقاش.

 

ورفض استقباله، أو سماع وجهة نظره، في اعتراضه على القرار رقم 34،وعلى الأسلوب الذي جرى به تطبيق "سياسة الانفتاح"، والانتقال، من دون تمهيد، من الاشتراكية المنغلقة، إلى الرأسمالية المنفتحة! وتابع أحمد بهاء الدين انتقاد سياسة السادات، فرفض وصفه تظاهرات 18 و19 يناير 1977 بأنها "انتفاضة الحرامية".

 

كما عارض اعتقالات 5 سبتمبر 1981 وخلال علاقته بالسادات، التي استمرت ثمانية أعوام، صادقه "الريس"،مرارًا، وشاوره، وتلقى منه النصح، وبادله الآراء،ونقله من منصب تنسمه عقابًا، وفَصَله من العمل الصحفي مرة، ومنعه من الكتابة مرتين، وكان هذا التأرجح في العلاقة ضريبة المثقف في علاقته مع السلطة، وكان أحمد بهاء الدين، كما قال زهيري، "أنموذجًا".

 

مالي أنا، وذاك الاسترسال، هزني الصوت في داخلي، سمعت "الأستاذ" يسألني، كأنه عرف طوال الوقت، ما أثاره في خاطري من شؤون، كنت أحسب أنها في غربتي طواها الزمن، وطافت في رأسي وجوه كثيرة، ما عدت تثبّتُ ملامحها. "دع الزمان للزمان، والماضي للماضي". شدّ انتباهي: "تعرف، إن أجمل ما في أدبيات الأرمن هذا القول: "أعط من يقول الحقيقة حصانًا، سيحتاج إليه ليهرب". تناول فنجان الشاي الصيني المعّرق، ارتشف بضع جرعات، بدا وجهه ودودًا كعادته: "سيبك مني أنا.. انت إزيّك، مبسوط في بيروت، مرتاح في عملك، اسمع مني، استفد من بيروت إلى آخر مدى، فهذه المدينة عندها الكثير لتعطيه". مصَّ شفته السفلى، ثم أكمل الكلام: "تعرف.. الحكام العرب يخافون من بيروت، يريدون التخلص منها.. كل من عارض، واضطهد، فتحت له صدرها، كل من أراد أن يقول شعرًا، نثرًا، أن يضرب إزميلًا في حجر، أو ريشة على قماش، أن يحتج، أن يصرخ، يجد في بيروت مكانًا للتنفس، للصراخ، للنحت، للرسم.. بيروت هايد بارك، مفتوح على كل الآراء، والعقائد، والتيارات التي تتصارع وتتلاقح، وتولد الأفكار، دِلّني على عاصمة عربية واحدة تسمع فيها في الشارع، في المقاهي، في البيوت، والمدارس كل لغات الأرض.

كما تسمعها في شوارع ومقاهي بيروت، ومدارسها، وفي بيوت اللبنانيين". لوّن صوته بالأسى: "لم نفكر لحظة واحدة، أن يكرس عبد الناصر، بجلالة قدره، جزءًا من إحدى خطبه، للحديث عن رواد مقاهي الأرصفة في بيروت، وخصوصًا مقهى "دولتشي فيتا".. إلى هذا القدر كانوا يخافون من بيروت، وإلى هذا القدر يريدون التخلص منها". قطعت عليه استرساله، رميت الكلام على عواهنه: "في الإمارات، تنبت هذه الأيام بيروت أخرى".. تكور لساني في حلقي، اكتفى "الأستاذ" بكلمة، اختصر فيها كل شيء: "ابحث عن الإنسان، الإنسان اللبناني خَلَق بيروت... وفهمك يا صديقي كفاية". غامت الأشياء في عيني، ضيعت توازن أفكاري.

 

أعدت ترتيبها، تفطنت أنني أحمل في حقيبة اليد، ما نويت أن أستشيره به. سحبت من الحقيبة "ماكيت"،لمشروع مجلة كنت أحلم بإصدارها، تهتم بشؤون المراهقين والمراهقات، فهذه الفئة العمرية لا يوجد من يخاطبها، فمعظم المجلات التي كانت تصدر متخصصة لفئة رياض الأطفال، فعنّ على بالي إصدار مجلة تتناول قضايا المراهقين سميتها" 11-14".

أعجب الأستاذ بالفكرة والتصميم الجذاب بحجمه المميز "مربع" الشكل، ونصحني بأن تكون المجلة للفئة العمرية 12-18، ففترة المراهقة متأخرة عندنا، وتختلف في بلادنا عن دول العالم، إضافة إلى ضرورة أن يساير المحتوي قدراته العقلية من خلال تفهم طبيعته السيكولوجية، وأن تقوم بعرض القدوة والمُثل العليا التي يقتدي بها، وزيادة حصيلته اللغوية وتنمية مهاراته، وتقديم الجرعات المناسبة من المعارف والعلوم وتنمية التذوق الإبداعي والجمالي، إن في الموسيقى أو الفنون الأخرى.

 

 

وبقيت الفكرة.. فكرة ولم ترَ المجلة النور. في العادة، لا نطيل المكوث في مقهى الفندق طويلًا، أمتع الأوقات عند "الأستاذ" المشي في "كورنيش المنارة"، وصولًا إلى "دولتشي فيتا"، بادرته: "أطلنا الجلسة.. ما رأيك لو كان الغداء اليوم في مطعم "فيصل"، الذي تحبه". ابتسم، وهو يدير نظره في المكان: "عال.. فكرة مش بطالة، هل تسمح بأن أدعو الدكتور أمين الحافظ وزوجته الروائية ليلى عسيران للانضمام إلينا، فتوفر على زيارتهما ووداعهما قبل سفري؟". "قوي.. قوي". اتصل بهما، و... خرجنا.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز