عاجل
الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

حكاية مملكة الكُنوز الإسلامية في إفريقيا

د. إسماعيل حامد اسماعيل
د. إسماعيل حامد اسماعيل

توطدت أركـان الحكم والإمارة لزعماء قبيلة بني ربيعة في بلاد البجة، وقد شـارك أمراء بني ربيعة زعماء "الحداربـة" في حكم تلك البلاد بفضل مصاهرتهم لهم، ومن ثم كونوا إمارة عـربيـة إسلاميـة في هذه البـلاد منذ القـرن الثـالث الهجـري، غير أن هذه الإمارة فيما يبدو لم يعترف بها سلاطين مصر بشكل رسمـي.



 

ويقع بمصر وبجوارها جزء كبير من أراضي البجـة، لا سيما في "أرض العلاقى"، وميـناء عيذاب وما حولهما، وظـل بنوربيعة يحكمون أرض البجـة على هـذا النحو حتـى عصر "الدولة الفاطمية" (358–567/ 969–1171م)، وهي الدولة التي اعترفت بتلك الإمارة العربية، حيث أطلق عليها الخلفاء الفاطميون اسم: "مملكة الكنوز".

 

وفي أيام الحاكم بأمر الله (386–411هـ) أعلن أحد الأمويين التمرد على الفاطميين، وكان يـدعى الـوليد بن هشام العثماني الأموي الأندلسـي، وهو الذي عـرف بـاسم "أبـي ركوة"، ويقال إنه بـدأ تمرده وشق عصا الطاعـة على الحـاكم بـأمر الله في نـواحي برقـة (ليبيا)، "ومـال إليه خلق عظـيم"، ولسبب ما انتقل أبو ركـوة بتمرده إلى صعيد مصر وتـابعه كثيرون، وكـان ذلك أيام الأمير أبي المكارم هبـة الله بن الشيخ أبـي عبد الله محمد بن علـي، وهو أحد أمراء بني ربيعـة في بلاد البجـة، والذي اشتهر بـاسم "الأهـوج المطـاع".

 

الأمير أبو المكارم هبة الله:

 

ينتسب الأمير أبو المكارم الربيعي إلى بنى الحارث بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدول، وهو من بني مسروق، وهو الذي ينعته المؤرخ تقي الدين المقريزي (ت: 845هـ) باسم "كنز الدولة، حامي أسوان"، ولما اشتد أمر الثائر أبي ركوة الأموي في أيام الأمير أبي المكارم هبة الله الربيعي، أرسل الخليفة الفاطمي الحاكم بـأمر الله، جيشا للقضاء علـى تمرده، لكن أبا ركـوة تمكن من هزيمة الجيش الفاطمي، وهو ما أدى إلى أن اشتد أمره قـوة وبأسا، وعلا شـأن أبـي ركـوة وكثر من تبعه وأيـده، وعندئـذ أدرك أبـو المكارم الربيعـي خطورة أمر أبي ركوة وأنه يمثل تهديدا كبيرا له ولإمارة بني ربيعـة في أرض البجـة، ولهذا قـاتله أبو المكارم واستطاع أن يهزمـه وقبض عليه.

 

ويـذكر بعض المصادر التاريخية أنـه قتل من أتباع أبي ركوة حوالـي سبعين ألف شخص، وهو ما يشير إلى مدى قـوة أبي ركوة وكثرة أتباعـه، ويـدلل هذا الرقم على قـوة إمارة ربيعـة في بـلاد البجـة، وقـوة جيشها الذي استطاع أن ينتصر علـى جيش كان قد هزم الجيش الفاطمي، ثم استطاع أن يقتل منه نحو سبعين ألف شخص.

 

تأسيس مملكة الكنوز (379هـ/989م):

 

حمل الأمير أبو المكارم الربيعي أبا ركوة أسيرًا ذليلًا إلى مدينة القاهرة، واتجه إلى قصر الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله الذي أمر بذبح أبى ركوة انتقاما منه سنة 379هـ/ 989م، وقد أراد الأمير أبو المكارم بتلك الخطوة أن يتقرب لحـاكم مصر الفاطمي ويقـدم له فروض الولاء والطاعة، حتى ينـال الاعتراف بشكل رسمي من الفاطميين بـ"إمارة ربيعـة" في بلاد البجة، وعلى هذا أكـرم الحاكم بأمر الله، أمير بني ربيعـة وأحسن معاملته، واحتفـى به حفاوة كبيرة تليق به لأنـه قدم له خدمة عظيمة بالقضاء على تمرد أبي ركـوة، وما كان يمثله من تهديـد للفاطميين.

 

ومن ثم اعترف الحاكم بأمر الله بـ"الأمير الربيعي" وجعله ملكًا على أرض البجـة ولقبـه بـ"كنز الـدولة"، وكانت تلك المرة الأولى التي يعترف فيها بملك بني ربيعة في بلاد البجة رسميًا، وعـرفت دولتهم منذ ذلك الوقت باسم "مملكة الكنوز".

 

ويقـول المقريزي في روايته عن أبي المكارم: "وهو أول من لقب بذلك منهم (أي بلقب: كنز الدولة)، ولم تزل الإمارة فيهم (أي في بني ربيعة)..".

 

وقد توارث أبناء الأمير أبي المكارم الربيعي لقب "كنز الدولة" من بعده، وظلت الإمارة وأمور الحكم في بني ربيعة بالوراثة طيلة أيام الدولـة الفاطمية، ولهذا عرف بنو ربيعة في أسوان والنوبة باسم "بني كنز"، وقصدهم الشعراء والأدباء وكتبوا في مدحهم والزلفى إليهم.

 

ولعل أشهر من مدح بني ربيعة الشاعر ابن عرام، والحسن بن الزبير، وقد ازدهرت دولة الكنوز وألف المؤرخون عنهم المصنفات وتحدثوا عن سير ملوك ربيعة، قال المقريزي: "وكان بثغر أسوان بنو الكنوز من ربيعة، أمراء ممدوحون، مقصودون، صنع لهم الفاضل ابن عرام سيرة، ذكر فيها مناقبهم وأسماء من مدحهم، ومن ورد عليهم".

 

الأمير كنز الدولة:

 

كـان آخر الأمراء الذين ارتقوا العرش في بلاد البجة من قبيلة بني ربيعة يـدعى- فيما يذكر المقريـزي- "كنز الدولة"، وهو الذي أعلن التمرد على دولة بنى أيوب (الدولة الأيوبية)، لأنه كان يدين بالولاء للفاطميين، ولهذا لما سقطت الدولة الفاطمية على يـد السلطان المظفر صلاح الدين يوسف بن أيوب (الأيوبي) (ت: سنة 589هـ/ 1193م)، أعلن "كـنز الدولة" الولاء للفاطميين، ودعا للأمير داود بن الخليفة الفـاطمي "العاضد" (556–567هـ/ 1160-1171م)، وهو آخر خلفائهم، ولهذا وقع العداء الشديد بين الكنوز والسلاطين الأيوبيين.

 

انتقال دولة الكنوز إلى بلاد النوبة:

 

صارت منذ ذلك الـوقت مدينة أسوان عاصمة لـ"دولـة الكـنوز" الإسلامية، وظلت هذه المدينة على هذا الحال حتى أيام قيام "الدولـة الأيوبيـة"، حيث بعث السلطان صلاح الـدين الأيـوبي أخـاه (العادل) على رأس حملة عسكرية إلى إمارة بنـي الكنز في سنة 570هـ/ 1174م، تمكنت من هزيمـة أمراء بنـى ربيعـة، وبذلك سقطت دولـة الكـنوز في بلاد البجـة.

 

ولعل هذا ما أجبر من بقي من بطون بنـي ربيعـة علـى الرحيل من ثغر أسوان وما حوله، ومن ثم اتفقوا على أن ينتقلوا جنوبـًا صوب تخوم بـلاد النوبـة، وكانت غايتهم من ذلك البحث عن مستقر جديد لهم أكثر أمنًا واستقرارًا.

 

وعلى هذا انتقل ملك بني الكنز من بلاد البجة إلى بلاد النوبة بعد ذلك، ثم اندمجت جماعات الكنوز (بنو ربيعة) بعد ذلك مع السكان النوبيين المحليين في هذه البلاد وتصاهروا مع زعمائهم في دنقلة (دنقلا العجوز) حتى صار إلى زعماء عرب بنى ربيعة المُلك والحكم في بلاد النوبة أيام دولة سلاطين المماليك (648-923هـ/ 1250-1517م)، وكان ذلك في حوالي سنة 724هـ/ 1323م.

 

وبذلك تمكن بنو الكنز من قيام "دولة الكنوز"، ولكن مرت هذه الدولة بمرحلة جديدة من تاريخها بعد أن انتقل حكامها من بني الكنز إلى بلاد النوبة خلال حقبة القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي.

 

أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الإفريقي

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز