عاجل
الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الفنون المصرية وحلول بايدن الدبلوماسية

السياسة الثقافية والتفاعل مع الإدارة الأمريكية الجديدة

الفنون المصرية وحلول بايدن الدبلوماسية

لا شك أن تنصيب بايدن رئيسًا للولايات المتحدة الامريكية لهو أمر يستوجب الاهتمام، خاصة ما جاء في خطابه الأول حول إعادة الروح الأمريكية وتوحيد الأمة، ومحاربة استعلاء العرق الأبيض والإرهاب المحلي، واهتمامه بالتأكيد على أن حلوله للمشاكل المطروحة في الداخل والخارج تعتمد على الحلول الدبلوماسية.



 

كما أن قراراته المشجعة برفع الحذر عن عدد من مواطني الدول الإسلامية من دخول الولايات المتحدة الأمريكية، وعودة أمريكا لمنظمة الصحة العالمية، وعودتها لاتفاقية المناخ، لهي أمور تدفعنا للاهتمام بالمقاربة الثقافية الدبلوماسية مع الإدارة الجديدة، خاصة مع عمق العلاقات المصرية- الأمريكية وبعدها الاستراتيجي التاريخي، ويصبح السؤال الهام هو سؤال عن سياساتنا في الفترة المقبلة من دروس الماضي القريب وأملًا في تفاعل حقيقي في الحاضر والمستقبل.

 

إنها مركز العولمة الملغزة، أمريكا التي يتعلق بها شعور ولا شعور العالم كله، تقديرًا وإعجابا أو حسدا ورفضا والحقيقة السياسية التي أصابها التقادم في الحديث عن العولمة والنظام العالمي الجديد أن أمريكا هي من تملك محور الاختيارات، وهي مركز التأثير الأول في العالم الغربي والمؤثرة في سياساته، وكذلك ربما تحتاج إلى قراءة معرفية ما بعيدا عن التحليلات السياسية الكثيفة، ولفهم العولمة ينبغي فهم أمريكا من مقترب ثقافي ربما يبدأ من فهم مدينة نيويورك، وهي مدينة تستحق التأمل وهي تفرض حضورها المعاصر عبر صبغة تاريخية بصفتها مركزا عالميا للمال وللفن والثقافة، وهما ثلاثية صناعة طرائق العيش والتفكير الإنساني وقد أصبحت نيويورك مركزا مدنيا حضاريا مع مطلع القرن العشرين حملت داخلها قيم حداثية وما بعد حداثية.

 

وأصبح لإيقاع المدينة جاذبية تعتمد على قيم العمل، وهي قادرة على أن تفتح الطريق أمام الطموح، وتلغي قيم العائلة والطبقة، وتتخلص من قيم المجتمع الزراعي الأبوية وتفتح الباب أمام الخصوصية الشخصية والحرية الفردية إلى أقصى مدى، وبالتالي يتيح فضاء للسعادة هو فضاء العلاقات الحضرية، لكنه مع كل أسف يؤسس لبؤس التمييز المالي بين الفقراء والأغنياء، وهي في قوتها الاقتصادية تملك إطارا ثقافيا تاريخيا يقدم ترويجا لأسلوب الحياة للمدن الكبرى وللمدينة الغربية المركزية نيويورك عبر ترويج السلع وصناعة أنماط للاستهلاك وطريقة لبناء المدن، آخرها المعازل الجماعية للأغنياء، والتي بدأت تظهر واضحة في العقد الأخير في القاهرة في شكل أحياء سكنية فارهة مغلقة في أطراف العاصمة، وهي تقدم نموذجا نقيا لطريقة الحياة الغربية ولنموذج الثقافة الأمريكية، وأطفال تلك المنتجعات السكنية هم أبناء المدارس الدولية التي تقدم تعليما خاصا يكاد يخلو من عوامل الهوية المصرية الأساسية وهؤلاء يتأسس ذوقهم الجمالي على عروض مثل سندريلا وغيرها تقدمها فرق أجنبية باللغة الإنجليزية وهي تكاد تكون عروضا مسرحية مغلقة.

 

وهكذا يحدث التأثير الثقافي التراكمي الذي تمارسه نيويورك الابنة الشابة للندن، التي تبدو بالمقارنة بها سيدة متثاقلة الخطى أمام فتاة شابة حية وجذابة، إنه التراكم التاريخي والتأثير الثقافي حول العالم، فالمركز الغربي يحتل العقول خارج أمريكا بشكل تراكمي، وذلك من خلال أطر العملية الثقافية التي يمر من خلالها التدفق العابر للقوميات بسهولة، ومن بينها الإطار الأبرز ألا وهو إطار السوق، الذي يمارس عبر الشركات الغربية والأمريكية متعددة الجنسيات استثمارا يحمل الطبيعة المؤسسية، وهو على الصعيد الاقتصادي أمر إيجابي يدعم الاقتصاد الوطني وحركة السوق، ولكنه لا يقدم جوهر وسر الصناعات المتعددة ويحرص على التجارية السلعية، أو إقامة المصانع التي لا تُقدم سر المهنة، مما يجعل العواصم المتعددة خارج أمريكا عبر تراكم تاريخي لا تجد فرصة حقيقية للاختيار.

 

بينما تصبح ثقافة الجماهير العامة مكبلة بطريقة حياة جديدة مختلفة يصعب تغييرها من المطاعم سريعة التجهيز حتى الأفلام الملونة، وطريقة ارتداء الملابس، ما يجعلنا في حاجة حقيقية لإدراك ضرورة الحفاظ على الثقافة الوطنية كأسلوب حياة، ولكن تبقى العلاقات المصرية الأمريكية بحكم معطيات التاريخ والواقع والظروف الإقليمية والدولية ضرورة، وإدراك أهميتها هو تعبير عن الحيوية السياسية المصرية، رغم كل الملاحظات الممكنة على السياسية الأمريكية إقليميا وعربيا، وفي هذا الإطار يمكن فهم التحولات التدريجية في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه مصر، رغم أن الكونجرس الأمريكي لا يزال منقسما في تقديره السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، وهل هي منظمة مدنية أم جماعة إرهابية، وهو الأمر الذي يحتاج لقدرات الخطاب الثقافي المصري الغائبة للجماهير الأمريكية ودوائر صناعة القرار ومنها الفعاليات الثقافية المختلفة وأبرزها العروض المسرحية المصورة التي تم الاصطلاح على تسميتها بالمسرح التليفزيوني، لكن ورغم أي ملاحظات يمكن القول أن الولايات المتحدة الأمريكية تبدأ مع مصر منذ 2015 مرحلة جديدة تتطور مع 2017 لتستعيد مسارا جديدا يمكن أن يماثل مسار تلك العلاقات ما بعد 1974، يتأسس على نظرة واقعية لقدرة مصر على تحقيق إرادة شعبها في رئيس منتخب لديه شعبية وقبول حقيقي رغم صعوبة مسار خارطة الطريق ما بعد 30 يونيو وصعوبة الظروف الاقتصادية الضاغطة، وقدرة مصر على مجابهة الإرهاب، وحفاظا على مصالح الشركات الأمريكية الكبيرة كثيرة العدد في مصر، وقدرة مصر على الحفاظ على استقرار دولتها وكيانها العربي والإفريقي والمتوسطي والإقليمي بشكل عام، وقدرتها على إدارة علاقات خارجية متعددة مع معظم القوى الكبرى المؤثرة في العالم، وحصول الحكم الحالي على شرعية شعبية دستورية في الداخل واعتراف وقبول عام في دوائر العالم المتعددة وخاصة ذات التأثير في القرار الدولي، وحرص مصر على استقلال القرار الوطني في علاقتها مع الولايات المتحدة التي تراها مصر استراتيجية، وكذلك تراها الولايات المتحدة الأمريكية التي تتغير في سياستها مع تغير الإدارة الأمريكية الجديدة لتمحو التوتر القريب، في إدراك أمريكي لتغير القوة وميزانها وانحياز الجماهير الكبيرة لدولة يناير/ يونيو الجديدة، لأن أمريكا أدركت أن مصالحها القادمة مع هذه القوة الحقيقية على أرض الواقع في مصر، والتي تمثل إرادة المصريين، وهذا هو المعنى والاعتراف الجوهري بخارطة الطريق المصرية ومؤسساتها، التي أصبحت قائمة في مصر، ولكن يبقى على الصعيد الشعبي ولدى الضمير الثقافي المصري هذا الجرح التاريخي في علاقتنا مع الولايات المتحدة الأمريكية ألا وهو الانحياز الواضح للكيان الصهيوني، واستمرار الوضع غير العادل في القضية الفلسطينية وهو الوضع الذي لا يفهمه على حقيقته جموع الأمريكيين الذين هم أصوات الناخبين، والذين لا يهتمون في معظمهم بالسياسة الخارجية الأمريكية وفى هذا يجب على المسرح المصري تأكيد هذا التعدد الثقافي ومخاطبة الخارج كي يرى وجهات نظر أخرى، أما الرؤية الثقافية العامة للعلاقات المصرية- الأمريكية، فربما عليها أن تتأمل التجارب التاريخية للحلفاء التاريخيين مع أمريكا فالعلاقات الاستراتيجية الأمريكية- اليابانية ذات التاريخ الطويل والتي أدت إلى وصف اليابان فيما بعد الحرب العالمية الثانية بالحديقة الخلفية لأمريكا، وبرغم إقرار السياسة اليابانية بأن التحالف الاستراتيجي مع أمريكا هو في مصلحة اليابان سياسيا واقتصاديا، إلا أن اليابان حافظت بطريقة منظمة وتاريخية على خصوصيتها الثقافية في المعابد والمطاعم والشوارع والمسارح والأزياء، رغم كونها في قلب التأثر بالمقدرة الفائقة لمراكز المال والأعمال في نيويورك إلا أن طوكيو بلا شك لا تزال تملك تلك الخصوصية الثقافية في بناء المدينة وطرزها، وفي سلوك اليابانيين شديد الحرص على ثقافتهم الشرقية الخاصة.

 

ويمكن في هذا الصدد تأمل اهتمامهم بمسرحهم التقليدي (النو والكابوكي)، وإهمالنا لفنوننا التمثيلية الشعبية كالمحبظين وخيال الظل، وأود أن أذكر المصريين بحجم التغيير الذي أحدثته كثافة الإعلانات المصورة منذ منتصف السبعينيات حتى منتصف التسعينيات في مصر على تغيير أولويات الأسرة المصرية، بل حتى قدرتها على تغيير نماذج الجمال من الفتاة السمراء ذات العيون السوداء للفتاة الشقراء ذات العدسات اللاصقة، وهي إحدى وسائل التفكير الغربي الأمريكي في صنع رغبات وعادات استهلاكية وسلوكية جديدة، وهذا التغيير الخادع يوحي وكأن صاحب الاقتصاد الذي لا يزال ناميا هو من حيث السلوك اليومي يبدو وكأنه جزء من العالم الأول.

وفي هذا المجال يمكن رصد عددا من العروض المسرحية التي قدمتها فرق شابة مدعومة من المراكز الأجنبية وتتوجه لجمهور نخبوي وتقدم نفسها وكأنها تخاطب جمهور المدن الغربية الكبرى، ولذلك فما أحوجنا في علاقتنا بعالم كوني جديد يعيش عولمة إجبارية لا اختيار فيها، لأن نتأمل التفكير الآسيوي العميق فيما عرف بمحلية العولمة (Glocalization) وعلاقتها بنظرية الثقافة ليكون ذلك التفكير هو مصدر رسم السياسة الثقافية في إنتاج المسرح المصري، وهي "عبارة تسويقية اتخذها اليابانيون منذ الثمانينيات، وقد جرى اقتراحها للتعبير عن عملية تكييف ما هو عالمي لمختلف الظروف المحلية، على أن كثيرًا من الدراسات ما زالت تميل إلى تصور عملية الإنتاج العالمي التي تتسم بالمشروعية في حد ذاتها فيما يتعلق بالثقافات المادية أو الإعلامية أو المهنية، مع تجاهل الظروف شديدة التنوع التي ترتبط باستقبال أو استهلاك هذه الثقافات، وما تتضمنه هذه العملية من معان"، (1) ولا شك أن السياق الياباني من حيث الاهتمام بالفنون التقليدية، والمهنية الإعلامية التي تنتقي أهم الكتاب حول العالم وقد كان واحدا من هؤلاء الكاتب المصري الكبير محمد حسنين هيكل، وتدريس التقاليد اليابانية في المدارس وغيرها من العلامات الواضحة، ولعل تيار العنف في السينما المصرية والهزل الصارخ في المسرح التليفزيوني وتأكيد حضور الجسد والدفع بالمساجلات الحوارية التي تشبه صراع الديكة على شاشات الفضائيات، هي ظواهر يدخل في بنيتها بطريقة أو بأخرى ما هو قادم من الخارج عبر العولمة المركزية الطابع،، ولهذا فمن الضروري والمنطقي النظر لأثرها الثقافي والعمل على تجهيز تفكير محلية العولمة، لإعادة إدماجها وتكييفها وفقًا لثقافتنا الوطنية، وذلك شأن ثابت لا علاقة له بالمتغيرات والممكنات السياسية، التي تأتي من فرصة كبيرة لمصر في أمريكا مصدرها استعادة مصر لقوتها وظروف إقليمية أخرى.

 

كما أن المتشددين في مصر والعالم العربي سواء من الماركسيين أو الإسلاميين التقليديين لا شك أنهم قد بات عليهم إدراك الدائرة المغلقة الذي يدور فيها العالم منذ بداية القرن العشرين من صراعات أيديولوجية ومذهبية، وسياسات معلنة تتحدث عن الحرية وحقوق الإنسان، بينما لا يمكن اعتماد العزلة كحل، لأنه سواء قبلنا أو رفضنا، البنية العالمية المعاصرة– العولمة– فهي حقيقة واقعة، ومركز هذه البنية هو نيويورك المدينة الأكثر تأثيرا في معظم العواصم المهمة في العالم الغربي.

وهكذا تصبح نظرية الثقافة والاهتمام بها وتحويلها لسياسات على أرض الواقع ضرورة للإبقاء على الدول والثقافات القومية، حفاظا عليها من الاندماج في الهوية اللاقومية في ظل تيار العولمة الجارف.

 

أما ما يزيد الأمر تعقيدا لدينا هو أن ما تم إنجازه في عالمنا العربي على صعيد التنمية الحقيقية لا على صعيد مظاهر الاندماج في العالم الأول ذات الطابع الوهمي يُعد قليلًا جدًا منذ فترات الاستقلال والتحرر الوطني مقارنة بتجربة اليابان على سبيل المثال ما يزيد أهمية الأخذ بنظرية إعادة تكييف الوافد في مصر والعالم العربي ضرورة وقيمة، خاصة في المسرح والفنون الجماهيرية.

 

إنه دور أهل الثقافة والفن والفكر للحفاظ على حركية وحيوية السياسة الخارجية المصرية، إنه دور مجتمعي بالتأكيد عليه أن يعرف ويحدد طريقة في التعامل مع واقع حادث حيث يقف وراء العولمة هناك البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والشركات المتعددة الجنسيات، ومنظمة التجارة العالمية، والدول الغنية السبع الصناعية إنها قوة بالغة التأثير ومركزها الولايات المتحدة الأمريكية.

إن واشنطن هي مركز الحكم ومقر البيت الأبيض، بينما نيويورك هي نموذج التنوع الكبير والمدينة العالمية ذات التأثير الفعال على المستوى الاقتصادي والثقافي، فالمسرح المصري متعدد الاهتمامات ضمانه المجتمعي وسنده المهم هو السياسات الثقافية القادرة على البقاء على مسافة توازن مع الأهداف السياسية والثوابت والقيم الوطنية، ومن مقترب ثقافي يمكنه تأمل الدور المستقبلي للمسرح والفنون الجماهيرية في مصر في إطار العولمة ورصد الظاهرة الأكثر خطورة في عالمنا المعاصر الآن ألا وهي الأداء الإرهابي كوسيلة لإعلان الذات، وفي تأثير واضح للعولمة وسفر السلع الثقافية والبشر والأفكار تحاول أوروبا الآن أن تسأل سؤال الهوية، وتعيد طرحه على مؤسساتها مع الهجمات الإرهابية التي ضربت بكل أسف عواصم الدول الأوروبية الكبرى. والتي استهدفت في تطور نوعي رموز الحضارة الأوروبية الحديثة اللوفر في باريس يوم الجمعة الموافق 3 فبراير 2017 ثم مبنى البرلمان البريطاني مؤخرًا في 22 مارس 2017، وبعيدًا عن القراءة السياسية للحدث يمكن تأمله من زاوية نقدية ثقافية محورها الرئيس هو استهداف الرموز الحضارية للمدن الكبرى “المتاحف، البرلمان”، واهتمام بابا الفاتيكان بمعالجة عميقة للحدث، وسؤال الاتحاد الأوروبي عن الأسباب الفكرية والاجتماعية والثقافية التي تقف خلف بنية هذه الظاهرة الإرهابية المتكررة.

 

ولذلك بدأ الساسة في أوروبا بتذكرة الأجيال الجديدة بويلات الحرب العالمية الأولى والثانية وهي واحدة من الأسباب الفكرية والنفسية والتاريخية المؤسسة لفكرة الاتحاد الأوروبي القائمة على قبول الجوار لا قتاله، وهي الفكرة التي هددت إنجلترا بخروجها من الاتحاد الذي بدأ يطرح على نفسه أسئلة استيعادية عن معنى الحضارة الأوروبية الغربية ولماذا يحدث هذا الاتحاد؟ البابا فرانسيس بابا الفاتيكان يذكر دول الاتحاد مؤخرًا بأن الاتحاد يجب أن يكون هدفه الإنسان لا المكاسب المادية، لدعم التعايش المجتمعي والتصدي للهجمات الشعبوية الأنانية مرة بدعوات الانفصال المتكررة داخل دول الاتحاد، ومرة أخرى بالتصعيد المتنامي ضد المسلمين في أوروبا استجابة لما اصطلح على تسميته (بالإسلاموفوبيا) ومرة ثالثة بالتمركز حول الذات القومية في مكافحة وباء كوفيد 19، مما يهدد سلامة المجتمعات الأوروبية وانسجامها الداخلي ومما يهدد أيضًا قيم المواطنة التي هي جوهر الديموقراطيات الغربية الحديثة وبالتالي فدعوة الفاتيكان للاهتمام بالإنسان كهدف للعمل الأوروبي المشترك هي دعوة فكرية تحذر من رد الفعل الشعبوي المقوض لفكرة الدول الأوروبية الحديثة، وفي تقديري تأتي أهمية إشارة البابا من زاوية فهمها فهمًا علمانيًا أكثر من تفسيرها الديني، لأن اجتهاده على ما فيه من مرجعية مسيحية عالمية، هو اجتهاد يحافظ على قيمة وجوهر العلمانية المؤسسة للحداثة الأوروبية، والتي تفصل الدين عن الدولة، للحفاظ عليهما معًا، بل يتوجه للتنوير بين السياسة وقادة الرأي والمال والأعمال في الاتحاد الأوروبي الذين يعاني بعضهم الجمود المقدس (للعلمانية الخالية من الدين) لنصبح أمام اهتمام سياسي فكري أوروبي يضع هذا التصور العلماني المستنير المؤمن بتعدد الاعتقاد في صدارة السؤال الأوروبي عن ذاته وهويته ومعنى وجوده وكيفيته استمراره، وهو تصور فكرى يؤمن بالحاجة للإيمان كجوهر لجدوى الوجود البشري بقدر حاجة أوروبا إلى أدوات علمية تسهم في البقاء والتطور.

 

أما ما يحدث الآن من الأجيال الجديدة في أوروبا والتي لم تعرف ويلات الحرب العالمية الأولى والثانية، والتي يجتذبها لأسباب البطالة وقسوة النظام الرأسمالي في الأحياء المحرومة بالمدن الكبرى وغياب قيم العائلة في نظام الحياة اليومية الحديثة وما بعد الحديثة في تلك المدن، واستهواء الأدوار البطولية الإنسانية لشباب يبحث لحياته عن دور استثنائي أكبر من البقاء في خدمة مطاعم الوجبات السريعة، ولمقدرة الشبكة المعلوماتية على إتاحة فرص للتواصل الفعال اليومي بين أفراد في أوروبا وأمريكا وأفراد من كافة أنحاء العالم الغني والفقير وما إلى ذلك من مظاهر عولمية معاصرة، بالإضافة لإساءة الاستخدام للإسلام السياسي من قبل عدد من أجهزة العمل السياسي السري الغربية، وبقايا جيوبها التي صنعتها لتغيير شكل العالم من أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي، إلى غزة لتقسيم الصف الفلسطيني إلى سيناء التي لن تنهزم في معركة الإرهاب، ومظاهر التفتيت والمجموعات المنفلتة والمجموعات خارج السيطرة في العراق وليبيا وسوريا، ثم الذئاب المنفردة في أوروبا.

 

ولذلك فالمقترب الثقافي لمعالجة تلك الأزمة الجنونية التي أصابت عالمنا المعاصر ضرورة، وأول تلك الضرورات إدراك ذلك المعنى العميق عن جوهر الحضارة الأوروبية الغائب وثقافة العولمة المسيطرة ذات الطابع الأمريكي الواحد، ألا وهو الإنسان الذي عانى ضغوطا من ثقافة النظام العالمي الجديد الذي تأسس على الإمبريالية والاختراق المتزامن لعدد من الثقافات التابعة. ولكن وبتحليل ثقافي لتكوين المدينة، يمكن فهم لماذا هي مهيأة لمثل تلك الاختراقات الإرهابية، فبعيدًا عن النظام الاستعماري التقليدي، وفي قلب أوروبا نفسها كان تطور المدن، ولندن في القلب منها يتميز بتفاوت شديد، سواء داخل المدينة العاصمة أو داخل الدولة ككل، حيث كان التطور نحو القرن الحادي والعشرين يتميز بهذا التمييز الواضح بين العواصم والأقاليم على الصعيدين الاجتماعي والثقافي، وفي التطور غير المتوازن في الصناعة والزراعة أو في الاقتصاد المالي وأنماط السوق، مما أدى إلى وجود تفاوت بين العواصم الأوروبية الكبرى وأقاليمها، بل وظهرت فوارق واضحة بين بعض دول الاتحاد الأوروبي وبعضها الآخر، مما أدى إلى نزوع هرمي لا من حيث القوة العسكرية كما في القديم، بل من حيث التطور المعرفي والسياسي، ويضاف إلى ذلك الفضاء شديد الانفتاح للحريات الشخصية ولحرية التعبير الذي يتناقص مع استمرار الأنماط الاجتماعية الأقل تطورًا في الأقاليم والدول الأقل مقدرة اقتصاديًا واجتماعيًا، مما يسمح بالبيئة الممكنة للمحاكاة الثقافية والتفاعل الثقافي السلبي عبر التوحد بالأقوى أو خلق الجزر الثقافية المنعزلة تماما عن العالم المعاصر، فالتناقض بين العالم الأول والثالث وقيمهما الاقتصادية والسياسية هو سبب هذا التوتر العنيف في العالم العربي بين قيم الحداثة وما قبلها، بين مدن كبيرة وأطرافها المحرومة، وهكذا رحلت الثقافات الفرعية التي تم إدماجها قسرًا، أو جرت محاولات تغييرها عبر الحداثة الإمبريالية في عالم عربي كان قبل الاستعمار الغربي عالمًا تقليديًا، إلى المركز الأوروبي فقد انتقلت من الأطراف/ المستعمرات القديمة، إلى المركز الأول من عالم لا يزال ثالثًا رغم كل ميراثه الحضاري القديم، إنها التفاعلات الثقافية والفكرية لمدن متعددة عرقيًا وثقافيًا، ولذلك فلا بد أن يعاني المركز مشكلات الأطراف لأنه متصل ومشتبك معها بشكل تاريخي، خاصة في عالم أصبح السفر بالأفكار فيه شديد السهولة واليسر بمجرد إدراك كيفية استخدام الشبكة العنكبوتية، ولذلك يهرب البشر من جنوب المتوسط للشاطئ الآخر، ولذلك يأتي جنود الشاطئ الأوروبي إلينا للمساهمة في القضاء على الإرهاب في المستعمرات القديمة، إنها دائرة إقليمية تاريخية محكومة بعلاقات تاريخية، وفى هذا الصدد وبالعودة لمقتربنا المعرفي المستهدف البحث عن تصور لدور المسرح المصري والفنون الجماهيرية في ضوء ثقافة العالم الواحد، فمن الضروري فهم كيف يفكر مركز العولمة في صناعة تصوراته ومقتربات تعامله مع العالم، ولذلك يجب أن نتذكر بأن الأنثروبولوجيا الثقافية هي أحد أهم عناصر قوة الولايات المتحدة الأمريكية في مقتربها التاريخي في التعامل مع العالم كله، بل إن سر قوة الولايات المتحدة الأمريكية يكمن في اجتذابها لأجناس وأعراق من جميع أنحاء العالم، خاصة المتفردين من كل بقاع الدنيا الذين اجتذبهم الحلم الأمريكي، إذ أثبتت سياسة أمريكا أولًا والتي جاء بايدن ليلغيها، إنها بيئة حاضنة لظهور اليمين المتطرف والنزوع الحاد نحو الاستعلاء بالعرق الأبيض، في تجاهل تاريخي لفكرة التنوع التي تأسست عليها الولايات المتحدة الأمريكية، ضمن سياق سياسات وخطط طويلة الأمد ذات بعد تاريخي ومعاصر ومستقبلي، هذا ومحاولة فهم السمات الثقافية للشخصية الأمريكية تساعد بالتأكيد على الوعي بأن العزلة مسألة مستحيلة والتخلي عن الاتصال الفاعل بالعالم الخارجي، والحفاظ على الأدوار الأمريكية فيه هو بمثابة تفكيك الولايات المتحدة الأمريكية وعزلها عن الدنيا، ذلك أن (السمة العالمية) من الثوابت والسمات الأساسية للولايات المتحدة الأمريكية، رغم أنها أصبحت تنتج تقريبًا حوالي عشرين بالمئة فقط من الناتج الاقتصادي العالمي نظرا لوجود مراكز اقتصادية كبرى جديدة تحميها قدرات نووية كبرى أيضا، فلا فكاك إذن من التفكير والتصرف على أن العالم قرية صغيرة وفقا للمفاهيم الثقافية والسمات الثقافية المادية وغير المادية، وهي في هذا الإطار لا تتحرك مستهدفة القوة العسكرية والاقتصادية فقط بل تستهدف القوة المعلوماتية والمعرفية، وتهتم بجذب كل الكفاءات والعبقريات المشردة في العالم الثالث، وتصنع لنفسها مندوبين في كل أنحاء العالم في الحقلين الثقافي والإعلامي، لأنها تود في المستهدف النهائي أن تكون بتعبير الأنثروبولوجيا الثقافية منطقة ثقافية أو دائرة ثقافية ذات تأثير كبير، حتى في المناطق التي هي حضارات كبرى في كل بقاع الأرض قبل ميلاد الولايات المتحدة الأمريكية بقرون إنسانية طويلة، وفي هذا السعي "تعد الأنثروبولوجيا الثقافية التراث المسيطر في الأنثروبولوجيا في الولايات المتحدة الأمريكية حيث تشمل كل من الأثنوجرافيا أو دراسة وتسجيل ثقافات معينة والتحليل المقارن والتاريخي للثقافات.

 

ولمصطلح الأنثروبولوجيا الثقافية، معنيان: معنى واسع وآخر محدود، فهي بالمعنى الواسع تتضمن علم آثار ما قبل التاريخ، وعلم اللغة: الأنثروبولوجي، بالإضافة إلى الدراسة المقارنة للثقافات والمجتمعات الإنسانية فقط.

 

ويعرف هذا المجال في الأنثروبولوجيا الاجتماعية طبقا للاهتمام البريطاني التقليدي بالبناء الاجتماعي الذي يقابل الاهتمام الأمريكي بمفهوم الثقافة" (2) ولذلك فالثقافة منطقة القوة المعرفية الأولى في الدراسات الإنسانية الأمريكية، وهي مقتربها الرئيس في التعامل مع بقاع الدنيا كلها خصاما وتحالفا وحربا وسلما، هكذا تفهم أمريكا العالم وهكذا وبحديث صريح لا يبتعد عن الواقع الحقيقي تدار العولمة والنظام العالمي الجديد، وهي تعرف العالم عن قرب، فكل العالم يمكن مشاهدته عن طريق الأقمار الصناعية، وتطبيقات جوجل في نظام تحديد المواقع حول الكرة الأرضية، ولذلك فهي القوة الثقافية التي يمكن اعتبارها المنطقة الثقافية الرئيسية في النظام العولمي الجديد، ولذلك فكي تفهم أمريكا فيجب دراستها من منظور الأنثروبولوجيا الثقافية، بعيدا عن رصد الطقوس البدائية والديانات القديمة والأساطير التي كانت تحكمها وتحكم العالم، وفي هذا الصدد يجب رصد الحركة الأدائية التي تحدث في المجتمع الصور، المسرح، السينما، الأنواع الموسيقية.

أبرز طرق تناول الطعام وأنواعه والأزياء وملامحها وتخطيط المدن وملامح التجمعات السكنية، طرق التسلية والترفيه وما إلى ذلك من عناصر مهمة لسلوك البشر وانفعاله وتفكيره ورود أفعاله واهتماماته، وهو أداء يحمل طابع المسرحة والتمثيل والاحتفال وارتداء الأقنعة في الأداء اليومي بعيدا عن السينما والمسرح، حيث إن الصور تكاد تختلط بين الواقع الحقيقي والواقع الافتراضي، حيث يقوم رجال المارينز في شرائط السينما الملونة بالتصدي للأشرار البدائيين حتى يأخذوا بيدهم نحو الديمقراطية والحداثة، في صور تريد ترسيخ الاعتقاد بالبطل الأمريكي المقاتل من أجل تغيير العالم، وتغيير العالم لن يتم إلا بتغيير ثقافة المجتمعات المغايرة للثقافة الأمريكية، هنا سيصبح العالم متشابها، يسهل إدارته لصالح كبرى الشركات متعددة الجنسيات لتصبح الذائقة الفنية موحدة تدور حول أفلام هوليوود ومسارح برادواي، ولذلك فيمكن للذاكرة أن تستعيد تلك الغارة الأمريكية الأخيرة على قاعدة الشعيرات العسكرية في السابع من إبريل 2017، على سبيل الأداء السينمائي الذي يستهدف إمكانية الوجود الإعلامي في عصر الصور اللانهائية ويخلط بين تلك الصورة وصور الأفلام السينمائية ولذلك هي صور ثقافية للاستهلاك الإعلامي الرأسمالي.

 

كما أنها توحي بأننا أمام إدارة جديدة لا يمكن توقع ردود أفعالها بسهولة، وهي طريقة تجارية تستهدف الأرباح حتى لو كانت معنوية، وفى هذا يتم استخدام المراكز الثقافية النشطة والمنح الدراسية القصيرة والطويلة، ترسيخ الإيمان لدى عدد كبير من الجماهير والنخب في مناطق النزاع بالعبقرية والقوة الأمريكية مما يؤدى إلى ضرورة غائبة تستهدف تحويل التراث الحضاري القديم والنضال من أجل منظمة الأمم المتحدة والشرعية الدولية وحقوق الإنسان، وعالما أكثر أمنا وسلاما، والقيم الأخلاقية والمسؤولية الأخلاقية للقوة، وأنواع كثيرة من الفنون والإنتاج الثقافي والإبداعي إلى برامج استيعادية افتراضية، في عصر يمكن له استرجاع الثقافة عبر التقنية، ولدينا ولدى أمم تاريخية فرص للعمل على تفكيك هذا الإنتاج الثقافي الهرمي في مركز العولمة إلى إنتاج أكثر معاصرة، يصلح للتفاعل الثقافي مع الشعب الأمريكي وكل شعوب الدنيا لاسترجاع الثقافة الإنسانية المؤمنة بالحياة منذ العقل المصري القديم مرورا بالعقل اليوناني والعقل الآسيوي المختلف الملهم الذي يحمل رؤية كلية للوجود لا تعرف التفتيت، وذلك من أجل تفاعل ثقافي إنساني حقيقي ينتقل من الوحدة إلى التعددية ومن الثقافة الواحدة إلى تعدد الثقافات، وهذا هو التصور الذي يمكن وضعه كهدف أساسي للسياسات الثقافية المسرحية وغيرها من أنواع الفنون الذي لا يخلق الجزر المنعزلة، ولا الكيانات العدائية، وذلك لا يقتصر على عالم الإبداع والثقافة فقط بمعناها المباشر، بل يمكن السعي في هذا الإطار مع حركات السلام والحركات البيئية والحركات النسوية، والمنظمات المهتمة بالطفولة واللاجئين، ومؤسسات المجتمع المدني وما إلى ذلك لتقديم العروض المسرحية الحية والمصورة معا، كما يمكن مرحليا وكهدف مستقبلي أن تلعب الثقافة المصرية والفنون في القلب منها دورا إنسانيا وسياسيا في عصر لم تعد فيه القمم الثقافية الكبرى موجودة أو مؤثرة، بل تنتشر الثقافة بالتدفق الكمي وبالمزج مع التقنية الحديثة، وهي ليست مكلفة اقتصاديا وإن كان لها أثر بالغ في صناعة الصور الذهنية للأوطان وللجماعات البشرية، في عالم تختلط فيه الصور السياسية بالصور الثقافية بالتجارية فهل لنا من تصور مصري عربي جامع يستطيع أن يصدر الرسائل المهمة، لاستعادة الحضارات العربية الممزقة ولاستعادة التجانس المجتمعي، ولإفهام شعوب العالم الغربي،- وهم الناخبون وراء مجيء حكومتهم- أن العالم متعدد الثقافات وجعله عالما متشابها لحد التطابق هو إهدار للثراء البشري، لأن الثقافة الواحدة التي لا ترى إلا صورتها في المرآة، وتريد العالم كله على شاكلتها هي بلا شك بوابة الدخول نحو العدم والفناء، وهكذا يمكن أن ندعم تعدد الثقافات وتنوعها كشرط مهم لحيوية المسرح والثقافة المصرية.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز