عاجل
الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

حكاية طريق القوافل الإفريقي عبر البحر الأحمر

د. إسماعيل حامد
د. إسماعيل حامد

يعتبر طريق مدينة قوص وثغر عيذاب جنوبي شرق الأراضي المصرية من أهم الطرق والمسالك التي كانت تعبرها القوافل سواء التجارية أو التي كانت تحمل الحجاج إلى بلاد الحجاز عبر موانئ وثغور "بحر القلزم"، وكان من أهم من عبر هذا الطريق بهدف الذهاب إلى أراضي مكة المكرمة الشيخ الصوفي الأشهر "أبو الحسن الشاذلي" (571-656هـ)، وهو الإمام والقطب الصوفي ذائع الصيت، وصاحب الطريقة الشاذلية، حيث كانت أرض مصر مقصد المغاربة والسودانيين للذهاب إلى بلاد الحرمين لا سيما برفقة موكب الحج المصري الذي كانت ينظمه حكام مصر كل عام.



 

وقد كان الحجاج الأفارقة القادمين من بلاد السودان الغربي (أو بلاد غرب إفريقيا) وكذلك بلاد السودان الأوسط بصفة عامة يتخذون في رحلتهم إلى الحج ذات الطرق والمسالك التي كان يسلكها الحجاج المغاربة، وهو ذات الطريق أيضًا الذي كان يعبره الحجاج القادمون من ممالك السودان الغربي، وكذا ممالك السودان الأوسط في طريقهم إلى بلاد الحجـاز، وهذا الطريق المعروف باسم طريق "قوص– عيذاب"، قد زاد استخدام هذا الطريق خاصة أن "طريق الشام" أو "الدرب الشامي".

 

ومن المعلوم أنه كان طريق الحج عبر بلاد الشام في كثير من الأوقات تُحيط به المخاطر وانعدام الأمن بسبب "الحروب الصليبية"، وهذا الطريق (أي طرق الشام) كان يمر عبر مدينة القلزم (السويس) ثم تتجه القوافل إلى أرض سيناء ثم بلاد الشـام، وخلال حقبة القرن 6هـ/ 12م وهي الحقبة التي ارتحل فيها الشاذلي إلى أرض مصر كان الصليبيون يسيطرون وقتها على طريق العقبة وشمالي بحر القلزم (البحر الأحمر)، ومن ثم كان الصليبيون يعتدون على قوافل الحج التي كانت تمر من بلاد الشام.

 

ولهذا اضطر الحجاج أن يأخذوا طريق الفسطاط ثم الاتجاه إلى مدينة قوص بالصعيد عبر نهر النيل، ثم كانوا يسلكون طريق الصحراء المؤدي إلى ثغر "عيذاب" على ساحل "البحر الأحمر"، وعلى أي حال كان يوم خروج "موكب الحج" الذي يحمل الحجاج الأفارقة من مدينة القاهرة يُعرف بـ"يوم المحمل"، وكان خروج "موكب الحج" يومًا عظيمًا يصفه الرحالة التركي المعروف "أوليا جلبي": "إن موكب الحج هو عيد أيضًا من أعياد المصريين"، وقال عنه الرحالة ابن بطوطة: "هو يوم مشهود..".

 

أما عن كيفية ترتيب يوم خروج الموكب والاحتفالات التي تصاحبه، فكان يركب فيه القضاة الأربعة ووكيل بيت المال والمُحتسب، وكان يركب معهم أعلام الفقهاء وأمناء الرؤساء وكانوا يقصدون باب "قلعة الجبل" حيث يقابلهم السلطان.

 

وكان السلطان يعين رئيسا للموكب يُعرف بـ"أمير الحج"، وكان يرافقه جند الحماية وكذلك السقاؤون على جمالهم، ويجتمع للموكب أصناف غفيرة من أهل القاهرة وكذلك الأقاليم الأخرى احتفالا بهذه المناسبة الدينية المهمة، وقبل خروجه كان يطوف شوارع القاهرة ويخرج من باب النصر.

 

وبحسب ابن بطوطة (ت: 779هـ) كان الموكب يخرج في شهر رجب، بينما يذكر مؤرخون آخرون أن خروج موكب الحج كان في شهر شوال، وفي ذات الشأن يقول الرحالة (ابن الطيب) صاحب الرحلة التي عرفت باسمه: "وافق خروجنا من مصر يوم الاثنين السادس والعشرين من شوال.."، وكان الحجاج تزيد أعدادهم عند كل منزل، وكانت توجد في الطريق إلى مكة الأربطة والزوايا والخانقاوات التي كانوا ينزلون فيها، وكانت تحبس عليها أوقاف كثيرة لخدمتهم، وهو ما يشير إلى أن الموكب كان يلقى رعاية من السلاطين وحكام البلاد لإتمام الشعائر المقدسة، ومن جانب آخر كانت غايتهم كسب ود الناس وحبهم، وكان الإمام الشاذلي قد غادر الديار المصرية برفقة موكب الحج إلى الصعيد عبر نهر النيل ثم إلى قوص حيث تلتقي قوافل الحج هناك، ثم يعبر الصحراء إلى عيذاب.

 

ولعلنا نكثر في الحديث عن رحلة الشاذلي، حيث إنها من أشهر رحلات الحج التي عبر خلالها الحجاج طريق (قوص– عيذاب)، وفيما تذكر الروايات الصوفية أيضًا فإن الشيخ أبا الحسن الشاذلي لما توجه لأداء مناسك الحج عبر ذات الطريق حسب ما تذكر إحدى الروايات: "في هذا العام أحجُ بالنيابة"، ولما مات قبل أن يتم مناسك الحج عاد رفاقه إلى القاهرة ثم سألوا الإمام الحُجة "العز بن عبد السلام" (سلطان العلماء) بما قاله، فبكى، وقال: "الشيخ والله أخبركم بموته في سفره، وما عندكم علم به، وقد أخبركم أن المَلَك هو الذي يحجُ نيابة عنه..".

 

وكان الطريق الذي سلكه الشاذلي من مدينة قوص إلى ثغر عيذاب طريقًا وعرا قليل الماء، وليس به الكثير من مظاهر العمران، غير أن انتقال طريق الحج من بلاد الشام إلى هذه النواحي أعطاها أهمية كبيرة عن ذي قبل، وصارت محطات الطريق مقصد القوافل التجارية، وقوافل الحج التي صارت تعرف باسم: "القوافل العيذابية" لأنها كانت تقصد ثغر عيذاب، وهو الميناء الذي نال أهمية كبيرة في العصور الوسطى، وكان طريق الصحراء من قوص إلى عيذاب يضم العديد من المحطات التي يجب على الحجاج عبورها إلى ساحل بحر القلزم وموانيها، ولعل أهم محطات هذا الطريق خلال رحلة الحج:

 

قوص:

 تُعد مدينة قوص من أهم المحطات التي تقصدها القوافل من شمال إفريقيا وبلاد المغرب إلى الإسكندرية ثم تتجه للقاهرة ثم تذهب جنوبا عبر النيل إلى قوص، وهي المحطة الرئيسية التي يعبرها الحجاج لعيذاب، ويصفها ابن بطوطة: "مدينة عظيمة، لها خيرات عميمة، بساتينها مونقة"، وكانت مدينة قوص مقرًا لولاة الصعيد، وكان واليها يُعرف باسم "مُتوليّ الأعمال القوصية" نظرًا لأهمية المدينة من الناحية الإدارية ولموقعها الجغرافي المتميز وسط الأراضي المصرية، ولعل أهمية قوص وازدهارها كان يرتبط باعتبارها من أهم المحطات التي كانت تقصدها القوافل، ولهذا تصفها المصادر التاريخية بأنها كانت "ملتقى الحجاج المغاربة والسودانيين المصريين..".

 

كما أن قوص بدورها كانت محطة تجارية مهمة عبر الصحراء، وكانت مقصدًا للتجار القادمين من الهند واليمن وكذلك التجار الأحباش نظرًا لكثرة الصادر والوارد إليها من السلع والبضائع "لأنها محط للرحال، ومجتمع الرفاق، وكان طريق السفن المُحملة بمنتجات الهند يلتقي وسط بحر القلزم بطريق الحجاج الأفـارقة والمغاربة الذاهبين إلى بلاد الحجاز، وهو ما يشير في ذات الوقت إلى ارتباط الحركة التجارية بقوافل الحج التي تعبر قوص، وربما كان ذلك أمرا مقصودا، إضافة إلى أن قوافل الحج كان يرافقها عدد كبير من التجار، ولذا لم يكن من المُستغرب أن تُوصف مدينة قوص بأنها: "محطة مهمة في طريق تجارة الهند"، وقد ازدهرت مدينة قوص من الناحية العمرانية، وزادت بها المساجد والمدارس وانتشرت البساتين والحدائق، كما ازدهرت بها الأسواق والوكالات التجارية، ومما لاريب فيه أن كثرة الأسواق في مدينة "قوص" كانت عاملًا مهما في أن يجد الحجاج القادمون من ممالك إفريقيا وغيرهم ما كانوا يحتاجون إليه من الزاد والطعام قبل عبور دروب الصحراء صوب عيذاب.

 

ومن المؤكد أن وقوع مدينة قوص على طريق الحج ساهم في ازدهارها اقتصاديًا وثقافيًا، إذ كان يعبرها العلماء والفقهاء في طريقهم إلى الحج، كما كان يسكنها أعداد غير قليلة من تجار ينبع، وهو الثغر المعروف المواجه لثغر عيذاب على ساحل جزيرة العرب وهو ما يشير إلى وجود علاقات مهمة بين ساكني جزيرة العرب والساحل الشرقي الإفريقي، وفي رأي البعض فإن "قوافل الحج" التي تعبر مدينة قوص كانت تحتاج إلى حوالي عشرين يومًا على الأقل لعبور الطريق الصحراوي بما فيها من الدروب والمسالك الوعرة حتى تصل في نهاية الأمر إلى ثغر عيذاب على ساحل بحر القلزم، بينما حسب آخرين كانت قوافل الحجاج تحتاج إلى حوالي سبعة عشرة يومًا فقط للذهاب عبر الصحراء الشرقية (أو الصحراء العربية) من مدينة قوص إلى ثغر عيذاب.

 

طريق العبدين:

يتم الوصول إلى هذا الطريق من قوص مباشرة، وهو إحدى الطريقين الرئيسيتين المؤديتين إلى عيذاب لأولئك القادمين من قوص، وهو الطريق الأقصر مقارنة بالطريق الآخر للحجاج القادمين من قوص، وكان الطريق الآخر يأتي من إحدى القرى التي تقع على ضفاف النيل بالقرب من مدينة قنا، وكانت تلك القرية تعرف باسم: "مرقة"، ثم تجتمع الطريقان بالقرب من موضع في الصحراء الشرقية يعرف بـ"ماء دنقـاش" (أو ماء برقاش)، وقد مر ابن جبير بـ"طريق العبدين" خلال رحلته إلى بلاد الحجاز، وقد تحدث عنه قائلا: "والقصد إلى عيذاب من قوص على طريقين، إحداهما عرفت بطريق العبدين، وهي هذه التي سلكناها، وهي أقصر مسافة، والأخرى طريق إلى قنا، وهي قرية على شاطئ النيل...". وللطريقين موضع آخر يجتمعان فيه يدعى "ماء شاغب"، وهو يقع بالقرب من "ماء دنقاش" على مسيرة يوم.

 

أمتان:

وكلما توغل الحجاج في دروب الصحراء كلما زادت وعورة الطريق، وصار أكثر مشقة، لكن ذلك يهون في سبيل غايتهم الكبرى، وهو ما يشير إليه الرحالة السويسري المعروف "بوركهارت"، فإنه رغم المشقة وهلاك الكثير من الحجاج خلال الرحلة، لكن المخاطر لم تكن لتوهن عزيمتهم ولا تنقص عددهم في كل عام، فضحايا رحلة الحج شهداء في سبيل الله، وعلى هذا كانت تزداد المشقة في طريق قواف الحج بسبب قلة الماء، وهو ما يشير إليه الحسن الوزان: "ولا يوجد في هذه الصحراء ماء حتى الساحل.."، وهو ما يعني أن الطريق إلى ميناء عيذاب في أيام الحسن الوزان (أي خلال القرن 10هـ/ 16م) صار الحصول على الماء أمرًا صعب المنال عن ذي قبل، وتبلغ القافلة بعد ذلك موضع "أمتان" وبه بئر ماء عذبة، وكان الحجاج يكثرون الإقـامة به أكثر من غيره، إذ إنه ليس من الهين العثور على موضع آخر بالصحراء مثله.. يقول ابن جبير: "وهذا الماء بأمتان المذكور هو في بئر معينة قد خصها الله بالبركة، وهو أطيب ماء الطريق وأعذبها، فيلقى فيها دلاء الوارد ما لا يُحصى كثرةً..".

 

وكان الماء الذي يوجد بمنطقة "أمتان" لفرط بركته يكثر قدوم النـاس إليه، وكذلك لما فيه من الماء العذب الطيب، وذلك أكثر من غيرها من مواضع الماء الأخرى في هذه الصحراء التي تقع بين قوص وعيذاب، "فتُروى القوافل النازلة عليها على كثرتهـا، وتروى من الإبل البعيدة الأظماء، ما لو وردت نهرًا من الأنهار لأنضبته وأنزفته"

 

رملة ميثاء:

يقع هذا الموضع بعد كل من "مجاج" و"العشراء"، حيث يسلك الحجاج الطريق من هناك إلى "رملة ميثاء"، وهي منطقة تتصل بساحل بحر جدة (بحر القلزم)، وتصف المصادر هذه المنطقة بأنها "فيحاء مد البصر يمينا وشمالا"، وفي هذا الموضع تكاد تكون القوافل قريبة من عيذاب وساحل بحر القلزم، وهو المقصد الرئيس لقوافل هؤلاء الحجاج.

 

ماء الخبيب:

ثم تتجه القوافل إلى موضع آخر في الصحراء العيذابية يدعى "ماء الخبيب"، ويذكره الرحالة ابن بطوطة باسم: "ماء الجنيب"، وهو من أقرب مواضع الصحراء لعيذاب، وكان الحجاج يتوقفون به للتزود بالماء قبل نهاية الرحلة، ويمكن للحجاج هناك رؤية ثغر عيذاب الذي يبعد عنه نحو ميلين، وكانت القافلة تتوقف هناك للتزود بالماء، يقول ابن جبير: "فنزلنا ضحوة على ماء الخبيب، وهو بموضع بمرأى العين من عيذاب، يستقي منه القوافل وأهل البلد... وهي بئر كبيرة كأنها الجب الكبير..".

 

الحُميثراء:

في هذه المنطقة انتهت رحلة الإمام والقطب الصوفي أبي الحسن الشاذلي، حيث مات بها قبل أن يبلغ بلاد الحجاز، ويتميز الطريق إلى منطقة "الحميثراء" بأنه وعر، وهو وشاق للإبل القادمة مع الحجاج، ومن اللافت أن ابن جبير لم يذكر "الحميثراء" خلال رحلته رغم أن كتاباته تُعد من أهم المصادر التاريخية التي وصفت طريق حجاج الممالك الإفريقية من قوص إلى عيذاب، وربما سبب ذلك أن هذه المنطقة (أي الحميثراء) زادت أهميتها بعد أن دُفن بها الشيخ الشاذلي، أي بعد سنة 656هـ/ 1258م بعد وفاة ابن جبير بحوالي نصف قرن، بينما يذكر ابن جبير موضعا آخر باسم: "العشراء" يقع على مسافة يوم واحد من ثغر عيذاب، ولعل هذا الموضع هو ذاته "الحميثراء" المشهورة، لكن وقع خطأ في نسخ الاسم وهو فيما يبدو جعل اسم "الحُميثراء" يكتب "العشراء"، وتُوصف "الحميثراء" بأنها أرض "ذات عين ماء زعاق" وهي أرض كثيرة الضباع.

 

وتذكر المصادر أنه لما استقر الشاذلي بصحراء عيذاب وقعت له عدة كرامات، ومما ورد أنه لما أقام بالصحراء كانت ذات ماء أُجاج، فكان من كراماته أنه صار عذبا فُراتًا، كما تذكر إحدى الروايات أنه دعا الله: "اللهم متى اللقاء؟ فقيل: يا علي إذا وصلت إلى حُميثرة فحينئذ يكون اللقاء، فقال الشاذلي: رأيت كأني أُدفن إلى ذيل جبل بإزاء بئر ماؤها قليل، مالح، فوقع في نفسي شيء، فحفظت في سري: ماؤها يكثر ويعذب"، ولما كان الشاذلي بـ"حُميثراء" اغتسل وصلى، ولما كان في سجدته الأخيرة قبضه الله، ومما ورد في موته أنه لما خرج في حجه الأخيرة كان يشعر بدنو الأجل، وعلى أي حال مات الشاذلي بصحراء عيذاب سنة 656هـ/ 1258م، يقول الشعراني: "وحج (الشاذلي) مرات، ومات بصحراء عيذاب قاصدا الحج في ذي القعدة سنة ست وخمسين وستمائة.."، وقيل مات هناك في رمضان، وكان عمره ثلاثا وستين سنة.

 

 

 

أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الإفريقي

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز