عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
المجلة لبنانية والمال .. ليبي!

الغربة الأولى 21

المجلة لبنانية والمال .. ليبي!

رَفَعَ أمين الأعور نظره عن الورقة المبسوطة أمامه، تَنَحْنَحَ، نزلت السماعة من أذنه لتستقر في مكانها على الآلة السوداء اللون. طوى الورقة بتعجل لافت، كأنه يريد ألا تسقط الكلمات منها. انتصب واقفًا، قصير القامة، نحيف البنية هزيلها، خفيف الشعر أجعده، وجه دقيق القسمات، عينان صغيرتان باهتتان تدوران في محجريهما خلف نظارة.



 

فضحه ارتباكه، أزاحَ نظارته عن عينيه، مَسَحَ زجاجها بمنديل ورقي، أعادَ تركيزها على أرنبة أنفه. تَرَكَ على شفتيه الدقيقتين ابتسامة عابرة، لكنها بدت مُرحبة.. شعرت أنه يحاول أن يُلْبِس وجهه هيبة المنصب ووقاره، وأن يفرضهما على من اللقاء الأول، بدأ هذا الشعور وئيدًا، ثم أخذ يتعاظم، فأدركتُ أنه، على الرغم من نقاء السريرة ولين العريكة، يعاني من رغبة ملحاحة في الادعاء، وحب الظهور والتعالي، وهو في ذلك كله يتوكأ على نَسَبه الأصيل، فهو من دوحة آل الأعور، كبراء "قرنايل"، ومن هامات "الموحدين الدروز" في الجبل والشوف.

 

منهم برز القاضي، والنائب، والوزير بشير الأعور، الذي سار ذكره كل مسير، وكان له مكان ومكانة في السياسة اللبنانية.

 

دخل البرلمان عن دائرة المتن الجنوبي في قضاء بعبدا، منذ 1951 حتى مماته سنة 1989، وجلس على مقاعد الحكومة، حاملا حقائب وزارية عدة، وخارجها، كان بشير الأعور، "الاستاذ الأعظم "Grand Master للمحفل الماسوني الأكبر السوري اللبناني، فعمل على دمجه بمحفل "الشرق الأكبر" اللبناني.

 

لما اشتد ساعده في العلم، تصدر أمين الأعور الذاهبين من أترابه إلى "المدرسة الداوودية" في "عيبه" (بلدة تبعد عن بلدة عاليه 15 كيلومترًا، وعن بيروت 22 كيلومترًا، وتعلو 800 متر عن سطح البحر)، فالتقى فيها نسيبه الأمير على ناصر الدين، فاستهدى إلى سبله في خططه الجهادية في فلسطين، فانتسب إلى "عصبة العمل القومي"، التي كان أسسها النسيب المناضل. ولبّى أمين الأعور النداء، فتطوع فيما سمي وقتها، "جيش الإنقاذ"، الذي قاده فوزي القاوقجي (التركماني الأصل) في محاولة لمنع سلب فلسطين وقيام الكيان اليهودي. انكسرت نصال ذلك الجيش، وتفرق فرسانه، وانهزم العرب، وطارت فلسطين.

 

خلال إحدى المعارك، أصيب أمين الأعور إصابة بالغة أوجبت نقله إلى "مستشفى الجامعة الأمريكية" في بيروت، فأبلى بعد شهرين ويزيد من المعالجة.

 

غلب على أمين الأعور الميل الحاد إلى الماركسية- اللينينية، فوجدَ في "الحزب الشيوعي اللبناني"، متنفسًا لحال اليأس، بعد الانكسار والهزيمة في فلسطين. فانتسب إليه سنة 1949، وأخذ يتشرب تعاليم كارل ماركس، ودُهِشَ بما اتخذه فلاديمير لينين بعد ثورة 1917 من قرارات لبناء روسيا.

 

في صفوف الحزب، تنبه فرج الله الحلو لموهبة أمين الأعور في الكتابة. وكان الحلو من القادة البارزين في الحزب، ومن كتاب المقالة المعدودين، وآثاره منها كثير، فراح يُنمي ملكة الكتابة عند أمين، ويسهر على تدريبه على العمل الصحافي، فتخرج به، وبدءًا من سنة 1950، راح أمين الأعور يكتب في جرائد الحزب ومجلاته، واستمر ينسج على نفس المنوال حتى سنة 1967. عمل على إصدار جريدة "الصفا"، التي كان نشرها أولًا في بيروت الامير على ناصر الدين سنة 1886، إلاّ أنه تعثر في إكمال إصدارها، فتوقفت عن الصدور سنة 1985، لتؤول فيما بعد إلى رشدي المعلوف، صاحب "مختصر مفيد" أشهر تعليق سياسي في الصحافة اللبنانية، ولا أبالغ إن قلت العربية رمّة.

 

وعاد أمين الأعور يحمل قلمه ويندار به على جرائد ومجلات ذياك الزمن، فكتب في جريدة "المحرر" (أصدرها وترأس تحريرها هشام أبو ظهر)، ثم في مجلة "الحوادث"، وراسل عددا من المجلات المهجرية. و..أتاه الحظ، وبَسِمَ له الدهر فأفاد منه.

 

في منتصف سبعينيات القرن الماضي، كانت بيروت لم تزل تؤدي دورًا متفوقًا في حياة الشرقين الأدنى والأوسط، الثقافية والعلمية. فإضافة إلى جامعاتها ذات المستوى العالي اللائق والمرموق، ومدارسها، ومعاهدها، وأكاديمياته.. كانت الصحافة اللبنانية عمومًا، والبيروتية خصوصًا، التعبير الحي والفاعل، عن هذا الواقع الثقافي المتنوع، المنير، والمستنير.

 

وقد ساعد مناخ الحرية الذي رفل فيه لبنان، ولم يزل (على الرغم من عمق الأزمة السياسية التي يرزح تحت نيرها( على نمو وتفوق الصحافة، عن غيرها في المنفسح العربي الوسيع، فكانت "هايد بارك" العرب، أو "سوق عكاظهم" (كما سماها رياض طه ذات مرة خلال جلسة أُنس ودردشة) مفتوحة على كل التيارات الفكرية والعقائدية المتناحرة، والمعتقدات المتشابكة، تتخاصم الأنظمة على صفحاتها، وتتناطح فيها الأفكار السياسية والأيديولوجية، والتيارات والمدارس الفنية على تعددها واختلافاتها.

 

في هذا المناخ الصحفي والسياسي المنتعش، وصل إلى بيروت آتيًا من "طرابلس الغرب" مصطفى بزاما، مُرسل من القيادة الليبية لتأسيس "مركز دراسات"، وتمويل إصدار جريدة يومية، ومجلة أسبوعية.

 

وكان من قدّم طلال سلمان إلى ذلك الليبي الحامل معه "المن والسلوى" (راج أيامذاك، أن النقيب رياض طه، وهو بلديات طلال سلمان، ورفيق درب وعمر ومهنة، هو الذي سعى إلى تفاهم الرجلين، وإتمام الصفقة بينهما، وأترك الكلام على ذمة من روى، والله أعلى وأعلم) وكان اللقاء، وطال الكلام وطاول المهمة التي جاء الليبي لبيروت من أجلها، فأبدى طلال سلمان رغبته في إصدار جريدة يومية، لكنه يريدها مستقلة، مستقيمة الرأي، ليست تابعة لدولة، أو نظام، أو زعيم، والجريدة قد تحابي العقيد، ولكنها ليست له بكليتها.. ولاؤها لنفسها، ولِما تجد فيه الحق والخير والجمال. وحسم طلال سلمان الأمر: إن كان من عون ومَدَدٍ، فليكن بصيغة "قرض طويل الأجل"، يُسدد دفعات سنوية.

 

غاب مصطفى بزاما، اتصل، شاور، استشار، وسمع الجواب: أن اعقد الصفقة. فحصل طلال سلمان على مليون وثلاثة سبعين ألف دولار عدًا ونقدًا. فبدأ يبحث عن شراء امتياز لجريدته المزمعة.

 

عثر في جداول "نقابة الصحافة" ضمن الامتيازات السياسية المعروضة للبيع، امتياز جريدة "بيروت المساء"، التي كان أصدرها السياسي اللبناني عبد الله المشنوق في سنة 1946، وآل الامتياز إلى ورثته بشخص عبد اللطيف المشنوق. فتفاجأ طلال سلمان أن أمين الأعور، خصمه في السياسة، والفكر، والصحافة، قد سبقه واشترى الامتياز، وأنه عَقَدَ صفقة مع مصطفى بزاما، نال أمين الأعور بموجبها مليون دولار ويزيد لإصدار مجلة أسبوعية!

 

وعاد طلال سلمان إلى البحث عن امتياز، فجاء من عرض عليه امتياز "السفير"، فاشتراه.

 

وبينما كانت الجريدة "جريدة لبنان في العالم العربي وجريدة العالم العربي في لبنان"، كما وضع لها طلال سلمان شعارها، وتتمتع بهامش كبير من الحرية، وإن كانت تحابي العقيد وجماهيريته، فمن خانة "العروبة" و"القومية العربية"! كانت المجلة ترفع لواء صاحب طرابلس الغرب، وتحارب بسيفه. تعثّر عدنان حطيط في حركات يديه، وهو يضع على طاولة مكتبي سلخ المقالات والتحقيقات المصححة والجاهزة، مرفقة بالصور الفوتوغرافية، لتصميمها، وفقًا لخريطة العدد Flat Plan التي تحدد الصفحات، وتوّزَع عليها المواد التحريرية.

 

كانت تجربته الأولى في سكرتارية التحرير، على أن عدنان حطيط كان نافذ الفطنة، حاضر البديهة، ملسانًا، يسمع ليفهم، ويخطئ ليتعلم، فاكتسب بسرعة "سر المهنة" كما كان يسميها، ويبتهج في أغوار نفسه.

 

لأول مرة، شعرت بالراحة النفسانية، وأنا أصمم وأرسم، وألوّن.

 

وأدركت، لأول مرة أيضًا، المعنى الحقيقي العميق للحرية في العمل الصحفي، فلا حسيب، ولا رقيب، يحمل قلمه الأحمر، وفي عينيه يسكن ذئب، يفتش عن فريسة، لينقض عليها، ويمزّقها إربًا.. إربًا. ويبدأ صرير قلمه، يمنع، يشطب، يلغي، فلا يجادل، ولا يناقش، له الحول والطول، وهو السيد المطاع،، كما كان يحدث في "روز اليوسف" و"صباح الخير".

 

وأذكر، فيما أذكر، من الأيام الخوالي، أنه مرة، في يوم الإجازة، استدعيت على عجل للحضور إلى مكتبي في "صباح الخير"، لأن "الرقيب"-وقتها، في الستينيات- لم يقرأ "موضوع الغلاف"، ولم يوافق على نشره!

 

فتركت البيت، ولم أعد إلا بعد منتصف الليل.. بعدما أتمَّ "المكتوبجي" (رئيس قسم المراقبة) مراجعة المقال، فحذف، وبدّل، وغيّر.. فوجدت نفسي أعيد تصميم الصفحات، والفراغ الذي تركه الحذف والتغيير، احتلته الصور، ولم يغادر إلاّ بعدما أنجزت التصميم، فأعاد مراجعة الصفحات، ليطمئن قلبه، كما همهم. ونال العدد رضاه، ليمتثل، كما أراده، أمام الطابع، ويخرج إلى الناس الذين لم يعرفوا، مرة واحدة، مدى المعاناة التي نكابدها، لوضع نسخ المجلة بين أيديهم.

 

كل يوم كان يمضي على في "بيروت المساء"، وكلما خالطت الصحفيين والكتاب اللبنانيين، على اختلاف مللهم، ونِحلهم، ومشاربهم، كنت أفهم لماذا تفوقت الصحافة اللبنانية على غيرها في العالم العربي، ولماذا قامت الصحافة العربية، بمعناها الحديث، على أيدي اللبنانيين الذين كانوا أول من مارس مهنة المتاعب، ممارسة فعالة، وعلى نطاق شعبي واسع، إن في لبنان الصغير، أو في طول وعرض المنفسح العربي، وشتى بقاع الأرض.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز