عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

حكاية بلادُ الحضارمة العرب في شرق إفريقيا

د. إسماعيل حامد
د. إسماعيل حامد

يعتبر شعب الحضارمة أو "الحداربة" أو "الحدارب"، سكان بلاد البجة أو بلاد الحدارب Land of Hadareb من أقدم الشعوب العربية التي سكنت سواحل البحر الأحمر الغربية، أو السواحل الإفريقية الشرقية منذ القرون الإسلامية المبكرة، وربما قبل ذلك، وبحسب روايات المصادر الكلاسيكية كان الزعماء والحكام في بلاد البجة إبان قدوم هجرات القبائل والبطون العربية كانوا هم شعب "الحدارب" (أو الحداربة) ومفردها: "الحدربي" (بفتح الحاء المهمل، وإسكان الدال، وراء مفتوحة، وباء موحدة)، وتذكرهم بعض المصادر التاريخية باسم: الحدارية، والحدربية، ويقال لهم أيضًا: "الحدرات"، ولعلها تصحيف للأصل. 



 

و"الحدارب" أو "الحداربة" نسبة إلى "الحضارمة" أو "بلاد حضرموت" في اليمن، جنوبي شبه جزيرة العرب- Arabian Peninsula- ويقال إن جدهم كان يدعى حضرموت بن قيس بن معاوية بن جُشَم، وقيل: حضرموت كان لقبًا له أما اسمه فكان عامر، ولكن في نسبه اختلاف، حيث تنسبه بعض الروايات إلى بني إسماعيل عليه السلام، وقيل إن حضرموت هو ابن يقطن (يقطان) شقيق قحطان جد عرب اليمن، وهذا هو الراجح. 

 

وقد اشتهر العرب "الحضارمة" في حقبة الجاهلية بالزعامة والقيادة، ولهذا قال ابن حزم الظاهري عنهم: "وكانت فيهم رياسة إلى الإسلام..". 

 

وتشير بعض أوراق النسبة (Nisbas) السودانية إلى أن العرب الحضارمة كـانوا قد وفدوا إلى أرض البجة إبان القرون الأولى بعد ظهور الإسلام، وقد جاءت جماعات منهم إلى هذه البلاد- تحديدًا- في حوالي سنة 73هـ/ 692م، وعلى هذا يعتقد أن أصحاب تلك الهجرات العربية هم ذاتهم أجداد الحداربة، وهو ما تؤكد بعض المخطوطات السودانية، ولعل منها مخطوطة السمرقندي بأن "الحضارمة" العرب- أجداد الحدارب- هاجروا أيام الحجاج بن يوسف الثقفي خلال النصف الثاني من القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي، أي أيام الدولة الأموية (40-132هـ)، ثم استقر هؤلاء العرب الحضارمة بين قبائل وجماعات البجة المحليين، ثم حدث تحالف بينهم بالقرب من ثغر "سواكن" Suakin، ويشير المستشرق أ. بـول A. Paul إلى أن هجرة العرب الحضارمة إلى البجة ترجع إلى "أيام الجاهلية" وقبل بداية الـدعوة الإسلامية، ويضيف أيضًا أن الحضارمة تحالفوا مع زعماء البجة المحليين عن طريق المصاهرة، ومن ثم صارت لهم القيادة والزعامة في تلك البلاد. 

 

وشكل الحداربة العرب بمرور الوقت عنصرًا بارزًا بين كافة سكان بلاد البجة، وأقـاموا طبقةً أرستقراطية حاكمة تمكنت من إخضاع أكثر سكان تلك البلاد. 

 

وعن أصل الحدارب حسب ما ورد في بعض الروايات والوثائق السودانية، تذكر مخطوطة أحمد بن الفكي معروف: "أخبرنـي سيدي عبد الله بوعـزيز الحَضـري أنهم جـاءوا فـي الأصـل من حضرموت، ويقـال إنهم فـرع من حموم Hamum، وهم من بدو حضرموت، هـاجروا إلى السودان في أيام الحجـاج بن يوسف (الثقفـي)، وسكنوا بين البجـة، صـاروا (حـدارب) مثل البجـة أنفسهم، واتخذوا موطنـًا لهم في سواكن Suakin، وهي الجزيـرة المشهورة على سـاحل السودان، بالقـرب من بـلاد الحبشـة، وقـال إنهم سُموا بالحضـارم Hadarem، وهو اسم مـأخوذ من حضـارم، ولكن منذ أيام الجـاهلية فإن حرف الضـاد تحول إلى الـدال، وتحول حـرف الميم إلى البـاء كما يفهم، ثم صـاروا يعـرفون بـاسم: الحدارب..". 

 

وتذكر بعض المصادر من جانب آخر أن قبـائل "الحدارب" كانت لهم أيضًا عدة بطون صغرى تتكون منها هذه الجماعات، ولعل أهمها: بطون العريتيكة، وبطون السوبتاروا، والحوتمة، والعنكبيرا، والنجريروا، وكذلك بطون الجنيتكة، والحربيب، والواخيكة، وكانت توجد قبائل وجماعات أخرى في بلاد البجة غير بطون الحداربة، وقد كان من بينهم حسب ما أوردته المصادر التاريخية: قبيلة الـزنافج، وقبيلة رسفة، وقبيلة العماعر، وقبيلة عربربعة، ويبدو بشكل واضح من أسماء هذه البطون أو القبائل أنها ليست من أصول عربية في الغالب مثل الحداربة والبليميين، ومن ثم كانوا فيما يبدو من الشعوب الإفريقية المحلية.

 

ويطلق المؤرخ اليعقوبي في روايته المهمة على جماعات "الزنافج اسم "الـزنافجة"، وقال عن هذه الجماعات وموطنهم في روايته: "ومن العلاقي إلى أرض البجة الذين يقال لهم الـزنافج خمس وعشرون مرحلة، والمدينة التي يسكنها ملك الزنافجة يقال لها "بقلين" وربما صار المسلمون إليها للتجارات". 

 

وتتحدث المصادر التاريخية عن تحالف قوي جمع بين كل من قبيلة ربيعة وزعماء الحداربة في بلاد البجة، والذي لاريب فيه أن هذا التحالف الذي أرادته ربيعة كان موجها في المقام الأول لقبيلة جهينة ومن حالفها، بينما كان الحداربة يريدون الحصول على مساعدة قبيلة بني ربيعة في مواجهة زعماء النوبة، "فقويت البجة بمن صاهره ابن ربيعة، وقويت ربيعة بالبجة على ما ناوأها، وجاورهـا من قحطان، وغيرهم من مضر بن نزار ممن سكن تلك الديار". 

 

ويشير البعض إلى أن زعماء ربيعة ومؤيديهم لجئوا لوسائل عدة للتقـرب من الحداربة نكـاية في منافسيهم، ومنها أنهم تحايلوا على كهان البجة ودعوهم لطاعة زعماء بني ربيعة والانضواء تحت لوائهم، لتجعل منهم مؤيدين وأعوانا لهم. 

 

كما أكمل زعماء عرب ربيعة مخطط السيطرة على بلاد البجة من خلال مصاهرة زعماء الحداربة ليستفيدوا من "نظام الوراثة" الـذائع في تلك البلاد وهو "نظام الأمومة"، حيث ينتقل الحكم بمقتضاه لـ"ابن الأخت" أو "ابن البنت"، وقد تحقق لهم ما أرادوا وصاروا حكام تلك البلاد حسب رواية كل من أبي الحسن المسعودي (ت: 346هـ/ 957م) وابن حوقل (350هـ/ 961م) وكان كلاهما قريبًا لحد ما من تلك الأحداث، ومن الراجح أن القبائل القضاعية أيدت عرب جهينة ضد بني ربيعة، وكانت قبيلة رفـاعة من بين القبائل التي انضمت لحلف جهينة بحكم القرابة التي تجمع بين القبيلتين، وكانت جماعات القبيلتين يسكنون بجوار بعضهما البعض، وتذكر مخطوطة أحمد بن الفكي معروف، أن الرفاعيين سكنوا أول أمرهم في بلاد الحبشة وبين شعب البجة، ثم ارتحلوا لوادي النيل، ويعتقد أيضا أن قبيلة بني القضاعية وكانت تسكن أرض البجة انضمت هي الأخرى لحلف جهينة بداعي القرابة والنسب بينهما، وكذلك بحكم الجوار في هذه البلاد. 

 

والمؤكد أن عرب جهينة وحلفاءهم كانوا ساخطين بما يقوم به عرب ربيعة في بلاد البجة ومحاولتهم السيطرة على مناجم الذهب وتجارته دون غيرهم من العرب، بل ومحاولتهم إقصاء المنافسين لهم من القبائل من تلك البلاد، ويذهب البعض إلى أن هذا الصراع كان قد وقع وزادت حدته بعد موت أبي عبد الرحمن العُمري، فقد انقلبت الأمور بين قبائل وبطون العرب في ذلك الوقت، ومن ثم بدت بوادر الشقاق بين القبائل بعضها البعض، وحاول بعضها السيطرة على مناجم الذهب دون الآخرين، وكانت ربيعة في مقدمة هؤلاء، حيث أراد زعماء تلك القبيلة الاستئثار بثروات بلاد البجة دون باقي العرب خاصة جُهينة ومن حالفها، ولن يتم لهم تحقيق تلك الغاية إلا بمساعدة الحداربة، زعماء البجة.

 

ولا ريب أنه كان للتحالف بين كل من عرب ربيعة وزعماء الحدارب (الحداربة)، إضافة إلى دور بعض الجماعات العربية الأخرى التي كانت قد تحالفت معهم، لا سيما من قبائل مضر وتميم أثر كبير في ازدياد نفوذ بني ربيعة وخضوع أكثر القبـائل العربية لسطوتها. وتؤكد "رواية المقريزي" ازدياد نفوذ ربيعة على باقي القبائل، إذ يشير المقريزي إلى تغير مقاليد الأمور والنفوذ بين القبائل العربية التي سكنت بلاد البجة بعد العُمري، ولهذا يقول المقريزي: "فلما قُتل العُمري، واستولت ربيعة على الجزائر، والأهم على ذلك البجة.."، وهي إشارة مهمة تؤكد أن زعماء بلاد البجة لعبوا دورًا كبيرًا في مساندة بني ربيعة في صراعها ضد عرب جهينة وباقي القبائل التي تحالفت معها، والتي كانت تعارض احتكار عرب ربيعة للذهب وتجارته.

 

وكان زعماء بني ربيعة يدركون أن الجهنيين هم المنـافس الأقوى لهم من بين سائر القبائل العربية، وهم يشكلون عقبة كئودًا في سعيهم لإحكام السيطرة على مناجم الـذهب وتجارته في أرض العلاقي، ومن ثم عمل بنو بشر وكانوا يشكلون أقوى بطون قبيلة ربيعة ما في وسعهم بهدف إجبار عرب جهينة ومن حـالفهم على الخروج من "أرض الذهب" بمساعدة الحداربة، والمؤكد أن هذا ما أرادوا فعله أيضًا مع كل من لم يخضع لسيطرتهم، أو من لم يظهر الطاعة والولاء لهم من القبائل الأخرى، حتى يخلو الطريق لقبيلة ربيعة وبطونها في إحكام قبضتهم على مناجم العلاقي واحتكار تجارة الذهب، هكذا صارت العلاقة بين كل من قبيلة عرب جهينة وقبيلة بني ربيعة.

 

ولم تنته الأمور عند هذا الحد من التنافس، فما لبث أن تطور الأمر بعد ذلك إلى صراع حامي الوطيس بين القبيلتين، حيث صارت المواجهة بين الطرفين على أشدها، وقد شق هذ الصراع صف الجماعات العربية بمحاولة أكبر قبيلتين أن يكون لإحداهما الحق في امتلاك مناجم الـذهب أو حق السيطرة عليها، والـراجح في رأي الباحث أن هذا الصراع لم يأخذ شكلًا عسكريًا كاملًا بالمعنى المعروف، وإن لم يخل من بعض مظاهره في بعض الأحيان، غير أن الأمر يبقى محاطًا بالكثير من الغموض التي تحتاج لسبر أغوارها خاصة مع صمت المصادر حول هذا الأمر، ويبدو أن الصراع كان في غالبه صراع تحالفات ونفوذ ما بين القبائل التي كانت تؤيد جهينة من جانب وحلفاء ربيعة من جانب آخر.

 

وتشير المصادر التاريخية إلى أن بني ربيعة تمكنوا من بلوغ غايتهم، حيث تحقق لهم مأربهم في التخلص من منافسيهم العرب في بلاد البجة، وهو الأمر الذي تؤكده المصادر، فتقي الدين المقريزي يقول: "فأخرجت (أي بنو ربيعة) من خالفهم من العرب.."، وهو ما يؤكد أن عرب ربيعة بطشوا بكل من حالف جهينة من القبائل ولم يقر لهم بال إلا بعد أن تخلصوا من القبائل المناوئة لهم، وكان أحد بطون بني ربيعة هو الذي قاد التحالف مع الحداربة، ومع باقي القبائل التي تحالفت معهم، يقول الـدكتور مصطفى مسعد: "وتمكن فخذٌ من ربيعة أن يخرِج من خالفه من العرب بعد أن استمال إليه البجة، وتصاهروا إلى رؤساء البجة.."، أما هذا الفخذ الذي ينتسب لربيعة، فهم بنو بشر حسب ما ورد في المصادر. 

 

ويرجح المؤلف أن هذا الصراع بين كل من عرب جهينة وبني ربيعة كـان قد انتهى في حوالي منتصف القرن 4هـ/10م أو قبل ذلك بقليل، حيث حسم بنو ربيعة الأمر لصالحهم، ويؤيد ذلك روايات مؤرخي القرن الـرابع الهجري (القرن 10م) ممن كانوا معاصرين لتلك الحقبة إلى سيطرة ربيعة على وادي العلاقي ومناجم الذهب التي تقع في هذه المنطقة، فالمسعودي (ت: سنة 346هـ/ 957م) يذكر أن حاكم البجة في أيامه كان من قبيلة ربيعة وكان يُدعي: "أبو مروان بن بشر بن إسحاق الربيعي"، وهو الذي يوصف بأنه "صاحب المعدن"، ولعل هذا ما يؤكد أن قبيلة ربيعة صارت تتحكم في مناجم الـذهب وتجارته في ذلك الوقت، وكان ذلك بلا ريب على حساب القبيلة المنـافسة لها وهي قبيلة جهينة، وهو ما يشير إلى ما حل بعرب جهينة من الـوهن، وكذلك ضعف موقفهم في مقابل منافسيهم الأقويـاء، بل إن حكم بلاد البجة كافة صـار آنذاك لجماعـات بني ربيعة، وهو ما يؤكد أن الصراع بين القبيلتين كان قد انتهى قبل قدوم أبي الحسن المسعودي إلى تلك البلاد، أي في خلال النصف الأول من القرن 4هـ/ 10م.

 

أما ابن حوقل (المتوفى حوالـي سنة 350هـ/ 961م) فـإنه يشير إلى أن جماعات بني ربيعة كانوا يسيطرون في أيامه على مناجم الذهب في أرض العلاقي، إذ يقول: "ويأخذ هذا المعدن من قرب أسوان إلى حصن يسمى عيذاب، وبه مجمع لـربيعة تجتمع إليه يُعرف بالعـلاقي.. وهو معدن تـبر لا فضة فيه، وهو بأيدي ربيعة وهم أهله خاصة..". 

 

وهو ما يؤكد أيضًا أن "أرض المعدن" في أيام ابن حوقل كـانت ملكًا لقبيلة ربيعة وبطونها دون غيرهم. 

 

أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الإفريقي

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز