عاجل
السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
 النجاح بين الشك واليقين!      

الغربة الاولي 13

النجاح بين الشك واليقين!      

"يا فتاح يا عليم..." مَدَّ سي عبدالغفار أفندي صوته متأففًا، ضرب كفًا بكف، طَوى ظهره وهو يحمل صناديق الكرتون، ويبعدها جانبًا ليتمكن من الوصول إلى طاولة مكتبه، المتخمة بالإضبارات، والملفات الحبلى بالفواتير والأرقام.



 

انشق فم علاء توكل عن ربع ابتسامة، رماه بعينين ممتعضتين، تَنَهَّدَ وزَفَرَ، كأنه يلعن، وأظهر أنه لم يسمع شيئًا، وأكمل فتح الصناديق، وتناول الكتب منها، فكانت فاطمة، تطعمها لمظاريف كبيرة، عليها أسماء الصحفيين المسؤولين عن الصفحات الثقافية في الجرائد اليومية والمجلات الشهرية والفصلية.

 

كانت الصحافة اللبنانية، وقتذاك، في أوج تألقها، والصفحات الثقافية فيها ممتلئة بما يَشِعُّ، تغلي وتَفورُ أخبارًا، ومساجلات يرتفع ضجيجها، ونقاشات فكرية محتدمة، تعّمق المعرفة، وتشي بالحرية التي كان لبنان يرفل بها، وإصدارات تُغَرْبَلُ على غِربال النقد ومِنْخَلِهِ، ولمقالات النقاد، إذ ذاك، سطوة ودوي وصدى، فصرير أقلامهم مرهوب الجانب.

 

وكان لنا، إسلام شلبي وأنا، في غير جريدة ومجلة، أسوة حسنة من النقاد، فكتبوا أحرفًا ممشوقة في طلاقة التعبير، وكان الرأي عند جلّة أهل النقد، إطراء، لما قمنا به وإعجاب عميم بما حققناه.

 

لم يكن سي عبد الغفار أفندي يمتعض وحده من تلك الصناديق، التي ضاق المكتب بها، على أننا كنا نخفي تضايقنا، ولم نجهر به، فبعض تلك الصناديق، جهزها علاء توكل للشحن إلى الموزعين في عدد من دول الخليج، وتنتظر شركات الشحن التي تعاقد توكل معها. أما كميات لبنان، فقد انتشرت في المكتبات الكبرى في بيروت وضواحيها.

 

سالت أشعة الشمس على حيطان غرفة المكتب، قمت إلى النافذة، النافذة علاقتي الوحيد بالعالم الذي تتهالك به السرعة. سَرَحَ نظري، مرَّ في مخيلتي شريط صور متلاطمة، متدافعة. استرخيت على الكرسي، أرسلت عيني نحو كتاب "عودة الوعي"، المحشور بين الأوراق المبعثرة على الطاولة. صَهْلَلَ الصوت في داخلي: لماذا لمّا تزل مبهورًا بتلك الكتب، في بيروت؟ أمر عادي أن تخرج كتب على هذا الرونق والمستوى من مطابعها، التي تتدفق من آلاتها 7500 كتاب سنويًا.

 

خواطر، مثل البرق، برقت في رأسي، أرسلت يدي اليمنى نحو المنفضة تبحث عن الغليون، الذي انطفأ ناره، وبردت جوزته، فأولعته. عاد الصوت في داخل، يلح، فصحت معه: ماذا تراه ينتظرنا، إسلام شلبي وأنا، في القاهرة التي قررنا السفر إليها حاملين نتاجنا الجديد، ثم إنه لا بد أن يقارنوا بين ما نحمله إليهم، وما عندهم، بين إنتاجنا في بيروت، وما أنتجوه في القاهرة.. وتلك مقارنة لها ردود فعل، نعرفها ونتنبأ بها.

 

الغليون ثقيل على أسناني، لا أعرف كم مضى عليه وهو في فمي، أعضه، وأعبّ من تبغه.

 

تنحنحَ، بقيت ساهيًا، تَكَوَّرَ شيء من الاستغراب في عينيه، نادي عليَّ، أعادني صوت إسلام شلبي إلى صوابي.

 

"عاوزين نراجع أوراقنا قبل سفرنا".

 

قال، ومشى إلى غرفة مكتبه.

 

تاهت يدي على الطاولة، تفتش بين الأوراق المتراكمة والمبعثرة، وأقلام التلوين، عن دفتر الملاحظات الصغير، الذي ما كان يفارقني. وجدته، أفرجت عنه من حبس الأوراق التي طوقته، و... خرجت.

 

انطلقت عينا إسلام شلبي، تعبثان في الأوراق أمامه. صرفنا ثلاثين يومًا في البحث، والنقاش، والمراجعة، والتدقيق، والأخذ والرد، والمقارنة، والجمع، والطرح، والوقوف عند كل فكرة، نشبعها تبحرًا، وتأملا، وتفسيرًا... حتى تجمعت تلك الأوراق التي أخذ إسلام يفّرها ويقرؤها، وكتب على أول ورقة: "مشروع مطبعة للهيئة في بيروت" وسطر آخر: "دراسة جدوى".

 

لم تكن فكرة المطبعة تلك، بنت ساعتها، أو نزوة عابرة، إنما كانت لها أسبابها ومراميها، وكان الهمُّ الكبير والأساسي هو كيفية تخفيض تكاليف إنجاز كتب "الهيئة": تجهيزات "أوفست"، من التصوير، وفرز الألوان، والمونتاج، ثم تكاليف الطباعة، التي يمكن، بحسب الخطة التي وضعناها واحتسبها سي عبد الغفار بالقرش والليرة، تغطيتها مما قد تجنيه المطبعة من دورانها على الأشغال التجارية.

 

ولم نكتف بالطباعة وتكاليفها، بل عرّجنا على مسألة تخفيض كلفة الشحن فمع تزايد أسعار "الشحن الجوي"، أخذت دور النشر الكبرى وشركات التوزيع تعتمد "الشحن البري"، ومع تزايد عدد شركات الشحن، قامت المنافسة بينها، فانعكس ذلك على الأسعار، فتدنّت كثيرًا مقارنة بسعر الشحن الجوي. واحتسب علاء توكل كلفة شحن كتب "الهيئة" بالشحن البري (من لبنان، عبر سوريا إلى المملكة الأردنية الهاشمية، ومنها إلى الخليج المتصالح) مقارنا بين كلفتها في الشحن الجوي، فوجد البون شاسعًا بين الاثنين، الأمر الذي جعل إسلام شلبي يضيف إلى دراسة جدوى المطبعة مسألة الشحن البري.

 

شلح إسلام شلبي على وجهه نظرة مشحونة بالرضا والاعتزاز، لملم الأوراق، رتبها في ملف، أدركت وأنا أسمع وأناقش مقاطع الدراسة، أننا كما نجحنا في أول إصداراتنا، نجحنا في وضع ما قد يفيد "الهيئة" على المدى الطويل، وما ننتظره أن يتحول ذلك النجاح إلى يقين.

 

تجمدت أصابع إسلام شلبي على قبضة القلم، فاجأني بالسؤال:

 

"ما رأيك؟

 

قبل أن أفرج عن الكلام من بين شفتي، أكمل:

 

"تراهم سيوافقون، أم سنجد من يقف عثرة أمام تحقيق المشروع؟"

 

ولم ينتظر أن أجيب، علّق سيجارة بين شفتيه، أولعها، عبّ نفسًا عميقًا، قال والدخان يخرج مع كلماته من فمه:

 

"إن وافقوا، كان بها، وإن انشق رأيهم حولها، وكان من عارض، فأنا ماضٍ في المشروع من دون الهيئة؟".

 

توقف عن الكلام، شعرت بأنه ينتظر أن يقرأ في تقاطيع وجهي انطباعًا حول ما قال، دارت في رأسي الأفكار، حاولت أن أعثر على واحدة تفيد الموقف، بقيت ساكتًا، فسرح نظره في سقف الغرفة.

 

نقرت على الباب نقرات خفيفة، دخلت فاطمة، ردت بأصابعها خصلة من شعرها الخروبي اللون المنسدل على كتفيها، برق في عينيها العسليتين سحر غريب.. بعدما طلبت جوازي سفرنا لحجز بطاقات السفر، قالت بغنج، ورمت علينا ابتسامة فتانة: "خطوبتي بعد أسبوعين..."

 

التقته في المصعد، فهو يعمل في "دار الشروق" في المبنى ذاته، وتكرر اللقاء، وكان كلام، ومواعيد في فترة الظهر، وكان الحب، والتفاهم على الزواج.

 

طار إسلام شبلي بزهوه، لنتفض من وراء الطاولة:

 

"ألف مبروك... الآن عرفنا أين كنت تذهبين ساعة الغداء كل يوم..."

 

ضحكتُ ضحكة عامرة، مليئة بالغبطة، قبّلتها في جبينها:

 

"بنوتة المكتب صارت عروسة... ".

 

ارتخيت على المقعد قرب النافذة، سِحْتُ مع الغيوم التي يتلاعب فيها الهواء، وينثرها في الفضاء الوسيع، فترتطم بالطائرة، التي تحلق، سابحة بين تلك الغيوم.

 

ومع أن المسافة بين مطار بيروت ومطار القاهرة قصيرة بحسابات الطيران، إلا أنني خلتها دهرًا. طاب لي الاستسلام للأفكار التي احتوتني، غمرني الشوق لرؤية "المحروسة"، واشتعل بي توهج لشوارعها وأزقتها وحواريها، لعجقة ناسها المهرولين وراء "لقمة العيش"، ولمشاهدة "الباصات" المتخمة بالركاب، و"زمامير" سيارات الأجرة التي تتزاحم لاصطياد راكب، وصفارة الشرطي الواقف تحت صنين الشمس، ينظم زحمة السير، ويضبط إيقاعه الرتيب، وزعيق الباعة الجوالين الذين ينادون على بضاعتهم، وترنيمة الأجراس، ودعاء الآذان.

 

وتنزل الطائرة من علٍ، تكرج على المدرج، تتباطأ ثم تَهْمُدُ، من خاصرتها يفتح باب، يتمدد قبالته سلم. تَطِلُّ، تنزل درجات السلم، الشمس التي خانت الغيوم، محمرة العين، حارقة، تلفحك نسمة ساخنة، تدغدغ وجنتيك، تستيقظ حواسك، تسلِّم نفسك، وترخي رأسك على "المحروسة" التي تحب.

 

كان الموعد في مقر "الهيئة"، الرابض في "كورنيش نيل" القاهرة، في منطقة "بولاق"، المواجهة لمنطقة "الزمالك"، التي تتأنق فيها عماراتها وشوارعها، على ضفة النهر الأخرى.

 

لما دخلنا عليه، إسلام شلبي وأنا، انتصب الدكتور محمود الشنيطي من وراء طاولة مكتبه، مشي إلينا، فرحه كله تجمع في عينيه، وهو يرحب بنا، مهنئًا على ما أنجزناه في بيروت، وكان محط تقدير "الهيئة".

 

أشار بيده إلى طاولة الاجتماعات الكبيرة، مشي أمامنا، تبعناه، تصّدر الطاولة، جلس إسلام شلبي عن يمينه، وجلست أنا قبالة إسلام، عن يسار الدكتور.

 

ما عرفته عنه، سبق تعرفي عليه، وما عرفته كان مصداقًا لما رأيته عليه، فالرجل من الرعيل النادر الذي يشع اسمه في سماء العلم والإدارة، شديد الذكاء، ذو ثقافة عميقة استبحرت في لجج الثقافتين العربية والغربية، إداري ثقة، باحث طُلعة، هادئ النبرات، عذب الحديث، واضح القول.

 

دارت فناجين القهوة، ودار الكلام، سأل الدكتور الشنيطي، استفسر، استنطق، أجاب واستجاب، واهتم بسماع كل ما جئنا نعرضه عليه.

 

كان الدكتور الشنيطي، طوال الوقت، ينقل نظره بيننا وبين ورقة، وبين الفينة والفينة، يغرس فيها سن قلمه، ويكتب كل ما استرعاه من قول، أو فكرة، أو ملاحظة، ويتفاعل مع ما كان يسمعه منا، فتتغير ملامح وجهه، يعبس، يقطب، يحك رأسه، تنفرج أساريره، تتمطى ابتسامة على شفتيه ثم يزمهما، وفنجان القهوة يروح ويجيء بضع دقائق إلى فمه.

 

راح إسلام شلبي يشرح فكرة المطبعة، فكنت أتدخل عند الكلام على التقنيات، أفسرها للدكتور فيهز لها رأسه.

 

 

وطالت الجلسة، وطال الكلام واحلو لي. بدا لي الدكتور الشنيطي متفهمًا، مدركًا أهمية أن يكون للهيئة مطبعة في بيروت، ولما وضع إسلام شلبي ملف دراسة الجدوى أمامه، فتحه الدكتور بشغف ظاهر، مرَّرَ نظره على الصفحات التي كان يفرها بأصابعه بعجل، طواه، طلب منا العودة إليه بعد يومين، يكون خلالهما قد اطلع بتأنٍ على الدراسة والفكرة. شعرت بالارتياح، شاطرني إسلام الشعور نفسه. رمقني بنظرات تَنْفُذٌ وتَغوصُ في تعليل، وتقليب، واستنطاق، تغيرت نبرات صوته:

 

"ما رأيك.. هل تراه اقتنع بجدوى ومنافع المشروع، وبما شرحناه له؟".

 

رميت على وجهه نظرة واثقة:

 

"لم أفهم من كلامه، ومن تصرفاته، سوى أنه مع المشروع، ومن الطبيعي أن يطّلع على تفاصيله، ويجمع، ويضرب، ويقسم.. فالمسؤولية تحتم عليه ذلك".

 

رَبَتُّ على كتفه:

 

"اطمئن... سيوافق".

 

ويبقي السؤال: هل سيوافق الشنيطي على المشروع؟!

 

مودي حكيم

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز