عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
تساؤلات وحيرة الأستاذ هيكل!

الغربة الأولى 14

تساؤلات وحيرة الأستاذ هيكل!

كان مبنى "الأهرام" الجديد في "شارع الجلاء" (شارع الصحافة) على رمية حجر من مقر "هيئة الكتاب"، فعرّجت عليه لزيارة زملاء المهنة، ماهر الدَّهبي وسمير صبحي، المديرين الفنيين للجريدة.



 

علاقتي بجريدة "الأهرام" قديمة تعود إلى زمن مبناها القديم في "شارع مظلوم" في وسط البلد، فلقد كان والدي، حكيم واصف، رئيسًا لقطاع إنتاج الإعلانات لمطبوعات المؤسسة، وكان يعاونه وقتها عبد الله عبد الباري، الذي تدرج فيها إلى أن أصبح رئيسًا لمجلس إدارة "الأهرام"، وسامي هاشم الذي اختاره "الصحفيون المتحدون" لإدارة شركتهم، ومع انتقال "الاهرام" إلى مبناها الجديد، حاول والدي، مرارًا وتكرارًا، إقناعي بالعمل في الجريدة، فقد كان من حق العاملين بالمؤسسة تعيين الأبناء في وظائف ومناصب تتناسب مع مؤهلاتهم وخبراتهم، لكني تمسكت بحبي وانتمائي لمؤسسة "روزاليوسف"، فما شعرت يومًا بأي شيء يشّدني إلى "الأهرام"، الجريدة والمؤسسة.

 

في البهو الفسيح لاستقبال الزوار، سألت الموظفة عن زميلي الصديقين، فأبلغتني أن سمير صبحي يعمل بالوردية المسائية، وماهر الدهبي هو في الآن في مكتب نوال المحلاوي، مديرة مكتب محمد حسنين هيكل، وكنت أعرف، كما القاصي والداني في الوسط الصحفي، أن نوال المحلاوي لم تكن مجرد سكرتيرة أو مديرة مكتب، فقد كانت تشهد صدور الطبعة الأولى للعدد اليومي، وأحيانًا تبقى حتى منتصف الليل، ومن ضمن مهامها الصباحية، مراجعة ما تنشره الصحف العالمية والعربية عن مصر والمنطقة العربية، وتتابع أهم الأنباء المحلية والعربية، لتضع أمام رئيس التحرير تقريرًا شاملًا حولها، وكانت ممسكة بمعظم خيوط العمل في قاعة التحرير، استأذنها الدهبي لاستقبالي في مكتبها فرحبت.

 

جذبتني نوال المحلاوي ببساطتها، إن في ملابسها، أم زينتها، عينيان عسليتان، يندلق منهما بريق غريب، جاذب، قوية الشخصية، تنعكس على قسمات وجهها، رقة نفس عذبة، هادئة، متلطفة، كل ذلك، إلى ذكاء حاد، راقبت بتعجب احتفاء ماهر الدهبي بي، وعلى الطريقة المصرية، "استقبلني بالأحضان"، وهو كان يجلس في مكتب نوال المحلاوي، بانتظار مقابلة "الاستاذ" هيكل.

 

علاقتي بماهر، طيب الله ثراه، امتدت على السنوات، وكان يأتي إلى بيروت مشاركًا في بعض الندوات، أو لحضور دورات تدريبية للصحفيين، كانت تُجرى في فندق "البستان" في "بيت مري"، جارة "برمانا" في المتن الشمالي.

 

تولى ماهر الدهبي السكرتارية الفنية لتحرير "الأهرام"، وختم حياته مديرا لتحرير مجلة "نصف الدنيا" النسائية، وكان على الرغم من أعبائه وثقل مسؤولياته، يجد وقتًا ليحاضر في "كلية الإعلام" في جامعة القاهرة، وفيما بعد بزمن، في "جامعة اليرموك" الأردنية. حمل تقدير وثقة الاستاذ بالشراكة مع رفيق دربه وشريكه في الإخراج الفني للجريدة سمير صبحي، أطال الله في عمره، الذي كان يحب أن يطلق عليه "سمير صحفي"، وقد تقاسم الإخراج الفني للجريدة، وانتهى مستشارًا لرئيس تحرير "الأهرام". كما ترك على أرفف المكتبات غير كتاب، وكتبه غَدَت من أهم المراجع الصحفية، وسجل تجربته الغنية في كتاب "الجورنالجي".

 

كان سمير الرجل الثاني بعد رئيس التحرير، وهو من أول دفعات قسم الصحافة بآداب القاهرة، وأسهم مع الراحل حسني جندي في تأسيس "الأهرام ويكلي" باللغة الانجليزية.

 

كنت أحمل معي في زيارتي للأهرام نسخًا، هدايا، من باكورة إنتاج فرع "الهيئة" في بيروت للصديقين الدهبي وصبحي.

 

تناولت نوال المحلاوي نسخة، قلّبتها وبدأت تدقق، تدقيق العارف، بالطباعة وشكل الأحرف، والتجليد المتقن. بينما لوّن الدهبي وجهه بالانبهار، فأطرى التصميم والإخراج، ودُهش من الطباعة والتجليد.

 

وفي غمرة التأمل والاستطلاع خرج محمد حسنين هيكل من مكتبه مودعًا ضيفه وصديقه الدبلوماسي اسماعيل فهمي. تقدم من طاولة نوال، لفته الكتاب، رفعه، فرَّ صفحاته. تدخل الدهبي خطف هيكل من استبحاره في الكتاب:

"مودي حكيم، المسؤول عن الإخراج الفني وطباعة هذه الكتب، إنه يعمل في فرع هيئة الكتاب في بيروت". مسح وجهي بعينين مرحبتين، شدّ هيكل على يدي وهو يسألني:

"حكيم واصف... يبقالك إيه؟"

بتلقائية أجبته:

" والدي... ".

ترك على شفتيه ابتسامة تمددت لها قسمات وجهه، وشَرَع يزيد والدي ثناء:

"والدك ده، له أفضال على "الاهرام".

وتنبَّهَ، تناثرت عباراته، ضحك ضحكة فيها تعجب وحيرة:

"إنما... تعالى هنا، قلي لماذا لم تنضم إلينا، وفضلت الست روزاليوسف ومجلاتها علينا؟!".

أدرك أنه أحرجني، فلم يتمادى، غيّر الحديث، دعاني إلى مكتبه، وأغلق الباب خلفه.

الطاولة التي جلس إليها، معجوقة بالأوراق والجرائد. لمحت جريدة "النهار" البيروتية، ونسخة من "الأهرام"، وأخرى من "الأخبار" و... "روز اليوسف". 

مسَّ وجهه شيء من الاعتزاز، ثم قطب، رنا إليّ مليًا، وسأل:

"ما سرَّ بيروت، في رأيك، ولماذا في مصر لا نتمكن من إنتاج كتب على غرار ما أنتجتم في بيروت إن طباعيًا أو تجليدًا". سكت هنيهة، هز رأسه بتقزُّزٍ، تأهبت للرد، سَحَبَ الكلام مني مجددًا، صافحت عيناه نسخة "الأهرام"، مضى ساردًا ما كان: "من سنوات، قررنا في "الأهرام" تجديد آلات المطبعة، فاخترنا أحدث الآلات التي أنتجتها مصانع "هايدلبيرج "Heidelberg في مجال طباعة "أوفست" Offset Press،... ولكن لم نتمكن من الحصول على نقاوة الألوان". سكت، انتظر أن أرد... فرددتُ:

"يا فندم... عندك الآلة، وليس عندك الإنسان".

باغته كلامي، تأملني، رسم بنظراته علامات استفهام، لمحت ذهولًا في عينيه، فاندفعت أبدده: "المشكلة، أننا لا نضع الإنسان المناسب في المكان المناسب".

فتح عينيه على اتساعهما، كأنه أراد أن يتأكد من صحة ما سمع، تابعت:

"غالبية عمال المطابع جاءوها عنوة، مغصوبين على العمل فيها، فقد رفدوا إليها، وأُجبِروا، بحكم الظروف، على تقبلها. ولذلك، فإنك مهما دربتهم، وصرفت من وقت على تعليمهم سر المهنة، فإن تقبلهم سيبقى محدودًا، لأنهم في الأصل لا يحبون المهنة. فلكي تنجح، وتنتج جيدًا، يجب أن تحب ما تعمل. وفي النهاية الآلة في خدمة الإنسان وليس الإنسان في خدمة الآلة، الآلة تعطيك الكثير، إن عرفت التعاطي معها وتفهمتها".

 

" إذًا، ماذا يفرق الصنايعي المصري عن اللبناني؟" أجبت على الفور وبتلقائية:

"حب المهنة والمبادرة الفردية". سألني بعينيه قبل لسانه، خطفت منه الكلام قبل أن يسأل:

"يا فندم... كان همّ الدولة عندنا القضاء على البطالة، لذلك توّلت عبر "القوى العاملة"، إيجاد عمل لكل خريج أو متقدم لها بطلب عمل، وكان أن المهندس الزراعي بدلًا من أن يعمل في الزراعة، أصبح موظفًا إداريا في حديقة الحيوانات، وخريج التجارة وإدارة الأعمال راح يعمل في الزراعة... وطبعًا عندما تجد "القوى العاملة" أماكن شاغرة في مطبعة من المطابع، يحشرون فيها أي طالب عمل، مهما كان اختصاصه، فيتراكم في المطابع، وفي إدارات القطاع العام، من ليسوا في الأمكنة المناسبة، وتبعًا لذلك، لا أحد يحب العمل الذي أُجبر عليه، ليتمكن من وضع طعام على الطاولة، وسداد فواتير النور والماء والهاتف... وهذا ما أدى إلى قتل المبادرة الفردية والرغبة في المنافسة وتغيير الأوضاع".

 

"كل ما تقوم به الدولة في لبنان هو تقنين وترتيب تلك المبادرات، مع إعطاء الإنسان المُبادر والطمَّاح، كل الحرية، إن في الاستيراد أو التصدير، أو الاستحصال الهين على رخص تأسيس الشركات، وإنشاء المطابع وخلافهما..." أخذتُ نفسًا عميقًا وواصلت الحكي:

"تعرف.. إن غالبية أصحاب المطابع الكبرى في بيروت، بدءوا العمل أُجراء، بادروا، وغامروا، ونافسوا، ونجحوا".

 

انتصب، زّرر سترته، رن جرس الهاتف، رفع السماعة، مدَّ يده، ضغط على يدي مودعًا، تركته غارقًا في المكالمة الهاتفية، و... خرجت.

كانت تلك المرة الأولى، والأخيرة، التي اإلتقيت فيها محمد حسنين هيكل، وتحدثت إليه.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز