هكذا توطدت علاقة والي "مُمباسا" الكينية بسعد باشا زغلول
- النحاس باشا توسط لقيد نجل الزعيم الإفريقي بمدرسة فيكتوريا بالإسكندرية.. والملك حسين كان أحد زملاء دراسته
شاءت الأقدار أن تنشأ صداقة بين الزعيم الشيخ مبارك الهنائي، والي ممباسا بدولة كينيا شرق إفريقيا (1896– 1959)، وباشا مصر سعد زغلول، مفجر ثورة 1919 وزعيم الأُمة المصرية (1858- 1927) وبعض رفاقه من القيادات المصرية في العشرينيات من القرن الماضي.
بدأ التعارف بينهم من المعاملة الطيبة التي أسداها الشيخ لزعيم الأمة ورفاقه عند توقف السفينة التي تقلهم بميناء ممباسا الشهير، قادمين من منفاهم بجزر سيشيل، وفي طريقهم إلى منفى آخر بجبل طارق، وكان النظام يقضي بعدم السماح لهم بالنزول إلى اليابسة كونهم معتقلين، إلا أن الشيخ مبارك تمكن بنفوذه من اعتلاء الباخرة والتعرف عليهم، والحصول على موافقة سلطة الحماية البريطانية باستضافتهم في منزله خلال فترة التوقف في الميناء، التي امتدت لثمانية أيام من 9 إلى 16 يونيو 1923، وكان يرافق سعد باشا زغلول كل من: فتح الله بركات، وعاطف بركات، ومصطفى النحاس باشا، ومكرم عبيد باشا (المصدر ناصر الريامي: "زنجبار شخصيات وأحداث"- الطبعة الأولى، ص 200- مسقط 2009).
وظهرت حفاوة الاستقبال وكرم الضيافة بما يليق بمكانة باشا مصر ورفاقه، فلقد أحضر الهنائي من يفصل لهم ملابس جديدة، غاية في الروعة، للمحافظة على كرامتهم ووجاهتهم ومظهرهم، وأقام لهم- قبيل مغادرتهم- حفلًا كبيرًا في بيته دعا إليه عددًا كبيرًا من الجالية العربية والأعيان من مختلف المنابت والأصول، وكان مما لا شك فيه أن الاحتفاء برمز من أهم رموز حركة التحرر الوطني من الاستعمار البريطاني في بلد يخضع لنفس المستعمر؛ يلزمه الكثير من الجرأة والإقدام، لما يحمله من تحدٍ لسلطته.
وكان من أثر هذه الضيافة الطيبة أن استمرت العلاقة بين الشيخ مبارك الهنائي وقادة حزب الوفد المصري، وفيما بعد قام النحاس باشا بدور الراعي أو الحاضن للابن الأكبر للشيخ مبارك "فريد" الذي جاء إلى مصر في عام 1938 للالتحاق بمدرسة "كلية فيكتوريا" العريقة بالإسكندرية، وعمره لم يتجاوز الثامنة، وهي مدرسة معروفة بدورها في إعداد زعماء الدول وقادة المستقبل، وكان خريجوها يحصلون على قبول غير مشروط- حسب رغبتهم- بجامعة كمبريدج أو أكسفورد Oxford البريطانيتين، لتمكنهم من اللغة الإنجليزية.
وكان من بين زملاء دراسة فريد في تلك المدرسة، الملك حسين بن طلال، والممثل عمر الشريف، وغسان شاكر، أحد أمراء ليبيا، وأحد أبناء أسرة خاشقجي المعروفة بثرائها الكبير، والثابت أن فريد بن مبارك كان أول طالب من شرق إفريقيا يلتحق بهذه المدرسة الأرستقراطية العريقة.
والراجح أن قبوله ما كان ليتم لولا وساطة قوية من النحاس باشا، كما تشير مفكرة الشيخ مبارك، وكان الملك حسين ينظم لزملاء دراسته لقاء كل 5 أعوام، وسبق للشيخ مبارك أن حضر لقاءين من تلك اللقاءات بالعاصمة الأردنية عَمان، ويقول السفير فريد الهنائي إنه عندما وصل مصر للدراسة كان أولاد الشيخ محمد بن ناصر اللمكي قد سبقوه، وكذلك سمو الأمير عبد الله بن السلطان خليفة بن حارب، سلطان زنجبار، ومما يُذكر أن الشيخ مبارك أرسل ابنه الثاني فيصل للدراسة في الكلية العريقة ذاتها بعد عامين من إرسال فريد إليها، وبعد تخرجه التحق بجامعة أكسفورد Oxford لينال منها شهادة البكالوريوس في القانون.
وزار الشيخ مبارك الهنائي مصر 3 مرات، كانت الأولى عندما وصل بورسعيد بحرًا بتاريخ 12 أغسطس 1927، ثم برًا إلى القاهرة بتاريخ 13 أغسطس، وكان أول عمل قام به- بعد وصوله للفندق الذي سكن به- هو زيارته لسعد زغلول باشا، وفتح الله بركات.
وفي 23 أغسطس قام برحلات سياحية تفقد خلالها معالم القاهرة والريف المصري، واضطر إلى أن يقطع رحلته بالمنصورة والعودة للقاهرة للمشاركة في تشييع جثمان سعد باشا زغلول، وتقديم واجب العزاء، ثم عاد إلى مُمباسا في 29 نوفمبر من العام ذاته.
وجاء الهنائي إلى مصر للمرة الثانية، وهو في طريق عودته إلى بلدة قادما من إنجلترا في عام 1931، وكان قد قام برحلة حول أوروبا، زار خلالها باريس ونيس ومونت كارلو، وأخيرا مرسيليا التي ركب منها الباخرة (S. S Lotus N. N) التي أوصلته إلى ميناء الإسكندرية، ومنها اتجه إلى القاهرة حيث التقى مع أصدقائه، وعلى رأسهم رئيس وزراء مصر مصطفى النحاس باشا، وفتح الله بركات باشا، وأثناء وجوده في القاهرة أُجريت له عملية الزائدة الدودية ثم عاد إلى ممباسا بتاريخ 9 سبتمبر 1931.
أما زيارته الثالثة لمصر فقد كانت عام 1938، عندما قصدها بغرض تسجيل ابنه البكر "فريد" في مدرسة كلية فيكتوريا بالإسكندرية، وفي 11 يوليو 1938 اجتمع الهنائي مع رئيس الوزراء المصري مصطفى النحاس باشا، ومكرم عبيد باشا، ومجموعة أخرى من رفاقه على وجبة غداء في أحد مطاعم القاهرة الفاخرة يرافقه ابنه فريد، ثم أبحر بعدها بثلاثة أيام عائدًا إلى بلاده.
أستاذ مساعد بالجامعة الإسلامية بولاية مينيسوتا الأمريكية



