عاجل
الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
"يا فرحة.. ما تمت"!

الغربة 18

"يا فرحة.. ما تمت"!

كانت نظارته الطبية، بين الفينة والفينة، تنزل عن أرنبة أنفه، فيعيدها بإصبعه، بلع الدكتور محمود الشنيطي ريقًا باردًا تجمع في حلقه، استجمع أنفاسه وأفكاره، لهنيهات أصبح وجهه بلا ملامح:



 

"لقد حاولت، بجهد مضنٍ، تخطي البيروقراطية العفنة، لتنفيذ فكرة فرع بيروت، لأنني أعرف جيدًا، وقد لمسناه جميعنا من كتب توفيق الحكيم، أن فرع بيروت وحده، بما للعاصمة اللبنانية من مكانة وأهمية، قادر على نشر الثقافة المصرية خارج حدود البلاد، إلى المجال العربي الرحب، وتقديم كنوز الفكر بشكل مميز ومنافس". أزاح نظارته عن عينيه، مسح زجاجهما، أعاد تركيزها على أرنبة أنفه، استرد نفسه وتابع:

 

"تفاجأت، ذات صباح، باتصال سيد صادق أبو النجا، وطلب أن نلتقي، ما ساورني في الظن ظن آثم، وما فكرت لحظة واحدة، أنه طلب اللقاء ليقوض أحلى إنجازات الهيئة من سنوات طويلة."

 

مدَّ يده، رفع كوب الماء، سكبه في جوفه، تنحنح، سعل، مسح فمه بمنديل سحبه من جيب سترته، تغيرت ملامح وجهه وهو يروي ما كان وحدث:

 

"ما كاد سيد أبو النجا يحتسي أول حسوة من كوب الشاي، حتى فوجئت به يفتح خريطة لمحافظة "الجيزة"، ويضعها على طاولة مكتبي، ثم سحب قلمًا حبره أحمر، فرسم دائرة حول الأرض في منطقة "فيصل"، لملم علامات الاستفهام من وجهي وقال إن تلك الأرض ستتحول إلى منطقة حرة، معفاة من الأعباء الضريبية، ومتمتعة بالامتيازات والتسهيلات كافة التي يسمح بها القانون، ولم تعطَ لأحد. وفي هذه المنطقة، يمكن لهيئة الكتاب أن تنفذ مشروعها الطموح، بدلًا من تنفيذه خارج مصر، فالمنطقة الحرة، تلك، تمتاز بما تمتاز به بيروت وأكثر، وانتهت المقابلة بأن طلب مني التفكير بالأمر، وألا أطيل أمد الرجعة إليه بالرد".

 

سقط نظره على وجهي، سحبني صوته من الغرق في الصور المتدافعة والمتلاطمة في رأسي، استحوذت المفاجأة عليّ، جفّ حلقي، انغمس قلبي، رميت نظرة عجلى على إسلام شلبي، الذي ظل هامدًا، ساكنا، تائه النظرات، غير مصدق لما يسمع، وضَحَ الاضطراب على وجه إسلام، كاد الدم ينفرُ من وجهه، امتقع وجه الدكتور الشنيطي، استرد بسرعة وقاره، تحفز، قطب، تغيرت نبرات صوته:

 

"رفضت، تمنعت، ومانعت، ووقف إلى جانبي أعضاء الهيئة جميعهم، وكان الرد الناجز، المبرم منا، بالرفض القاطع لعرض سيد صادق أبو النجا، والإصرار على بقاء فرع بيروت، وتعزيز إمكاناته، وإكمال برنامج النشر والطبع في مطبعة الهيئة، والتوزيع من العاصمة اللبنانية، بعدما أثبت المكتب، بشهادة جميع القائمين في الهيئة ووزارة الثقافة على جودة ما أنتجه مكتب بيروت".

 

وَشَّحَ الدكتور الشنيطي نبرته بالانكسار، وبرنّة حزن، فهو ما ظن أنه سيأتي اليوم الذي تُكسر فيه كلمته، ويُرغَمُ على قبول ما لا يقبله، ويراه في قرارة نفسه خطأ:

"قابل سيد صادق أبو النجا رفض الهيئة لما جاء يعرضه، بأن استغل نفوذه، وبكل ما أوتي من تكبر وتجبر، وما له من نفوذ لدى أولي الأمر النافذين والمتنفذين، فأوقف تحويل قيمة الآلات لتجهيز المطبعة في بيروت". تلعثم، غاصب الدكتور الشنيطي الكلام، وصلنا صوته مخنوقًا بالانفعال:

"إننا، والحال هذه، لن نستطيع صرف ميزانية لمتابعة العمل في بيروت، وهذا يعني إغلاق المكتب و... و..." لم يدعه يكمل، قال إسلام شلبي بمرارة:

"لقد مات الحلم، وهو بعد برعما".

هزتني كلمات إسلام شلبي، شعرت بمرارة الأمل المخذول، وحرقة العزيمة المقهورة، ازدحمت الأفكار في رأسي، حاولت ترتيبها:

"الآن، انكشف المستور بكل خبيئة، إن ما قلته يا دكتور وذكرته لنا، لم يفاجئني، فقد شعرت به عندما حملت وإسلام، إلى القاهرة، نتاجنا الأول، وحاولت أن أكذّب ظنوني، ولكن بعد لقاءاتي مع من يفترض فيهم أن يكونوا زملاء، وجدت أن إسلام كان على صواب، عندما تخوّف، بعد صدور كتب توفيق الحكيم، أن ينافرنا هؤلاء الزملاء، فنخسر النفار".

 

شعرت بأنني أحتاج إلى نفس عميق، يخفف من انفعالي، مشت نظرات الدكتور الشنيطي على وجهي، وأنا أتابع: "يا دكتور، إنهم، مع الأسف، ممتلئون من كل طمع وخبث، مفعمين حسدًا، وخصامًا، ورداءة، ومغتابين، بارعين في الأذية، لا فهم لهم ولا استقامة، ولا ود ولا رحمة، يغسلون وجوههم، كل يوم، ولا يغسلون قلوبهم مرة واحدة". شعر الدكتور الشنيطي، بأن كلامي ضرب رأس المسألة، عند سماعه الكلمات الأخيرة نكَّسَ رأسه، بدا مكسور الخاطر، التفت إسلام شلبي إليه، وقال بنبرة مجروحة:

 

"لقد وجدوا أننا نقف عثارًا لهم في طريقهم، إذا أكملنا النشر في بيروت، أدركت ذلك أنا أيضًا خلال زيارتي القاهرة، ذنبنا الوحيد يا دكتور، أننا نجحنا في مهمتنا، وقدمّنا ما عجزوا عنه طويلًا، إنَّ الكتب التي أنتجناها، غير الكتب التي تعودوها، لا في الشكل والتصميم، ولا في الطباعة والتجليد الفني المتقن".

 

عدت إلى الكلام:

 

"ها هي ذي أيام يُقال فيها أن حقد الذين يعشقون الانفراد بالنجاح يتحكم بمصائر الناس، واتخاذ القرارات، ووضع العراقيل أمام الذين يبتعدون عن شريعتهم وقانونهم، ولا يتبعون تعاليمهم، ولا يخضعون لسطوتهم، ليبقوهم في الظل. ما رفّ لأحد في القاهرة جفن علينا، ولم يسأل أحدهم، كيف سنتدبر أمورنا، وأُسرنا وأولادنا...".

خرج صوت إسلام شلبي من حنجرته مهزوزا، مضرجًا بالحزن:

"أماتوا الحلم... ويا فرحة ما تمت"

سيد صادق أبو النجا، وكفى ذكر الاسم، لتشرئب الأعناق، وذكره مترامٍ في جميع الآذان في عالم الصحافة لمكانته، وعلو شأنه.

 

"اكتشفه"، إذا ما جاز التعبير، الناقد المبرز الدكتور محمد مندور، لمّا كان أستاذًا محاضرًا في كلية التجارة، جامعة الإسكندرية، فقدمه لصديقه الصحفي والكاتب الألمعي محمود أبو الفتح ليتولى إدارة جريدة "المصري". فبرهن أبو النجا أنَّهُ يتقلد في رأسه ذكاء حادًا، وأنه فُطر على موهبة في الإدارة، فنجح في إدارة "المصري"، ومن المآثر التي تُحفظ له، أنه أقنَعَ "شركة الترام" على إيجاد" محطة ترام" في "شارع القصر العيني"، أمام باب مبنى جريدة "المصري"، فكان الترام يتوقف في تلك المحطة، وينادي "الكمساري" بأعلى صوته: "محطة المصري.. محطة المصري".  فبات اسم "المصري"، يدوي يوميًا مئات المرات، فحقق أبو النجا دعاية مجانية للجريدة التي يتولى إدارتها.

 

وبعد إغلاق جريدة "المصري"، خطفته "دار أخبار اليوم"، وتعاقد الأخوان مصطفى وعلي أمين معه، وسلَماه إدارة الدار، فسدد ديونها، وارتفعت مكاسبها، مبرهنًا، مرة أخرى، أنه إداري ثقفٌ، يتحامى دهاؤه، وليس غريبًا بعد ذلك، إن كانوا خلعوا عليه لقب "إمبراطور الإدارة الصحفية".

 

ولم يألُ محمد حسنين هيكل جهدًا لضم سيد صادق أبو النجا إلى "الأهرام"، وتسليمه إدارتها، ليصبح الآمر الناهي فيها. ثم كان أن لجأ إليه الرئيس أنور السادات، للعون في إدارة مجلة "أكتوبر" التي كان أطلقها "الريس" بعد "نصر أكتوبر"، ووضع خطة للإعلانات فيها، وإعادة تنظيم "دار المعارف "التي تصدر عنها المجلة.

 

استمرأ سيد صادق أبو النجا الأُبهة والمناصب، فلم يعد يَفرُقُ كثيرا عن الذين يستبدون بقوتهم ونفوذهم، فيستخدمون قانون القوة، بدلًا من قوة القانون... هكذا خلقه الله، وأفعال الله لا تعلل.

 

تعثر إسلام شلبي بحركة يديه، أولعت الغليون، أخذت نفسًا عميقًا، استطيبت التبغ. لحظة الخيبة، وتكسر الحلم، ما أقساها، فهي تكون مصدرًا لحزن مزدوج: على أيام كان الجهد فيها لرؤية الحلم واقعًا معاشًا، وعلى ما ينبهنا إليه الحلم، من أننا حُرمنا منه. ما كان يخفف الحزن الذي لفنا، أننا نجحنا، فتألبوا حولنا، وتمادوا، فكأنما كنا في حريق نيروني، عبثي، رقصوا قصة إلغائنا، وابتهجوا..

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز