عاجل
السبت 28 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي

بلاد النوبة.. أرض الذهب

د. إسماعيل حامد اسماعيل
د. إسماعيل حامد اسماعيل

عُرفت أرض السودان Sudan - الحالي جنوب التخوم المصرية- خلال حقب العصور القديمة بالعديد من الأسماء ذات المعاني والدلالات المختلفة، ولعل أهمها "بلاد النوبة"Land of Nubia ، كما كان يطلق عليها أيضًا "أرض كوش" Land of Kush، وهي المنطقة التي كان يُقصد بها (النوبة العليا)، وهي النوبة السودانية.



 

وبحسب رواية الأسفار التوراتيةBiblical Books -- فإن (كوش) هو جد النوبيين، وهو أخو "مصرايم" (جد المصريين)، وكلاهما كان ولدًا لـ"حام"، وهو ابن نوح (عليه السلام)، واسم بلاد "النوبة" باللغة المصرية القديمة مشتق من الكلمة "نوب" Nub، وهي التي تعني: (الذهب)، وكانت تشتهر بلاد النوبة منذ القدم بمناجم الذهب، والتي كان يستغلها فراعنة مصر.

 

وتقع (بلاد كوش) القديمة في المنطقة التي تقع جنوبي "الشلال الأول" أو الجندل الأول، وقد انضمت بلاد كوش إلى الحكم المصري القديم منذ حوالي سنة 2000 ق.م، وتم ذلك منذ أيام "الدولة الوسطى" (2055-1795 ق.م)، وبالتحديد في عصر الملك المصري "سنوسرت الثالث" (1874-1855 ق.م).

 

ومن جانب آخر فإن اسم "واوات" Wawat كان يشير إلى بلاد "النوبة السفلى"، وهي المعروفة باسم "النوبة المصرية"، وهي المنطقة التي تمتد من ثغر أسوان جنوب مصر، وحتى الحدود المصرية– السودانية في أقصى الجنوب.

 

وعلى أي حال تقع أرض النوبة بصفة عامة في المنطقة بين الجندل الأول والجندل السادس، وعلى هذا تمتد بلاد النوبة من أسوان شمالًا إلى مدينة الخرطوم، بينما تعرف المنطقة التي تمتد ما بين الجندل الأول والجندل الثاني باسم بلاد "النوبة السفلى"Lower Nubia، أما تلك المناطق الأخرى التي تقع فيما بين كل من الجندل الثاني والجندل السادس، فهي التي يطلق عليها اسم بلاد "النوبة العليا" Upper Nubia.

 

وتكتب كلمة "النوبة" بضم النون، وسكون الواو، وفتح الباء الموحدة، وهاء في الآخر، وأول تخوم بلاد النوبة تقع عند قـرية تُعرف باسم "القصر"، وتبلغ المسافة من مدينة أسوان إلى هذه القرية حوالـي خمسة أميال، وآخر حصن للمسلمين هناك يقع عند جزيرة تدعي باسم "بلاق".

 

ولهذا يقول اليعقوبـي (ت: 292هـ/904م) في روايته ذات القيمة التاريخية نظرًا لقدمها مقارنة بروايات المؤرخين الآخرين ممن جاءوا من بعده: "فأما النوبة فـإنها لما صارت في الجانب الغربي من النيل، جاورت مملكة القبط..."، وعلى أي حال يذكر أبو عبيد البكري (ت: 487هـ/ 1094م) أن المسافة بين الواحـات التي تقع غرب الأراضي المصرية من جانب وبلاد النوبة من جانب آخر، تبلغ حوالي ست مراحل.

 

بينما يشير الجغرافي (الفارسي) "الاصطخري" (وهو المتوفى سنة: 346هـ/ 957م) واسمه نسبة لمدينة اصطخر في بلاد فارس، إلى أن المسـافة بين كل من ساحل "بحر الـروم" إلى بلاد النوبة من وراء الـواحات تبلغ نحو خمسة وعشرين مرحلة.

 

أما الجغرافي المغربي (أبو محمد الزُهري) (عاش إبان القرن: 6هـ/ 12م)، وهو من الجغرافيين المغاربة الذين تحدثوا عن بلاد النوبة وسكانها المحليين، فإنه يضع أراضي النوبة ضمن بلدان "الجزء السابع" من المعمور من الأرض، أما عن حدود هذا الجزء حسب ما ورد في روايته، فهي أربع جهات: "بلاد السودان، والحبشة، وبلاد الزنج، وكذلك بلاد النوبة".

 

بينما يشير مؤرخ آخر، وهو إسماعيل أبو الفداء (ت: 732هـ/ 1331م) في كتابه "المختصر في أخبار البشر" إلى أن النوبيين يعدون من أمم السودان، وهي الشعوب التي تجاور تخوم بلاد الحبشة من جهة الشمال والغرب.

 

وتذكر إحدى المخطوطات الموسومة بـ"مخطوط مختص بأرض النوبة": "وأما النوبة فافترقت فرقتين، فرقة شرق النيل وغربه، واتصلت ديارهـا بديار البقط، واتسعت مساكن النوبة على شاطئ النيل، وبنوا دار مملكة، وهي مدينة عظيمة تدعي دنقـلا، والفريق الآخر يقال لهم علوة، وبنوا مدينة عظيمة سموهـا سوبة..".

 

ويُعد "هيرودوت" Herodotus (عاش حوالي سنة 445 ق.م) أقدم من تحدث عن النوبة من المؤرخين القدامى، ثم يأتي من بعده استرابون Strabo (القرن الأول الميلادي)، بينما يشير البعض إلى أن النوبيين ربما كانوا فرعـًا من فروع "شعب النوبا" الـذين يسكنون المناطق الجنوبية من إقليم كردفان، وهي المنطقة المعروفة باسم "جبـال النوبا"، وكذلـك "جبال كردفـان"، وعلى هذا فإن النوبيين يعدون من الشعوب ذات الأصول الإفريقية.

 

ويذهب آخرون إلى أن النوبيين من ذوي الأصولٍ البربرية، وكان قد دعاهم الإمبراطور "دقلديانوس" Diocletian للاستقرار في أرض النوبة لمواجهة اعتداءات البليميين في بلاد البجة شرق النيل، ويقال أيضًا إن النوبيين ينتسبون إلى "نوبي بن قفط بن مصر"، وهو من ولد حام بن نوح عليه السلام، وقيل إن جدهم في الأصل كان من اليمن.

 

بينما يذكر المقريزي (ت: 845هـ/ 1441م): "وأكثر أهل الأنساب على أنهم (أي النوبيين) جميعًا من ولد حام بن نوح...".

 

ولعل انتساب النوبيين للمجموعة الحامية هو الأمر الراجح، وأطلق المصريون على "بلاد النوبة" اسم: "أرض الذهب" Land of Gold.

 

وفيما يرى ثلةٌ من الباحثين أن أصل لفظ "النوبة" ذاته ليس مشتقًا من كلمة "نوب" التي أنف ذكرهـا، بل إن هذا اللفظ مأخوذ من اللفظ (Nebed) الـذي يعني (ذوي الشعر المضفر) The Plaited Haired. غير أن الرأي الأول هو الراجح، وكانت بلاد النوبة قد تحولت رسميًا إلى المسيحية Chrisianity أيام أحد الملوك القدامى "سيلكو".

 

الملك سيلكو (حوالي القرن 6م):

 

يعتبر الملك "سيلكو" Silko من أشهر الملوك في تاريخ بلاد النوبة، وإن كنا في حقيقة الأمر لا نعرف الكثير من الأخبار أو المعلومات عن فترة هذا الملك النوبي، وتكاد تكون المصادر التاريخية جد شحيحة في هذا الشأن، لكن من المعلوم أن الملك سيلكو كان يحكم بلاد النوب في حوالي سنة 450م، ومن أشهر ما ارتبط به هذا الملك أن المسيحية صارت الديانة الرسمية في بلاد النوبة خلال فترة حكمه.

 

وبدأ التحول الديني المهم في هذه البلاد أيام الملك سيلكو، خاصة مع قدوم البعثات التبشيرية Missions التي أرسلتها الإمبراطورية الرومانية، خاصة تلك البعثة التي قـادها أحد الرهبان واسمه: "الراهب جوليان" Julian حوالي سنة 543م، ومن جانب آخر قيل حسب بعض الروايات: أُرسلت هذه البعثة في سنة 542م.

 

وربما كانت هذه البعثة التي أرسلتها الإمبراطورة "ثيودورا" Theodora، وكانت زوجة الإمبراطور الروماني "جستنيان" Jutinian. وقد ظلت هذه البعثة التبشيرية في بلاد النوبة حوالي عامين، ونجحت في أن يعتنق الملك سيلكو (ملك النوبة) المسيحية، وحسب المؤرخ اليونانـي "يوحنا الإفسسي (أي من مدينة إفسوس)" John of Ephesus، أرسل الإمبراطور جستنيان بعثة إلى النوبة الشمالية سنة 540م، تمكنت من نشر المسيحية.

 

ويشير بعض المؤرخين إلى أن الملك سيلكو هو الذي ينسب له تأسيس مدينة دنقلا (دنقلة) العجوز، ويحددون الفترة التي أقام فيها هذه المدينة في سنة 450م.

 

ويشير المستشرق البارز في الدراسات النوبية (أو السودانية) "هـارولد ماكمايكل" Macmichael، وهو رغم خلفيته الاستعمارية- باعتباره ممن تولوا أمور الحكم في السودان باسم بلاده إنجلترا- إلا أن هـ. ماكمايكل– وللحق- يعتبر من كبار المستشرقين والمتخصصين في تاريخ بلاد النوبة، وكذلـك سودان وادي النيل خلال حقبة (العصر الوسيط)، إلا أن النوبيين المحليين كانوا قد اعتنقوا "الـديانة المسيحية" خلال النصف الأخير من القرن السادس الميلادي.

 

بينما يحدد من جانب آخر بعض المستشرقين الغربيين، ومنهم البروفيسور "بـول بـاورز" Paul Bowers أن السكان في بلاد النوبة كانوا قد تحولوا رسميًا إلى العقيدة المسيحية في حوالي سنة 540م.

 

وفيما تذهب ثلة أخرى من الباحثين إلى أن انتشار المسيحية في ربوع النوبة كان قد بدأ منذ حقبة مبكرة عن تلك التي أوردها الباحثون السابقون، ويشير أصحاب هذا الرأي إلى أن انتشار الدين المسيحي في هذه البلاد النائية ربما يرجع لحقبة القرن الميلادي الأول، وكان ذلك التحول الديني على يد عدد من الرهبان المصريين الذين كانوا قد استقروا في هذه البلاد.

 

ويمكن القول إن الديانة المسيحية بدأت إرهاصاتها المبكرة الأولى في مدن وقرى "بلاد النوبة" منذ القرن الأول، ثم صارت "الديانة المسيحية" بمثابة الدين الرسمي في هذه البلاد إبان القرن السادس الميلادي، لا سيما مع قدوم حملات التبشير المسيحي من جانب أباطرة الدولة الرومانية.

 

وعلى هذا قامت في "بلاد النوبة" بعض الممالك المسيحية التي اعتنق ملوكها وسكانها العقيدة المسيحية، وتم ذلك تقريبًا بعد أن سقطت "مملكة مروي " القديمة Meroe خلال القرن الرابع الميلادي بعد أن غزاهـا الملك الحبشي (الأثيوبـي)، وهو الذي اشتهر باسم: الملك (عيزانا)، وهو حاكم (مملكة أكسوم) Axum، وهي المملكة التي قامت في بلاد الحبشة القديمة.

 

وعدد تلك الممالك النوبية ثلاث، وقد قامت على أنقاض أراضي مملكة مروي القديمة (أو مملكة كوش)، وهذه الممالك النوبية هي: مملكة نوباديا ومملكة المقرة ومملكة علوة.

 

أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الإفريقي

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز