عاجل
السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
لبنان مطبعة العرب!

الغربة الأولى 5..

لبنان مطبعة العرب!

الشمسُ واقفة تستحمُّ في البحر، و البحر يتمدد، يتثاءب أمامك، تغنج فيه الأمواج، تتلاطم، مرة على صخرة، و مرات تُقّبِل الرمال و تذوب عشقاً بها، والدرب الساحلية، على إمتداد البحر و الشواطئ المتباهية بحالها وبأسمائها، توصلك الى بلدة "شكا" القريبة من مدينة طرابلس، عاصمة لبنان الثانية، فأنت تقصد شمال لبنان، و "وادي قاديشا"، حيث الدير العتيق، و متحفه المحتفظ بعده بأول مطبعة عرفها لبنان و العرب.



 

تندفع الى عينيك، من غير تمهيد، و أنت تترك "شكا"، و تصعد بإتجاه الدير، طبيعة يسكنها الجمال، صخور تطل منها أعشاب برية متعددة الألوان، أشجار ترتفع، تتمايل، تغنج، تتدلل مع الهواء، الذي يعجز عن إيقاف السحاب الأبيض الذي يستر زرقة السماء.

و الدرب، تنهض من وهدة الى ربوة، تدور خلف صخرة، خلف شجرة، تُعَرِّجُ بك، على بلدة، تمر في ساحتها الصغيرة،    وتتركها بحالها و ناسها، و تكمل الدرب بك صعوداً.

و تمر على "بشري"، المنزوية في منحدر "جبل الأرز"، على ارتفاع 1400  متر عن سطح البحر، و فيها دير مار سركيس، الذي ما يزال يعابث الدهر، و يعاند منتصباً، و في "محبسته" قبر و متحف جبران خليل جبران، الذي أقيم سنة 1935، و يحوي440   لوحة من رسومات و مخطوطات، كما يضم أدوات، و ريشات الرسم، و أقلام الفحم التي كان يستخدمها في محترفه في نيويورك... و الكلام على ذلك المتحف، الذي كان بدأ العمل على توسيعه سنة 1975 و إنتهى سنة 1995، يطول، و المجال ها هنا غير منفسح.

و يطل عليك "دير ما أنطونيوس قزحيا" الذي يتقعد صخرة عملاقة تمتد طويلا، و تعرض بضعة أمتار، تظلله صخرة عملاقة أخرى، تمتد طولاً و تعلو، و تكاد أن تصل الى أوائل بيوت "عينطورين"، ثم  "إهدن".

أنت أمام أقدم دير في لبنان. يضجُّ صوت في داخلك، و أنت تمسح بعينيك المكان، و تستشعر رهبته و خشوعه :

كيف بناه النُسَّاكُ، و كيف سكنه الرهبان قبل القرن الحادي عشر، في وعورته، و كيف وصلوا إليه؟

و الدير، بناياته الثلاث، بمندلوناتها الأنيقة، تلتصق بالسفح، مثل عش نسر، مع كنيستها المنقورة في الصخر.

إزاء الدير، محبستا مار ميخائيل، و مار بيشاي المشهورتان، المحفورتان في الصخر، يعلوهما مئات الأمتار

هنا، خلف تلك الحيطان، عاش منذ ماضٍ سحيق رهبان هائمون في الأزل.

الصمت يلفك، و بعض الصمت كلام عتيق، لا تسمع إلا هدير السيل في عمق الوادي.

قبالة الدير، يطل "وادي قزحيا"، أعمق الوديان في لبنان، على إرتفاع 1500 متر عن سطح الارض، على مساحة 1210 كيلومترات، و هو يقسم الى قسمين: الأول باتجاه "إهدن" و يسمى "وادي قزحيا" (معناه "كنز الحياة")، و الثاني باتجاه "جبال الأرز"، و يطلقون عليه " وادي قنوبين (أي الوادي المقدس)" ،  و في فترة من تاريخ هذا الوادي، عاش نُساك مسلمون الى جوار المسيحيين، فيروي إبن جبير، الرحالة الأندلسي، الذي كان تجول في هذا الوادي في القرن الثاني عشر، أنه شاهد أن مسيحيي جبل لبنان، يقدمون الطعام و المؤن الى المسلمين، الذين إختاروا التنسك، و الإنقطاع عن العالم.

و الوادي يضم 73 معلماً دينياً، و111 كهفاً ومغارةً، سكنها النساك، و إنقطعوا فيها عن العالم، و فيها 12 مطحنة ومعصرة للعنب والزيتون، و12 درب مشاة، و900 صنف من الأشجار و النباتات، و في حديقة البطاركة 12 تمثالاً، و21شريطاً وثائقياً، و تسجيلات سمعية باللغات العربية، و الفرنسية، و الإنجليزية، و الإيطالية، و الإسبانية، و البرتغالية.

و... تدخل متحف "دير ما أنطونيوس قزحيا"، تدور بعينيك على نفائس فيها طيب التراث وعبق التاريخ، مخطوطات، كتب قديمة نادرة،  أدوات كتابة... وتقف دَهِشاً أمام أول مطبعة عرفها لبنان والعالم العربي، التي إستقدمها الى "دير ما أنطونيوس قزحيا" سنة 1610 تلاميذ "المدرسة المارونية في روما". وكان لتلك المدرسة، التي أنجبت العباقرة، والملافنة، تأريخ.

بعد إلتماسات رفعها  البطاركة الموارنة، الى السدة البطرسية في "الفاتيكان"، إستجاب البابا أوربانوس الثالث عشر لتوسل أبنائه"، فأسس لهم سنة 1585 "المدرسة المارونية في روما".

كثيرون في العالم العربي، بسبب من طمس المؤرخين العرب، لأهم الحقائق التاريخية بدوافع العصبية و التعصب، يجهلون  أن "المدرسة المارونية في روما" هي المشاركة الاولى في تنظيم "علم الإستشراق"، و ضبطه في الجامعات الأوروبية،     و في نشر لغات الغرب، و علومه ، و آدابه، في العالم العربي. و لولا تلك المدرسة، لما عرف العرب العاربة هذه اللغات، و العلوم، و الآداب

 

و للمدرسة تلك، الفضل أيضاً في جمع و حفظ مخطوطات كنوز الفكر العربي و الإسلامي، المبعثرة في مختلف الأمصار و الأصقاع، و حفظها، و تبويبها حسب قيمتها التاريخية و الفكرية، ثم ترجمة روائعها، و إطلاع الغربيين على الحضارتين العربية و الإسلامية، فقام تلاميذ "المدرسة المارونية في روما"، بترجمة العديد من مخطوطات التراث الإسلامي، الى الفرنسية، و الإيطالية. فأمدت تلك المدرسة الغرب بعلمائها، يخدمون "الإستشراق"، و"الإستغراب" و ترجمة، و تأليفاً       و تدريساً.

عندما دارت مطبعة "دير مار أنطونيوس قزحيا" تطبعُ، كان أكثر  العالم المتمدن الآن، يرى في تلك الآلة، شيطاناً رجيماً،  و مخرباً، و مهدماً! فلم تنشأ مطبعة في السلطنة العثمانية إلا سنة 1717، أي بعد مئة و سبع سنوات، من تأسيس أول مطبعة لبنانية،  و قد سُمِحَ بتأسيس "مطبعة إسطنبول" بموجب فرمان من السلطان و بشروط و تحفظ .

   دير و مطبعة "مار أنطونيوس قزحيا"

في سنة 1610 طبعت مطبعة قزحيا "سفر المزامير" باللغة العربية، إنما بالحرف السرياني، (الكرشوني) كما كان شائعاً في لبنان في هاتيك الزمن. نسخة سنة  1585 من هذا الكتاب  مفقودة ، و يوجد وصف دقيق و مفصّل لها وضعه الأسقف إسطفان عواد السمعاني بعد أن أمضى 37 عامًا في مكتبة الفاتيكان و توفي في روما عام 1782. أمّا نسخة العام 1610 الأصلية فهي محفوظة في "المكتبة الوطنية" في باريس، و أخرى في "جامعة الروح القدس "في "الكسليك".

في أوائل القرن التاسع عشر، تأسست في "دير طاميش، من أعمال منطقة "كسروان"، مطبعة سريانية، و في سنة 1855 تأسست مطبعة عربية في الدير نفسه

ولتاريخ الطباعة في لبنان بقية

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز