لا توجد مدينة إفريقية إلا وبها شارع باسمه.. والكثير من الأفارقة يعلقون صورته في منازلهم
"أبو إفريقيا".. لماذا أحب شعوب القارة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر؟!
د.صالح محروس محمد
في كتابه "فلسفة الثورة" أوضح الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أن السياسة المصرية الخارجية لها ثلاث دوائر، عربية وإفريقية وإسلامية، وكان ذلك محرك سياسته الخارجية.
ورغم أخطائه إلا أن لا أحد من معارضيه يختلف على أن فترة ذروة ازدهار العلاقات المصرية- الإفريقية كانت في زمنه، حيث أدرك أنه لا يمكن تجاهل القارة الإفريقية، فالقدر شاء أن تكون مصر إحدى دولها، وشاء أيضًا أن يكون بالقارة صراع مروع تسببت فيه أقلية بيضاء تتحكم في الملايين من السود الذين لا يمكن أن تكون مصر بمعزل عنهم، كما لا يمكن لها أن تكون بمعزل عن النيل الذي هو شريان الحياة، الذي ينبع من قلب القارة الإفريقية، ويربط مصر بالعديد من دول الجوار، خاصة السودان.
لقد ظل عبد الناصر يحلم بيوم يشهد فيه وجود معهدًا ضخمًا لإفريقيا في القاهرة، يسعى لكشف نواحي القارة أمام عيون المصريين، ويخلق في وعي الشباب المصري اهتماما مستنيرًا بالقارة السمراء، للمشاركة مع شعوبها على تخليصها من براثن الاستعمار وأعوانه، وكانت صرخة جمال عبد الناصر في القضاء على الاستعمار وأعوانه قد وجدت صداها في ظل ربوع إفريقيا، خاصة جنوب الصحراء.
لقد نجح الزعيم الراحل في المساهمة في حركة التحرر الإفريقي، وإذا كان عدد الدول المحررة قبل قيام ثورة 23 يوليو هو 4 دول فقط، فإنه بفضل الجهود المصرية أصبحت 30 دولة في عام 1963، شكلت نواة منظمة الوحدة الإفريقية التي اتخذت من أديس أبابا مقرًا لها.
وساعد جمال عبد الناصر جميع حركات التحرر الوطني، سواء في الجانب العربي أو الإفريقي، حيث ساهمت مصر في حركة التحرر الوطني في الصومال وكينينا وغانا والكونغو الديمقراطية، بل وساندت كل الدول التي طالبت بالاستقلال.
وعندما تأسست منظمة الوحدة الإفريقية في عام 1963 كان لعبد الناصر الدور الفعال في نجاحها، خاصة عندما أثيرت قضايا الحدود التي ورثتها دول القارة بعد الاستقلال، فقد كانت الحدود جائرة ولا تتفق مع طبيعة الشعوب والقبائل، وكان قد تم تخطيطها بشكل عشوائي في برلين عام 1885 دون مشاركة شعوب القارة التي رفضت ما ورثته، وكادت هذه المشكلة أن تعصف بكل الجهود الإفريقية إبان الاستقلال.
وقد نجح جمال عبد الناصر- أثناء انعقاد القمة الإفريقية الثانية بالقاهرة عام 1964- في حسم هذه المشكلة، والحصول على قرار يضمن الاستقرار ويمنع حدوث صراع دموي بين دول القارة، فحواه أن الحدود الموروثة هي حدود الدول المستقلة، وعلى الدول التي ترفض؛ قبول وساطة طرف ثالث أو التحكيم، وتم إغلاق هذا الملف الشائك.
ولقد تحقق حلم عبد الناصر عندما تحول معهد الدراسات السودانية، الذي تم إنشاؤه عام 1947، إلى معهد للدراسات الإفريقية بعد قيام ثورة 23 يوليو، وظل يمارس نشاطه في دراسة جغرافيا وتاريخ القارة حتى صار معهدًا متكاملًا يضم بالإضافة للتاريخ والجغرافيا، السياسة والاقتصاد واللغات والأنثروبولوجيا والموارد الطبيعية.
وشكلت أقسام المعهد الستة مركزًا للإشعاع الأكاديمي، يعالج مشاكل القارة من خلال الندوات والمؤتمرات وحلقات البحث والدراسة التي لم تترك مشكلة إلا وتعرضت لها بالدراسة والتحليل، فضلًا على منح درجات الدبلوم والماجستير والدكتوراه في كل فروع العلم، ولا يزال هذا المعهد يمثل لجنة عليا مثمرة بفضل جهود جمال عبد الناصر الذي أعطى للدائرة الإفريقية اهتمامًا خاصًا، كونها العمق الأصيل لمصر، وشريان حياتها، وأمل شعوبها، ولم يتوقف هذا الجهد حتى تحققت الحرية والمساواة على أرض إفريقيا، باستقلال جميع دولها، وانضمامها لمنظمة الوحدة الإفريقية والاتحاد الإفريقي الذي أصبح يمارس دوره الفعال في حل مشكلات القارة، وهو الحلم الذي عقد عليه عبد الناصر كل آماله.
لقد وقف الرئيس الراحل مع كل الدول التي كانت تناضل من أجل التحرر الوطني، وكان يشعر بمسؤولية خاصة تجاه الدول حديثة الاستقلال، وكان هدفه الأساسي مقاومة النشاط الاقتصادي الإسرائيلي في القارة السمراء، من خلال فتح مجالات التعاون الفني مع دولها، وإنشاء صندوق لتفعيل هذا التعاون من خلال تقديم المشورة والخبرة، وإرسال الخبراء في كافة الفروع للمساهمة في حل مشكلات القارة، مع تقديم القروض والمعونات، وكان إنشاء مدينة البعوث الإصلاحية والتوسع في استقدام أبناء القارة للدراسة بالأزهر الشريف خير دليل على إيمانه بأهمية القارة الإفريقية التي تعد العمق الاستراتيجي والحيوي لمصر العربية.
ولا توجد مدينة إفريقية إلا وبها شارع باسم جمال عبد الناصر، الذي حصل على لقب "أبو إفريقيا"، ويعلق الكثير من الأفارقة صورته في منازلهم.
يحكي الأديب الكبير الراحل بهاء طاهر، أنه حين كان موظفًا باليونسكو، قام ضمن وفد تابع للمنظمة الدولية بزيارة لدولة كينيا، وفي إحدى قراها شاهد صورة جمال عبد الناصر معلقة على الحائط بأحد الدكاكين الصغيرة بالقرية الكينية النائية.. فسأل صاحب الدكان عمن يكون صاحب الصورة، ولماذا لم يعلق صورة رئيس دولته، فأبدى الرجل اندهاشه من السؤال لأنه لم يكن يتوقع أن أحدًا في العالم لا يعرف جمال عبد الناصر.. ورد على بهاء طاهر قائلًا: إنه (أبو إفريقيا).. ولم يذكر الرجل اسم جمال عبد الناصر في إجابته.. فعاد بهاء طاهر ليسأله من جديد: لكن من هو أبو إفريقيا؟ فقال الرجل: وهل هناك غيره إنه جمال عبد الناصر.
وهناك العديد من الدول الإفريقية التي أقامت له التماثيل في أكبر ميادينها اعترافًا بفضله وفضل مصر في استقلالها وتحرير شعوبها، وتشهد مدينة جوهانسبرج بجنوب إفريقيا أحد أكبر هذه التماثيل وأضخمها، والذي أزاح عنه الستار نيلسون مانديلا بنفسه في حضور أبناء الزعيم المصري الراحل.
وحين زار نيلسون مانديلا مصر لأول مرة توجه من المطار مباشرة إلى قبر عبد الناصر، ووقف أمامه صامتًا لعدة دقائق، ثم قال لمرافقيه من المصريين إنه كان يتمنى أن يزور مصر في حياة عبد الناصر ليحظى بشرف استقباله ورؤيته.
ولقد تدهورت بشكل ملحوظ العلاقات المصرية- الإفريقية في عهد الرئيس الراحل حسنى مبارك، ولا بد أن تعود لسالف عهدها كما كانت أيام عبد الناصر، فإذا ازدهرت العلاقات المصرية- الإفريقية خاصة الاقتصادية، فالموارد البشرية المصرية قادرة على تنمية القارة السمراء الغنية بمواردها، والتي منها ينبع النيل الخالد، بما ينعكس بالخير على مصر وشعوب القارة السمراء.
- أستاذ مساعد بالجامعة الإسلامية بولاية مينيسوتا الأمريكية